Monday 24th January,200511806العددالأثنين 14 ,ذو الحجة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

من معاني العيدمن معاني العيد
محمد بن إبراهيم الحمد(*)/ الزلفي

العيد مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حِكَم عظيمة، ومعانٍ جليلة، وأسرار بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها.
* فالعيد في معناه الديني: شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلجُ في سرائره رضاً واطمئناناً، وتنبلج في علانيته فرحاً وابتهاجاً، وتُسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة.
* والعيد في معناه الإنساني: يومٌ تلتقي فيه قوة الغنيِّ، وضعفُ الفقير على محبة ورحمة وعدالة من وحي السماء، عنوانها الزكاة والإحسان، والتوسعة.
يتجلى العيد على الغني المُترف: فينسى تعلقه بالمال، وينزل من عليائه متواضعاً للحق وللخلق، ويذكر أن كل من حوله إخوانه وأعوانه، فيمحو إساءة عامٍ، بإحسان يوم.
* ويتجلى العيد على الفقير المُتْرَب: فيطرح همومه، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامه، وينسى مكارهَ العام ومتاعِبَه، وتمحو بشاشة العيد آثار الحقد والتبرّم من نفسه، وتنهزم لديه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء.
والعيد في معناه النفسي: حدٌ فاصلٌ بين تقييدٍ تخضع له النفس، وتسكن إليه الجوارح، وبين انطلاقٍ تنفتح له اللهوات، وتتنبه له الشهوات.
والعيد في معناه الزمني: قطعةٌ من الزمن خُصِّصت لنسيان الهموم واطِّراح الكُلف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة.
والعيد في معناه الاجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، ويوم الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب، ودواعي القرب، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض.
وفي هذا كله: تجديد للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، والإخاء.
وفيه أروع ما يضفي على القلوب من الأنس، وعلى النفوس من البهجة، وعلى الأجسام من الراحة.
وفيه من المغزى الاجتماعي - أيضاً - تذكيرٌ لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين، حتى تشمل الفرحةُ بالعيد كل بيتٍ، وتعم النعمة كل أسرة.
وإلى هذا المعنى الاجتماعي: يرمز تشريع صدقة الفطر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى، فإن في تقديم ذلك قبل العيد، أو في أيامه إطلاقاً للأيدي الخيرة في مجال الخير، فلا تشرق شمس العيد إلا والبسمة تعلو كل شفاه، والبهجة تغمر كل قلب.
* في العيد: يستروح الأشقياء ريح السعادة، ويتنفس المختنقون في جوٍّ من السعة، وفيه يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعم الواجدون بأطايبه.
* في العيد: تسلس النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وتهشُّ النفوس الكزة إلى الإحسان.
* في العيد أحكام تقمع الهوى، من ورائها حكمٌ تُغذي العقل، ومن تحتها أسرارٌ تُصفِّي النفس، ومن بين يديها ذكرياتٌ تثمر التأسِّي في الحق والخير، وفي طيِّها عبِرٌ تجلي الحقائق، وموازينُ تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر، ومقاصد سديدةٌ في حفظ الوحدة، وإصلاح الشأن، ودروسٌ تطبيقية عالية في التضحية، والإيثار، والحبة.
* في العيد: تظهر فضيلة الإخلاص مُستَعْلنَةً للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
* في العيد: تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي.
* في العيد: تنطلق السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها.
* العيد في الإسلام: سكينةٌ ووقارٌ، وتعظيمٌ للواحد القهار، وبعد عن أسباب الهلكة ودخول النار.
والعيد مع ذلك كله: ميدان استباق إلى الخيرات، ومجال منافسة في المكرمات.
ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كل واحد من عيدية العظيمين، بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحها الهابَّة بالخير، والإحسان، والبر، والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية، التي لا تكون الأمة صالحةً للوجود، نافعةً في الوجود - إلا بها.
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان، الذي جاء عيدُ الفطر مِسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحجُّ، الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الُموعي لمعظم أحكامه.
فهذا الربط الإلهي بين العيدين، وبين هاتين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وكاشفٌ عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن، بل حتى ما ندب إليه الدين فيهما من أمور ظاهرها أنها دنيوية كالتجمّل، والتحلِّي، والتطيب، والتوسعة على العيال، وإِلطاف الضيوف، والمرح، واختيار المناعم والأطايب، واللهو مما لا يخرج إلى حد السرف، والتغالي، والتفاخر المذموم، فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسنت النية، فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية، وأريد بها تحقُّق حكمة الله، أو شكر نعمته - انقلبت قربات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( حتى اللقمة تضعها في في امرأتك).
كلا طرفي العيد: في معناه الإسلامي جمال، وجلال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح ، وهجر للهموم واطِّراح، وكأنه شباب وخَطَتْهُ النُّضرة، أو غصن عاوده الربيع، فوخزته الخُضرة.
وليس السر في العيد: يومه الذي يبتدئ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السر فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وأفضال، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال، فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد لا اليوم نفسه.
هذه بعض معاني العيد: كما نفهمها من الإسلام، وكما يحققها المسلمون الصادقون، فأين نحن اليوم من هذه الأعياد؟ وأين هذه الأعياد منا؟ وما نصيبنا من هذه المعاني؟ وأين آثار العبادة من آثار العادة في أعيادنا؟
إن مما يؤسف عليه أن بعض المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تجهم الأحداث، وبالبسر مع شدة الأحوال، فأصبح بعض المسلمين - وإن شئت فقل: كثير منهم - يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحس بليدة، وشعور بارد، وأسرة عابسة، حتى لكأن العيد عملية تجارية تتبع الخصب والجد، وتتأثر بالعسر واليسر، والنفاق والكساد، لا صيغة روحية تؤثر ولا تتأثر.
ولئن كان من حق العيد أن نبهج به ونفرح، وكان من حقنا أن نتبادل به التهاني، ونطرح الهموم ونتهادى البشائر - فإن حقوق اخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونعنى بقضاياهم ونهتم، فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في اليد متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى ليخفق فيه كل قلب بالحب، والبر، والرحمة، ويذكر فيه أبناؤه مصائب اخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات.
ولا يراد من ذلك تَذْراف الدموع، وليس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه أيضاً أن يعتكف الإنسان المرزوء بفقد حبيب أو قريب، ولا أن يمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم.
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادنا بمظهر الأمة الواعية التي تلزم الاعتدال في سرائها وضرائها، فلا يحوَّل احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريق من أبنائها، ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وانفاقنا لنوفر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي.
ويراد من ذلك أيضاً أن نشعر بالاخاء قوياً في أيام العيد، فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات اخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم، ويشحذ الهمم، ويبسط الأيدي بالبذل، ويطلق الألسنة بالدعاء فهذا هو الحزن المجدي، الذي يترجم إلى عمل واقعي.
* أيها المسلم المستبشر بالعيد، لا شك أنك تستعد أو قد استعددت للعيد أباً كنت، أو أماً، أو شاباً، أو فتاة، ولا ريب أنك قد أخذت أهبتك لكل ما يستلزمه العيد من لباس، وطعام ونحوه، فأضف إلى ذلك استعداداً تنال به شكوراً وتزداد به صحيفتك نوراً، استعدادا هو أكرم عند الله، وأجدر في نظر الاخوة والمروءة.
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء والمعدمين، من جيران، أو أقربين أو نحوهم، فتش عن هؤلاء وسل عن حاجاتهم، وبادر في ادخال السرور إلى قلوبهم.
وإن لم يُسعدك المال فلا أقل من أن يسعدك المقال بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، والخفقة الطاهرة.
* وتذكر صبيحة العيد، وأنت تقبل على والديك، وتأنس بزوجك واخوانك وأولادك، وأحبابك، وأقربائك، فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ، والشراب الطيب، تذكر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنان الأب، وأيامى قد فقدن ابتسامة الزوج، وآباء وأمهات حرموا أولادهم، وجموعاً كاثرة من اخوانك شردهم الطغيان، ومزقهم كل ممزق، فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع، ويكتوون بالنار، ويفقدون طعم الراحة والاستقرار.
* وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل، ومنزلك الواسع، وفراشك الوثير تذكر اخواناً لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، ويتضورون في العراء.
* واستحضر انك حين تأسو جراحهم، وتسعى لسد حاجتهم انك إنما تسد حاجتك، وتأسو جراحك {والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، و{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ}، و{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}، و(ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، و(من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) و(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وإليك أيها القارئ الكريم! هذه الكلمات حول العيد وقد رقمتها يراعة الإمام الأديب الشيخ محمد البشير الإبراهيم - يرحمه الله.
وهذه الكلمات مبثوثة في صفحات متفرقة، وأجزاء مختلفة من كتاب (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) وقد أحببت أن يقف القارئ على تلك الكلمات، لما فيها من الحديث عن العيد، ومعانيه، وعن حال الأمة الإسلامية في العيد ومع العيد حتى لكأنه يتحدث عن حال المسلمين اليوم، مع أنه قد كتب تلك المقاولات منذ ما يزيد على خمسين عاماً.
وسيلاحظ القارئ في هذه الكلمات روعة البيان، والغيرة الصادقة، والسبر، والتحليل والمتابعة الدقيقة، والنظرة الفاحصة لأحوال المسلمين، والأسى العميق الذي كان يعتلج في قلب الكاتب، بسبب ما آلت إليه أحوال المسلمين، فما قاله - رحمه الله - في عيد الأضحى: (إن تفاخرت الأيام ذوات الشِّيات والمياسم، والمواكب والمواسم، فيومك الأغر المشهر، وإن أتت الأيام بمن لهم فيها ذكر الرجال، وبمن شرفها بنسبة من الأبطال جئت بإبراهيم، وإبراهيم آدم النبوة بعد آدم البُنوة، وبإسماعيل سامِك البنية القوراء(1)، وعامر الحنية القفراء(2)، رمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيب من النجيبات والنجباء.
وبمحمدٍ لبنة التمام، ومسك الختام، ورسول السلام وكفى، وإن جاءت الأيام بما أُثر فيها من رموز، ونثر فيها من كنوز جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة، وجئت بالهدي يتعادى، والبدن تتعادى، وجئت بالفدية والكفارة، والتجرد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموز طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك، ووكل لتصاريف الأيام شرحها، وقد شرحت، وأوضحت، وأين من يعقل؟ أو أين من يعي؟ يا عيد! بأية حال عدت؟ وهذه فلسطين التي عظمت حرماتك ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، وتأرج ثراها بالأثر العاطر من إسراء محمد، وتضمخ بدماء الشهداء من أصحابه، واطمأنت من أول يوم قلوب أبنائها بهدي القرآن، وجنوبهم بعدل عمر - تُسامُ الدون، وتقاسي عذاب الهون، قد اجتمع على اهتضامها عتو الأقوياء، وكيد الضعفاء، يريدون أن يمحوا معالمك منها، ويحسروا ظلال الإسلام عنها، طرقت حماها غارة شعواء من الشهوات والأهواء، يحميها الحديد، وينافح عنها الذهب، وغمرتها قطعان من ذؤبان البشر، وشراذم من عباد المال، يريدون أن يحققوا فيها حلماً غلطوا في تفسيره، وأن ينصبوا فيها مسيحاً دجالاً، بعد أن كذَّبوا المسيح الصادق، وأن ينتقموا من المسلمين، بعد أن عجزوا من الانتقام من بابل ويونان، وفارس، والرومان، وروسيا والألمان، وإيطاليا والأسبان، وأن يرثوها بدون استحقاق، ويجعلوا من بني إسماعيل خولا(3) لبني إسحاق(4).
ثم انتقل - رحمه الله - إلى الحديث عن مواقع أخرى من العالم الإسلامي، فقال: (وهذا الشمال(5) قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال في سموم من الاستعمار وحميم، وظل من يحموم، لا بادر ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقهم، ووهَّن عزائمهم، وفرق بين أجزائهم، لئلا يجتمعوا وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم، لئلا يذَّكروا، وضرب بينهم وبين العلم بسور له باب، ومكَّن فيهم الضعف والانحلال، بما زيَّن لهم من سوء الأعمال، وبما غزا به نفوسهم وعواطفهم من أفكار ومغريات، وهذه تركيا ذات السلف الصالح في رفع منارك(6)، وإقامة شعارك - واقفة على صراط أدق من السيف، واقعة بين دب عارم يترقب الفرصة لازدرادها، وبين محتالٍ بارع يمد الشباك لاصطيادها، ويطوي في العمل لتحريرها نية استعبادها، ويداويها من المرض الأحمر بالداء الأصفر.
وهذا الهند الإسلامي، لا يكاد يظفر بالأمنية التي سلخ في انتظارها القرون، وبذل في تحصيلها الجهود، ليستعيد تراث الإسلام الذي اثَّله المهلب، والثقفي(7) حتى تعالجه الدسائس، والفتن، حتى ليوشك أن يرجع إلى العبودية طائعاً مختاراً، فيسجل على نفسه عار الدهر وخزي الأبد(8).
إلى أن قال رحمه الله متحدثا عن تلاعب مجلس الأمن، وهيئة الأمم، والمصير الذي ينتظر العالم في ظل الهيمنة الغربية: (وهذا العالم كله مُسير إلى غاية مشؤومة، متوقع لضربة قاضية تنسي الماضية، وهو يستنزل الغيث من غير مصبه، ويستروح ريح الرحمة من غير مهبِّة، ويتعلل بالعلالات الواهية من جمعية لم تجمع متفرقا من هوى، ولم تزجر عاديا من عدوان إلى مجلس أمن لم يؤمن خائفا، ولم ينصر مظلوما، وإنما هو كرة بين لاعبين: أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخر يستغوي بالمال، وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفكر بقوة الذهب)(9).
ثم يختم رحمه الله كلمته متحدثاً على لسان العيد فيقول: (أما والله لم ملكت النطق يا عيد لأقسمت بالله، ولقلت لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفتم من ربكم المواعيد، ولكنكم أخلفتهم، وأسلفتم الشر، فجزيتم بما أسلفتم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور:55).
فلو أنكم آمنتم حق الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم، وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله، ولكن ظلمتم أنفسكم.
أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء، إن مادة: دعا يدعو لا تنسخ مادة: عدا يعدو، وإنما ينسخها أعدَّ يُعِدُّ، واستعدَّ يستعدُّ، فأعدوا، واستعدوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم)(10).
وقال رحمه الله في موضع آخر في مقالة بعنوان: (من وحي العيد عيد).
(يا عيد كنا نلتقي فيك على مُلك اتطدت أركانه، وعلى عزة تمكنت أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والترف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جد لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يلم النصب براحته، فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنسانا هما التعود فعلى اللهو والمجون)(11).
إلى أن قال: (يا عيد إن لقيناك اليوم بالاكتئاب، فتلك نتيجة الاكتساب، ولا والله ما كانت الأزمنة، ولا الأمكنة يوما ما جمالاً لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يجملونها ويكملونها، وأنت يا عيد ما كنت في يوم جمالاً لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا حتى نتهمك اليوم بالاستحالة، والدمامة، والتصوح.
وإنما نحن كنا جمالاً فيك، وحلية لِبُكرِك واصائلك، فحال الصبغ، وحلم الدبغ، واقعشر الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك، فانظر أينا زايل وصفه، وعكس طباعه؟ بلى إنك لم تزل كما كنت، وما تخونت ولا خنت - وتوحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتلهم الجلال ولكنك لا تفرضه.
ولكننا نُكبنا عن صراط الفطرة، وهدي الدين، فأصبحنا فيك كالضمير المعذب في النفس النافرة) (12).
بارك الله للمسلمين في عيدهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
*****
(1) البنية القوارء: الكعبة.
(2) الحنية القفراء: مكة.
(3) خولاً: يعني خدماً وعبيداً.
(4) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيم (3-468).
(5) يعني شمال إفريقيا.
(6) الضمير في منارك يعود على العيد، لأن الحديث في سياقه.
(7) يعني: المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم الثقفي.
(8) آثار الإمام (3-469).
(9) آثار الإمام (3-470).
(10) آثار الإمام (3-470).
(11) آثار الإمام (3-481).
(12) آثار الإمام 3-481 وانظر كلاماً عظيماً في هذا المعنى في (3-462 - 463 و3-467 - 470 و3-479 و4-291 - 295).

(*) عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم - كلية الشريعة وأصول الدين - قسم العقيدة، المشرف العام على موقع دعوة الإسلام.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved