إن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية وأوسطها، وآخرها. والحديث ههنا سيكون حول مشهد التوبة في الحج، فالحديث عن التوبة جميل في كل وقت، فكيف إذا كان الحديث عنها في مثل هذه الأيام المباركة التي يتوب فيها الغاوون، ويُقْصِرُ المتمادون، ويكثر التائبون العائدون؟. فما أجمل بالحاج بعد أن قام بأعمال الحج، وختمها بالذكر والاستغفار أن يطبع عليها بطابع التوبة النصوح. أيها الحاج الكريم: لقد فتح الله بمنه وكرمه باب التوبة، حيث أمر بها، ووعد بقبولها مهما عظمت الذنوب، قال الله - تبارك وتعالى: {وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحفر لتعذيب المؤمنين، وتحريقهم بالنار: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}. قال الحسن- رحمه الله-: (انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة). بل إنه - عز وجل - حذر من القنوط من رحمته، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل).أما فضائل التوبة، وأسرارها وبركاتها فمتعددة متنوعة متشعبة، فالتوبة سبب الفلاح، وطريق السعادة، وبالتوبة تكفر السيئات، وإذا حسنت بدّل الله سيئات صاحبها حسنات. وعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله، والله - تبارك وتعالى - يفرح بتوبة التائبين، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله. قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده). ولم يجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه، ومزيد هذا الفرح لا يُعبر عنه. ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثاراً عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة، فتوجب للتائب رقة ومحبة ولطفاً، وتوجب له شكر الله، وحمده، والرضا عنه، فرُتّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركاتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها. من المسائل في باب التوبة: مسألة التخلص من الحقوق، والتحلل من المظالم، فالتوبة تكون من حق الله، وحق العباد، فحق الله - تعالى - يكفي في التوبة من أن يترك ما كان يفعله من النواهي، وأن يفعل ما كان يتركه من الأوامر. ومن حقوق الله ما يجب فيه مع التوبة القضاء والكفارة كما هو مفصل في مواضعه. وأما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، أو عرض، فليتحلّلْه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات) أخرجه البخاري. ولكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك، فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات. ومن لطائف التوبة أن التوبة واجبة ومستحبة، فالتوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والتوبة المستحبة تكون من فعل المكروهات وترك المستحبات، فمن اقتصرعلى التوبة الأولى كان من المقتصدين الأبرار، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى الواجبة، كان من الظالمين. ومن المسائل في باب التوبة مسألة التوبة النصوح، وهي الخالصة، الصادقة، الناصحة الخالية من الشوائب والعلل، وهي التي تكون من جميع الذنوب، فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته، فلا يبقى عنده تردد ولا تلوّم، ولا انتظار، وهي التي تقع لمحض خوف الله، وخشيته، والرغبة مما لديه، والرهبة مما عنده، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات.ومن اللطائف في هذا الباب مسألة التوبة الخاصة، وهي التي تكون من بعض الذنوب، فالواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها. لكن إذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر - قبلت توبته مما تاب منه ما لم يصرّ على ذنبٍ آخر من نوعه. مثال ذلك: أن يتوب من الربا وهو مصر على شرب الخمر، فتقبل توبته من الربا وهكذا. وقد يتصور أن يتوب الإنسان من الكثير من الذنوب دون القليل منها، لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة. وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة، وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من غيره، فهذه هي التوبة الخاصة، وحكمها: أنها تصح فيما تاب منه، شريطة أن يكون التائب باقياً على أصل الإيمان. وسر المسألة: ان التوبة تتَبعَّضُ كالمعصية، فيكون تائباً من وجه دون وجه. ومن اللطائف في باب التوبة مسألة رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة، فإذا كان للعبد حسنات، ثم عمل بعدها سيئات استغرقت حسناته القديمة وأبطلتها، ثم تاب بعد ذلك توبة نصوحاً - عادت إليه حسناته القديمة، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها بل يقال: تبتَ على ما أسفلتَ من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي فعلها الكافر في كفره، من عتاقة، وصدقة، وصلة، وبر. قال حكيم بن حزام- رضي الله عنه- (قلت يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أتحنّث بها - يعني أتعبّد بها - في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (أسلمت على ما أسلفتَ من خير). رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر- رحمه الله- في شرح الحديث: (لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر، تفضلاً وإحساناً) ا.هـ. وقال ابن القيم- رحمه الله- مبيناً العلة في ذلك: (وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم) ا.هـ. ومن اللطائف في باب التوبة: مسألة رجوع التائب إلى حاله ومقامه قبل المعصية، فقد يكون للعبد حال، أو مقام مع الله، ثم ينزل عنه بسبب ذنب ارتكبه، ثم بعد ذلك يتوب من ذلك الذنب، فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان، أو لا يعود، أو يعود إلى أنقص من رتبته، أو يعود خيراً مما كان. والجواب: أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله الأول، ومنهم من يعود إلى أكمل من حاله، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان، فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة، وأشد حذراً، وأعظم تشميراً، وأعظم ذلاً وخشية وإنابة - عاد إلى أرفع مما كان. وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور، ولم يعد بعد التوبة إليها عاد أنقص مما كان عليه. وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة - رجع إلى منزلته. وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في هذه المسألة. وعلى هذا فإنه ينبغي التفطن لهذه المسألة، خصوصاً من كان له حال مع الله، وكان ذا خشية، وعلمٍ، وتألُّهٍ، ومسارعة إلى الخيرات، وحرص على الدعوة ونحو ذلك، ثم طاف به طائف من الشيطان، فأزلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، فنزل عن رتبته السابقة، وفقد أنسه بالله، ودب إلى الضعف والفتور وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة. فهذه مسألة تعتري كثيراً من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس، ويرضون بالدون، فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير، والقرب من الله!. فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة، بل عليه أن يجتهد بالتوبة النصوح، وأن يشمر عن ساعد الجدّ، لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات، فلربما عاد إلى مقامه وحاله السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه، وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية.
ولا بُعدَ في خيرٍ وفي الله مطمعٌ ولا يأسَ من روْحِ وفي القلب إيمانُ |
أيها الحجاج الكرام: مسائل التوبة كثيرة ولطائفها متنوعة، وأسرارها بديعة عديدة لا يتسع لها هذا الوقت اليسير. اللهم إننا نسألك التوبة النصوح التي ترضيك عنا. وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
|