الكتابة فعلٌ إبداعيٌّ مركّب، بذْرتُه الموهبة، وغذاؤه الثقافة بشقيها، المعرفي والأخلاقي، وهي لدى مَنْ يعشق الحرف ضروريةٌ ضَرُورةَ الماء والهواء، وكما أنّ المرءَ منّا لا يملكُ العيشَ بمعزلٍ عن أيٍّ منهما، فإنّ فعلَ الكتابة لدى صاحبها غذاء للرُّوح والوجدان معاً، ويبقى العقلُ بعد ذلك القوةَ المسيّرةَ لفعل الكتابة، وبه يكون الكاتبُ أو لا يكون!. ** * ولقد قَرنَ مرةً فيلسوفٌ وجودَ المرء بعقْله، فقال مخاطباً نفسه: (أنا أفكر، إذن، أنا موجود)، وشدّ هذا الموقفُ حكيماً آخر، يدينُ بسَطوة القلب، فهتفَ من موقعه مخَاطباً نفسَه: (أنا أحبُّ.. إذن أنا موجود)، ولو كنتُ طرفاً ثالثاً في هذا الجدل، لصَرخْتُ قائلاً: مهلا أيها المتجادلون.. إن الحياة لا تستقيم بالعقل وحده، ولا بالقلب وحده، بل بهما معا، على ألا يطغى أحدهما على الآخر طغيانا يلغيه أو يقصيه، فيسلم صاحبه إما إلى حالة من (التصحر النفسي) باسم العقل، أو (الانفلات) الوجداني باسم العاطفة!. ** * اليوم، أوظّفُ هذا الجدلَ بين القَلبِ والعقْلِ، و(أبتدع) منه مقُولةً صُغْتُها على غرار ما سبقني إليه حكيما العقلِ والقلبِ، فأقول مسْتَهدياً بحكمتهما (أنا أكتب، إذن.. أنا موجود)!. ** * والكتابةُ الإبداعيةُ التي أعنيها هنا.. هي ضرْبٌ من (التنفس) الجميل، تستقبل من خلاله (رئتا) العقل والقلب نَسماتِ بقائهما: القلبُ يطارحُ المشاعر عِشقاً، والعقْلُ يمارس (رياضَةَ الفكر) تأمّلاً، والنتيجةُ عَطاءٌ جميلٌ تخلّدُه ذاكرةُ الزمن!. ** * نعم.. تظلُّ الكتابةُ بكلّ أدواتها وأنماطها وأغراضها سِجلَّ إرثِ السّابقين ومَنْ سبقهم، وهي بعد كل شيء، صَراط يعبرُ عليه مورُوثُنا إلى مَنْ يلينا من أجيال!. * لولا الكتابةُ.. ما قرأنا شعرَ امرئ القيس، ولا عَرفْنا المتنبي، ولا طربنا لإبداع شكسبير. * لولا الكتابةُ.. ما انتفعنا بتأمّل اسحق نيوتن.. ولا استفدنا من اكتشاف انشتاين، ولا نعمنا باختراع أديسُن! ** * بالكتابة اخترع نوبلُ سلعته المشؤومة، ومن خلال الكتابة، يلتمس نوبل كل عام (غفران) البشرية عبر جوائز الإبداع للمتفوقين في خدمة الإنسان علماً وعملاً!. ** * أخلص من هذا إلى القول بأنّ الكتابةَ تبقى دليلَ ممارسة العقل والقلب لدورهما معا.. في تأكيد منظومة (بقاء) الإنسان بعد رحيله، وأعني بذلك ما يخلفه هذا الإنسان من عطاء الفكر والوجدان معا، وخير صراط يُعبر به هذا البقاء من جيل إلى جيل هو الكتابة.. فهي الشاهدُ لخُلودِ مَنْ مضى، وهي قَبسُ الإلهام لمَنْ بقيَ، وهي حَافزُ الابداع لمَنْ سيخْلفُ هذا وذاك!.
|