من بين تلال اللوعة ، وركام الأحزان ، ولجج المأساة ، انبثقت خيوط الضوء .. تشق جدار العتمة ، وتومض من بعيد ، لتذرو برياحها غيوم اليأس ودياجير الأحزان ، وتكشف عن جوهر الإنسان النبيل ، ومعدنه النفيس ، وتلك النفس التي جل من سواها ، قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } سورة الشمس (7-8) . ومن بين عشرات الصور الموحية ، اخترت خمسة مشاهد فقط لعلكم ترون معي دلالاتها التربوية ، وما تنطوي عليها من معان نبيلة تستحق التأمل والتفكير ، لعلها تضيء لنا الطريق ، وتعوضنا عن حيوات أخرى ضاعت سدى ، ومآس عديدة تكبدتها الإنسانية بصمت ، وتبددت ملامحها في زوايا النسيان بعيداً عن أضواء الإعلام . المشهد الأول في قلب الواقعة ، وبين لجج الأمواج العاتية ، وعلى شفا الموت ، امتدت أيادي الغرباء تساعد ، وتحاول أن تنقذ ما يمكن إنقاذه ، وخاطر الكثيرون بأرواحهم من أجل أناس لا يعرفونهم. لم يكن السؤال من الشخص ؟ ما بلده ؟ .. ما ديانته ؟ .. ما انتماؤه العرقي أو الطائفي ؟ فقط .. كان هناك إنسان ما .. مجرد إنسان بحاجة إلى العون ... النجدة .. ليد تنتشله من بين الأنقاض ، وقلوب تعصمه من الغرق ، وتقف إلى جانبه ... طفل ... كهل .. امرأة .. لا فرق .. هل كان على اليد التي امتدت تنتشل الطفل الغريب من الماء أن تسأل : ابن من هذا ؟ هل كان اختلاف العرق أو الدين أو الطائفة أو الوضع الاجتماعي سيؤثر في قرار المرء مد يد العون لطفل أوشك على الغرق ؟؟ ماذا لو كان الطفل ابن فلاح معدم من فقراء الهند أو سريلانكا أو إندونيسيا .. أو ابن مقاتل من التاميل أو من متمردي إقليم آتشي .. أو سائح أوروبي جاء يحلم بشرق ضبابي مغلف برؤى استشراقية محفورة في اللاوعي الأوروبي من عهد ماركو باولو .. ما الفرق؟ في قلب المأساة .. لا يصبح للسؤال عن اللون والعقيدة والهوية والتاريخ .. مغزى أو معنى .. بل إن السؤال عن أي من تلك الاختلافات بغرض التمييز بين الناس في أفضلية المساعدة وتجديد الأولويات هو سؤال لا أخلاقي ، وحين تحاول جهة ما تقديم العون لطائفة بعينها ومنعه عن آخرين ، أو تسعى لتحقيق غرض آخر غير مد العون لمن يحتاجه ، فإن تلك اليد لا تسهم في تقديم المساعدة ، بل إنها توغل في تعميق المأساة ، وتنكأ الجراح التي ما فتئت تنزف في روح الإنسانية . كأنها تكشف الجانب المظلم من النفس الإنسانية ، وتفضح المعنى الحقيقي لفجور النفس التي خسرت تقواها حين انغلقت على نفسها ، وأضاعت صلاتها بغيرها من البشر .. فالتقوى الحقيقية هي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلقنا من نفس واحدة وجعلنا مختلفين لحكمته سبحانه ، وقد قال : تعالى في محكم التنزيل :{ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } (48 سورة المائدة { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } سورة هود :118) إذ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. ..} (سورة البقرة :256) ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وأمر المولى عز وجل رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو إلى الحق بحكمة وصبر جميل. { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } سورة المزمل (10) وأن يخاطب الكافرين بقوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } سورة الكافرون (6) . تلك إرادته سبحانه وتعالى { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } سورة يونس (99). المشهد الثاني اعتاد الغربيون السخرية من الروابط العائلية القوية في المجتمعات الشرقية ، وكان مفهوم العائلة الممتدة بالنسبة لهم أمرا غريبا ، بل لعله مستهجن أيضاً. وكانت علاقات الأقارب والأصهار داخل المجتمعات الشرقية تبدو بالنسبة لهم عصية على الفهم ، فما علاقة المرء بأبناء الأعمام وأبناء الأخوال وأخوال زوجته وأعمامها ، وأبناء أخوالها وأبناء عمومتها .. الخ .. لكن كارثة تسونامي أثبتت قيمة تلك العلاقات العائلية أو الروابط العشائرية .. فكم من طفل فقد والديه أو عائلته الصغيرة كلها لتحتضنه إحدى أفرع العشيرة ، كابن عم أبيه أو خال والدته أو أي من أقارب الدرجة الثالثة أو الرابعة .. فيأخذه ذلك القريب ويجعله فردا من أفراد عائلته ، يتقاسم معهم القليل الذي يمتلكونه . بل لقد أعربت اليونسيف والعديد من المنظمات الدولية عن قلقها من عدم قدرة هؤلاء الناس على إعالة أقاربهم ، لأن بعض هؤلاء (الأقارب) قد جعلتهم مأساة التسونامي بلا أي مصدر للرزق ، فهم يتضورون جوعا لكن ذلك الفقر المدقع لا يمنعهم من مد يد العون لأقاربهم . إن المرء قد لا يشعر بالحاجة لكل أولئك الأقارب في أوقات الدعة ورغد العيش ، لكن حين تضيق به السبل أو تلم به الملمات فإن كل فرد من أولئك الأقارب أو أبناء العشيرة ، التي طالما ضاق بهم وأراد الفكاك منهم ومن واجباته نحوهم سيعد سنداً يعتمد عليه ، ومعينا يحتاج إليه ، وملجأ يحتمي به من هول الطوفان. وبلا شك فإن هذه الروابط العائلية - إذا وضعت في إطارها الإنساني الصحيح - لا تتناقض والروابط الإنسانية الأخرى ، فالعائلة والأمة والوطن والإنسانية دوائر تتصل وتتداخل لتشكل سلسلة من العلاقات المتكاملة التي تقوي الإنسان ، وتزيد انفتاحه على أخيه الإنسان ، بدلاً من التعصب الأعمى الذي يغلق الأفق ، ويحجب الرؤية ، ويقيم الحواجز بين البشر . المشهد الثالث من أوروبا والولايات المتحدة في أقصى الغرب ، إلى اليابان وكوريا في أقصى الشرق ، أخذ الأطفال يشكلون فرقاً لجمع التبرعات ، ولم يكتفوا بالعمل داخل أسوار المدارس ، بل جالوا الشوارع وطرقوا الأبواب ليجمعوا ما تيسر لهم من تبرعات لصالح ضحايا كارثة تسونامي .. بعض هؤلاء لا يكاد يعرف شيئاً عن شعوب الدول المنكوبة ، بل لعلهم يجهلون أين تقع سريلانكا وجزر المالديف ، لكنهم تعلموا في مدارس تعنى بمفاهيم الإنسانية والمواطنة الكونية وتحمل المسؤولية .إن تربية اليوم لا يمكن أن تقف عند حدود تجاوز الأمية الوظيفية ، والإلمام بالحد الأدنى من المعارف والعلوم ، بل هي تربية المواطن الصالح ، الإنسان .. القادر على تحمل المسؤولية تجاه نفسه وعائلته ومجتمعه .. والإنسانية جمعاء .. لقد جاء في البند الثاني من المادة السادسة والعشرين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان : (يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً ، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية ، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام) .وإننا اليوم في دول الخليج العربية إذ نعمل على تجديد المناهج وتطويرها حسب مقتضيات العصر ومتطلبات المجتمع ، نؤمن بضرورة أن ترتكز تلك المناهج على قيمنا الروحية وثوابتنا الحضارية ، وتجعل من العقل قوة الدفع والتقدم ، ومن التفتح والتسامح والاعتدال أسس المواطنة الصالحة ومبادئ السلوك ومقوماته . المشهد الرابع لا يوجد مكان في العالم يخلو من الأخطاء البشرية أو الكوارث الطبيعية وما ينتج عنها من مآس شخصية وجماعية ، غير أننا نجد استجابة البشر للأحداث نفسها تختلف وتتباين من مكان لآخر ومن شعب لآخر ، تبعاً للبيئة الثقافية والمناخ الحضاري والقيم السائدة .. فالبعض يكتفي بالتعبير عن الألم ، والبعض يندب حظه العاثر ، أو يلقي باللائمة على العالم كله ويستثني نفسه .. قلة فقط هي التي تبحث عن المغزى ، وتحل الأخطاء ، وتنقد نفسها ، وتقرر الأخذ بالأسباب .. والتعلم من المحنة . هكذا فعقب حدوث كارثة تسونامي تقرر إنشاء شبكة إنذار مبكر تضم عدة مراكز لقياس الهزات الأرضية وتوقع حدوثها في قلب المحيط الهندي ، بحيث يمكن تجنب وقوع المأساة نفسها مرة أخرى . أرادت تلك الدول أن تستفيد من درس المأساة القاسي في ذروة إحساسها بهول الكارثة ، ولوعة الخسارة والفقدان ، بينما في مناطق أخرى من العالم ، تحدث الكوارث نفسها مرة بعد مرة ، وأحياناً بشكل شبه منتظم ، وفي كل مرة يبدو الأمر مفاجئاً وغير متوقع على نحو عبثي . فهل من الطبيعي أن تتكرر الزلازل والفيضانات والسيول وموجات الجراد وانتشار الأوبئة والجفاف والقحط والمجاعة في المناطق نفسها من العالم عاما بعد عام ، ولا تتخذ الحكومات المعنية أية تدابير وقائية؟ المشهد الخامس إن الحكم الصالح لا يمنع قضاء الله وقدره ، ولكنه يعين البشر على تحمل الكارثة ، والتعلم منها ، ويهيئ الناس لتحمل مسؤوليات الحاضر والتصدي لتحديات المستقبل .. لقد أعرب الكثير من قادة الدول المانحة وهيئات المعونة ومؤسسات الإغاثة الدولية عن ثقتهم في حكومات الدول المنكوبة ، وباستثناء الحكم العسكري في بورما ، فإن أغلب حكومات هذه الدول تتمتع بأنظمة حكم صالحة وتتميز بدرجة عالية من الشفافية ، وقد كان هذا أحد أهم أسباب نجاح حملات التبرع للدول المنكوبة ، وسرعة وصول المساعدات لشعوب هذه الدول. على صعيد آخر ، فقد أدى فقدان الثقة في بعض حكومات الدول الإفريقية إلى تراجع حجم المعونات والتبرعات الدولية لإغاثة هذه الدول ، كما تسبب غياب الشفافية Transparency وضعف الرقابة والمحاسبية accountability والفساد المستشري في أجهزة الإدارة وأنظمة الحكم العسكرية إلى قيام المؤسسات الدولية بفرض إجراءات مراقبة صارمة على عمليات الإغاثة وتوزيع المعونات ، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تأخر وصول المساعدات ، وضياع جزء كبير من أموال الإغاثة في إجراءات التوزيع المباشر عبر المؤسسات الدولية ، وعمليات المراجعة والتدقيق ، ولعل ذلك الفساد هو العلة التي يتكئ عليها الضمير العالمي لتبرير تقاعس المجتمع الدولي عن القيام بواجباته تجاه مآسي القتل الصامت في إفريقيا .. مصداقاً لقوله تعالى في محكم كتابه :{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(سورة الأنفال25) فالعقاب الإلهي لا يقتصر على { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } وإنما يطال الناس كافة لأنهم أقروا المنكر بين ظهرانيهم ، فحق عليهم العقاب وعمهم الله بالعذاب. وفي مسند الإمام أحمد من حديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) . وذكر الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال : قال موسى (يا رب ، أنت في السماء ونحن في الأرض ، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال : إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي عنكم ، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم). دروس وعبر هناك قصص عديدة تروى ، ومشاهد مهمة تستحق التسجيل والتعلم واستخلاص العبر ، منها استمرار الدراسة والعمل في قلب المناطق المدمرة ، وسرعة استجابة شعوب تلك الدول المتضررة ومسؤوليها للحدث الجسيم ، ومنها تذكير البشر بضآلة الإنسان وضعفه وقلة حيلته. فمهما كان التقدم الذي حققه البشر عبر تاريخهم الطويل ، فإن إرادة المولى عز وجل قادرة على أن تمحوه في لحظة ، فوجودنا نفسه مرتهن بإرادته سبحانه ، وبأمره عز وجل : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (82-83) سورة يس .
* المدير العام لمكتب التربية العربي لدول الخليج
|