Tuesday 11th January,200511793العددالثلاثاء 30 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الثقافية"

نازك الملائكة ذلك الوتر الحزيننازك الملائكة ذلك الوتر الحزين
وسيلة محمود الحلبي*

* نعم.. قد يكون الشعر بوحاً ذاتياً، تثقله المعاناة ويؤطره الأسى، ولا سيما إذا أصبح الوجود يتمثل في مرآة الذات الجريحة والمفعمة بالألم.. فيأتي الشعر حينها مرتبطاً بالحزن ارتباطاً وثيقاً.. وهكذا هي شاعرتنا الرائعة (نازك الملائكة) تقول:


مُنِحْتُ عيوناً تحب الدموع
وقلباً يحبذ أن يطعنا
وروحاً تعثر فيما يريد
فمج الظلام وعاف السنَّا
وأبكي وأبكي فدمعي لهيب
يحطم روحي ويذوي المنى

تقول بنت الشاطئ في كتابها (الشاعرة العربية المعاصرة):
(الوجدانية هي العنصر الجوهري المشترك بين الفنون جميعاً ودونها لا يكون الأدب فناً، وإنها كذلك عنصر أصيل في فطرة الأنثى).
(والوجدانية) عنصر له موقع مستعذب في نفس شاعرتنا نازك الملائكة.. لأن قيثارتها الشعرية لا تعزف إلا أنغاماً حزينة لشاعرتنا المبدعة ديوانها الأول (عاشقة الليل) فهو يبعث الشجن في النفس ويشف عن نفسية تنضح بالكآبة والقلق ورغم ذلك فاستقبله الكثيرون بالرضى في تلك الفترة الزمنية التي عاشوها في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وفي أيام شبابها أيضاً كانت أسيرة للألم والأسى منذ طفولتها، ففي باكورة شعرها تقول:


هذه الأسطر قد ضمت بقايا سنواتي
منذ أن ألقت بي الأقدار في تيه الحياة
طفلةً ترنو إلى الشاطئ عبر النظرات
وترى العالم بحراً مغرقاً في الظلمات

وكانت شاعرتنا الرائعة نازك تشعر دائماً بالوحدة والعزلة:


وحدتي تقتلني والعمر ضاعا
والأسى لن يبقى لي حلماً جديدا
وظلام العيش لم يبقَ شعاعا
والشباب الغض يذوي ويبيدُ

فكانت تحب الوحدة واعتزال الناس وكانت تأنس بالليل وهو يلفها بردائه فتناجيه وتبثه أحزانها لأنه الصديق الوحيد الذي تأنس به.


ليس إلا الحزن يمشي في كياني
وأنا في ظلمة الليل الصديق

وكانت (نازك الملائكة) تفكر دوماً في الموت وتخافه كثيراً رغم أنها كانت في عزّ صباها وكانت إذا وقعت عيناها على مقبرة ثارت مخاوفها واعترتها الكآبة وراودتها الهواجس:


بكيت للأموات طول المساء
وصنعت من دمعي النشيد الحزين
وفي غدٍ أرقد تحت السماء
قبراً سيبكي عنده العابرون

وأصبحت ترى نفسها سفينة تائهة في هذا الوجود لا تجد ميناء لتحط فيه مراسيها:
لا شيء يمسح أدمعي..
لا حلم تلمحه عيوني
لا شاطئاً ترنو إليه سفينتي
تحت الدجون
كتبت لي الأقدار
أن أمشي على شوك السنين
ترى.. ما سر هذه الغمامة السوداء التي استمرت تظلل شعر نازك الملائكة طوال أيام صباها وشبابها.
كتبت في (مأساة الحياة وأغنية للإنسان).
هناك بواعث شتى أولها هاجس الخوف من الموت فقالت: (الواقع أن تشاؤمي قد فاق تشاؤم (شوبنهاور) نفسه لأنه كما يبدو كان يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان أما أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت..)
وتقول في موقع آخر: (إن فلسفتها في الحياة كانت كلمات الفيلسوف الألماني المتشائم (شوبنهاور) لست أدري لماذا ترفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت، لست أدري لماذا نخدع أنفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء حتام نصبر على هذا الألم الذي لا ينتهي.
متى نتذرع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حب الحياة أكذوبة وان أعظم نعيم للناس جميعاً هو الموت.
أما الباعث الثاني لأحزان الشاعرة وتشاؤمها المبكر هو تأثرها بالمذهب الرومانسي الذي تأثرت به جمهرة الأدباء والشعراء العرب منذ مستهل القرن العشرين. والمذهب الرومانسي كان مستودعاً للحزن ينفث في مزاير الشعراء والكتاب ألحاناً شجية تشيع الأسى.
ونلاحظ أن الشاعر إيليا أبو ماضي يؤكد اختيار نازك الملائكة لما يلائمها نفسياً من الشعر الإنجليزي الذي أحبته ويعزو نظرتها التشاؤمية إلى تأثرها ببعض شعراء السخط والكآبة وفي ذلك يقول: (ويبدو لنا من بعض تعابيرها ومن الروح السارية في شعرها أنها متأثرة بشعراء الكآبة مثل: كيتس، بايرون، شيلي.
رحماك يا أيدي الكآبة
ما الذي قد كان مني
ماذا جنيت لتعصري قلبي
وأحلامي ولحني
وتلونين مشاعري
بسواد آهاتي وحزني
ومن سمات التأثر الرومانسي لديها كذلك ميلها إلى مناجاة الطبيعة وتصوير مشاهدها، غروب الشمس، البحر، الليل، فكانت نازك تقضي أمسياتها في تأمل السماء ومناجاة الليل والإصغاء إلى هديل الحمام وسجع القمري وفي ذرف الدموع، فإذا عبرت عن أحاسيسها شعراً أبدعت لنا لوحات ناضحة بالأسى كقولها:


جلست أناجي سكون المساء
وأرمق لون الظلام الحزين

وهناك باعث مهم جداً من بواعث الحزن في شعر نازك وهي الأحداث التي ألمت بالإنسانية وبالعالم العربي منذ الحرب العالمية الأولى حتى الخمسينيات، فنفس الشاعرة سريعة الانفعال وإحساسها المرهف وشعورها القومي الصادق جعلها مهيأة للانفعال بالأحداث التي توالت على العالم وعلى الوطن العربي.
ومن الهواجس التي كانت تلح على نازك الملائكة في تلك الحقبة من الزمن البحث عن السعادة، فقد حاولت جهدها أن تلتمسها في مختلف مظانها وحيث يخيل إلى الناس أنها موجودة، ولأنها أخفقت في مسعاها ولم تظفر بطائل وليس في عالمنا هذا إلا الألم والشقاء:


عالمٌ كل من على وجهه يشقى
ويقضي الأيام حزناً ويأسا
جرعته السنون حنظلها المر
فعاف الحياة عيناً ونفساً

ونلاحظ أن الشاعرة الحزينة بحثت عن السعادة في كل مكان بحثت في قصور الأغنياء وفي ظنها أن المال هو مفتاح السعادة ولكنها حين ولجت القصور خاب ظنها لأنها وجدت أن المال لا يسعدها..
وذهبت تبحث عنها في كوخ ريفي بسيط يحبو عند قدميه جدول ماءٍ وتلتحف الأرض حوله بغلالة خضراء مونقة وقع في خاطرها أنها أصابت السعادة المرجوة ولكن عجباً، ما بال سكان هذه الجنة متجهمين حزانى، إن التعاسة أبت إلا أن تنسج خيوطها العنكبوتية على سكان الريف.. فابتعدت عنهم ومضت إلى هيكل الفن لعلها تجد في رحابه السعادة ولتهبط في شاطئ الشعر تلتمس فيه بغيتها ولكن يخيب رجاؤها أيضاً، فهو كئيب ولا يرى من الحياة إلا جانبها المأساوي. وهكذا دواليك.. تمضي حياة الشاعر الملهم الرقيق وتنسى.. وهكذا يملأ الوجود جمالاً ويذوق الآلام كأساً فكأساً.. والشاعرة لا تملك حينئذ إلا أن تنشر الشراع وتدفع بسفينتها في خضم الحياة سعياً وراء بريق السعادة الخلاب وحين ترسو سفينتها على شاطئ العشاق وتعاين ما أصابهم من بلاء العشق وتباريحه تؤمن أنها ما زالت بعيدة عن نيلها وأن السعادة ما هي إلا أسطورة تهذي بها ألسن الأشقياء وتدغدغ أمانيهم التي لا سبيل إلى تحقيقها وأن الألم هو الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود..
نحن نحيا في عالم كله دمع وعمر يفيض يأساً وحزناً تتشفى عناصر الزمن القاسي بآهاتنا وتسخر منا.. عندئذ تتعاظم الكآبة في نفسها ولكن حزنها في هذه المرحلة حزن يغوص في النفس بدلاً من أن يطفو على سطحها، حزن من لون آخر، حزن من يدرك في نهاية المطاف أن مأساة الإنسان الحقيقية إنما هي في ذاته القلقة المعذبة وليست الأحداث الخارجية وحدها المسؤولة عما نحسه من تشاؤم وقلق وضياع، لذلك فإنها أصبحت تضيق بأحزانها فتذرف الدموع ولكنها في الوقت نفسه تحس بميل إلى الضحك الساخر.


تعذبني حيرتي في الوجود
وأصرخ من ألمي مَنْ أنا
وأضحك من كل ما في الوجود
وفي ضحكي مرح ساخر

ولم تتخلَّ الشاعرة عن يأسها، بل غدا أشد حدة فتقول:
هي لون عيني ميت
هي وقع خطو القاتل المتلفت
لقد بلغ اليأس شيئاً فشيئاً لدى الشاعرة وهي لم تعد ترتعد حين يراودها شبح الموت، فالحياة جفت وأصبحت بلا أحلام، إنها الحيرة تلفها والقلق يعصف بجوانحها والفراغ يلتهمها:


والذات تسأل من أنا
أنا مثلها حيرى أحدق في ظلام
لا شيء يمنحني السلام
أبقى أسائل والجواب
سيظل يحجبه سراب

لقد نفضت يدها من كل شيء، وتخلت عن طموحاتها وأمانيها ومثلها واستبد بها الضجر القاتل والأسى فتقول:


وعفت طموحي وبحثي الطويل
وحقرت سعيي إلى عالمٍ مستحيل

وفي نهاية المطاف رأت شاعرتنا أن الملاذ الوحيد (هو الله)، الله وحده قادر على إنقاذها من مأساتها وشجونها المتصلة بالإيمان وحده تتغلب على شقائها وتتحدى مأساتها وتداوي كلومها النازفة.. فلنلذْ بالإيمان فهو ختام اليأس والدمع والشقاء العاني، يمسح الأعين الحزينة من آدمعها الهامرات في الظلمات.
وهنا تشعر أنها وجدت أخيراً شاطئ الأمان وتضع مصيرها بين يدي القدرة الإلهية وتذعن لمشيئتها وتطوي شهواتها لبلوغها الشط الأبدي.
هكذا تبلغ السفينة يا شاعرة الحزن شاطئها الأبدي وهكذا فنرى الشاعرة الحزينة نازك التي عاشت في حقبة الأربعينيات حليفة للحزن والتشاؤم حتى إذا غمر الإيمان قلبها.. حل شيء من التفاؤل والإقبال على الحياة.. وانعكس ذلك في شعرها فظهر ديوانها (الصلاة والثورة) و(يغير ألوانه البحر).(1)
رغم أن دواوينها هذه لا تخلو من خيط نحيل لا يكاد يبين وحزن هادئ أقرب إلى الخشوع الذي يشعر به المرء حين يقف بين يدي الله يؤدي الفرائض..
(1) المراجع:
- نازك الملائكة والتغيرات الزمنية
- نازك الملائكة دراسات في الشعر والشاعرة
* وبعد:
هذه هي شاعرتنا وقيثارتنا الحزينة نازك الملائكة المبدعة، الرائعة، المجبولة بالأحزان، بل الأحزان جبلت منها.. وهذا يدل على قولها: لا شيء يمسح أدمعي.. لا حلم تلمحه عيوني، لا شاطئاً ترنو إليه سفينتي تحت الدجون كتبت لي الأقدار أن أمشي على شوك السنين..
رحماك يا أيدي الكآبة ما الذي قد كان مني، ماذا جنيت لتعصري قلبي وأحلامي ولحني، وتلونين مشاعري بسواد آهاتي وحزني..
ولكن ومع تلك الآهات، والأحزان، والمآسي، إلا أن حقاً الحزن ينقينا من الداخل، والحزن يجعلنا في أغلب الأحيان أكثر صدقاً، ووفاء وإخلاصاً، وأكثر وضوحاً، فهو ينقي دواخلنا من الأحقاد والضغائن.. فالأحزان تنقينا.
لحظة دفء


أحبك في القنوط وفي التمني
وكأني منك صرتُ وصرتَ مني
أحبك فوق ما وسعت ضلوعي
وفوق مدى يدي وبلوغ ظني
هوىً ترنح الأعطافِ طلقٌ
على سهل الشباب المطمئن
أبوح إذاً فكل هبوبُ ريحٍ
حديثٌ عنك في الدنيا وعني
سينشرنا الصباحُ على الرَّوابي
على الوادي على الشجر الأغن
أتمتمُ باسمِ ثغركَ فوقَ كأسي
وأرشفُها فكأنك أو كأني

* عضو جمعية هيئة الصحفيين السعوديين - كاتبة ومحررة صحفية
للتواصل: فاكس 2317743
ص. ب 40799 الرياض 11511

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved