Friday 7th January,200511789العددالجمعة 26 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "أفاق اسلامية"

صغارهم.. كانوا كباراًصغارهم.. كانوا كباراً
عبدالله بن ثاني ( * )

روى الزبير بن بكار، قال: خطب عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، فقال له: إنها صغيرة، فقال زوجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فقال: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها زوجتكها. فبعث إليه ببرد، وقال لها قولي: هذا البرد الذي ذكرته لك. فقالت له ذلك، فقال: قولي له: قد رضيته رضي الله عنك -ووضع يده على ساقها- فقالت له: أتفعل هذا! لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء قال: مهلاً يا بنية، إنه زوجك، فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون، فقال: رفئوني، رفئوني، قالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري).
إن هذه البنية رضي الله عنها تعطينا درساً في العقيدة ربما خفي على من هم أكبر منها سناً وعلماً وتجربةً ودرايةً ممن يدعو الأمة إلى المواجهات والمظاهرات والخروج حباً في عروش الدنيا وكراسيها متجاهلاً مصلحة الأمة، فاستحلوا الدماء المعصومة، وهدموا المرافق العامة وقتلوا رجالاً مسلمين لا ذنب لهم ولا جناية إلا أنهم يحفظون الأمن والاستقرار لبلد يعد من مفاخر الإسلام عبر العصور لما قدمه وما يقدمه، ويحفظون مجتمعنا من الشر والبلوى.
وقال السلف: ضبط المصالح العامة واجب، ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفوس الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة، ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على نصب الإمام قبل الاشتغال بدفن المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنهم يدركون خطر تعذر هذه المصلحة بانتفائها والخروج على الولاة والبغي عليهم فيما بعد، وزج الأمة في مواجهات غير متكافئة دون تفكير بالقدرة والاستطاعة والمصلحة، مع أن الله جل وعلا قد اشترط الاستطاعة في الحج، وهو ركن من أركان الإسلام (من استطاع إليه سبيلا)، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28-232) إذ تطهير سبيل الله ودينه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لاينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..) ومن يتأمل هذا النص يقف على التربية التي توافرت في جيل الصحابة وأبنائهم رضوان الله عليهم. فهذا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فيما رواه البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وأنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولاتابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه) فهكذا كان الصحابة يربون أبناءهم ومن تحت ولايتهم مثلما ربى علي بن أبي طالب بنيته رضي الله عنهم أجمعين على احترام منصب الولاية الكبرى، فهذه الصبية تعرضت لكارثة أخلاقية في عرضها من قبل رجل أجنبي حسبما يقتضيه حالها، لايجوز له الاطلاع على عورتها، ومع ذلك قالت: لولا أنك أمير المؤمنين.. وهذا يقتضي أن المعتدي لو كان غير أمير المؤمنين لضربته واعتدت عليه نتيجة اعتدائه على عرضها، مما يؤكد حرص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على تربية أبنائهم تربية تتفق مع الأصول التي أكدت حقوق ولي الأمر احتراماً لمنصبه وولايته على الأمة، ومنعت كل ما ينقص قدره في نظر الناس، ولذلك تسابق الصحابة وأبناؤهم في أعمال البر والصلاح وكانوا لا يتجاوزون الآية في القرآن حتى يدرسوها ويعرفوا تفسيرها ويعملوا بها.
ولا أدل على حسن التربية من تطاول الصبية في قاماتهم في حضرة سيدي محمد صلى الله عليه وسلم كي يختارهم في الجيش الإسلامي المجاهد، وهذه التربية النبوية هي التي أعطت أنس رضي الله عنه شرفاً ليكون درساً يزرع الثقة في قرنائه من بعده إلى يوم يبعثون، أخرج مسلم في صحيحه برقم (2482) عن أنس قال: أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً..، فلله دره ودر أمه التي توصيه بحفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تدريب الصغار على الطاعات منذ الصغر، بل والحث على ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع. أبو داود (495) هذا مع أن الأطفال غير مكلفين، ولذلك تعجب من يشعر بالضيق نتيجة التزام ابنه، تعجب ممن يهاجم حلقات تحفيظ القرآن وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحملها مسؤولية الأخطاء التربوية التي تدفع الأمة ثمنها غالياً في هذا الوقت، بل إن هذه الحلقات وتلك المؤسسات قد تخرج فيها أبناء من أفاضل شباب الأمة ولا نزكيهم، فالله أعلم بمن اتقى، ولا يمكن أن يعالج الشر والخطأ بطمس معالم الخير واقتلاع جذوره من مجتمع ملتزم يحترم الإسلام ونصوصه منذ بدئه وقيامه مع ضرورة المراجعة والحرص على تلك الجمعيات والمؤسسات من الاختراق والتشويه وغرس الأفكار الهدامة، وتمرير بعض المشروعات الخاصة لبعض الرموز والأحزاب ومثلها مثل المؤسسات الدينية بعامة التي لا يمكن أن نتهمها بل نتهم أنفسنا المقصرة التي لم تفهم الإسلام على حقيقته، لأنها مكان خصب لتربية الناشئة تربية تتفق مع أصول المنهج النبوي الناصع، وإعدادهم إعداداً شرعياً غير مدخول حتى لا يغرس دعاة الباطل من شخصيات وفضائيات ومناهج فيهم تصرفات أجنبية وتقليعات شاذة لا تليق بمسلم ولا مسلمة بل إن بعضها يتعارض مع الإسلام.
وكذلك كان الصحابة والسلف رحمهم الله يربون الصغار على الطاعات ومنها الصيام مثلاً ويجعلون لهم اللعبة من العهن ويشغلونهم بها إذا جاعوا، وذلك حتى يدخل وقت المغرب. البخاري (برقم 1960) ومسلم (برقم 1136).
وكانوا يصحبون الصغار إلى الحج بفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان يداعبهم ويلاعبهم، مثلما كان يفعله مع الحسن والحسين في الصلاة ولم ينهرهما، بل إنه إذا سمع صوت طفل يبكي يتعجل بالصلاة - بأبي هو وأمي- رحمة بهم، وكان ينصح بتخفيف العتاب على الصغار،.. وهذا الاهتمام أفرز أجيالاً تثق بنفسها وبمجتمعها المسلم ففتحت العالم وقدمت له حضارة الإسلام مجردة من أي تشويه وتزوير، فقبلها العالم دون فرض بالسيف والتفجير والإرهاب والسبب أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى تلقوا المنهج الصحيح على يد من يراقب الله جل وعلا فيما تحت يده دون استغلال لنصوصه في تفريق الأمة والحكم على شخوصها وتكفير رموزها بعد لي عنق تلك النصوص وتنزيلها على واقع يختلف تماماً عما قيلت فيه في صورة تؤكد أن بعض من تصدر للتربية لا يتجاوز تفكيره أرنبة أنفه.
وذلك الوضوح أدى إلى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب الدعوة النيرة والرحمة بالناس جميعاً، ومن يقرأ في السير يجد أن بعض شباب الأمة قد نضجوا قبل أوانهم نتيجة تربيتهم تربية صحيحة فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه كان يمشي في أسواق المدينة فرأى أطفالاً صغاراً، وكان عظيم الهيبة، فلما رأوه تفرقوا هاربين إلا واحداً بقي واقفاً، لفت نظره، قال: (ياغلام لِمَ لمْ تهرب مع من هرب؟!) فقال هذا الغلام الصغير الذي لا تزيد سنه عن إحدى عشرة سنة، خاطب أمير المؤمنين الذي كانت تَخِرُّ له وترتجف منه ملوك الشرق والغرب، قال: (أيها الأمير، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك)، قال الطريق واسع بعزة وأنفة وتربية تبين كيف تربَّى أبناء الصحابة الكرام على هذا المنطق السليم، وعلى هذه الفصاحة، وعلى تلك الجرأة، وعلى هذا الأدب والاحترام.
وهذا سيدنا عمر بن عبدالعزيز، دخل عليه وفد الحجازيين، يتقدَّمهم طفلٌ صغير لا تزيد سنه عن عشر سنين، لمَّا رآه وقف ليتكلَّم انزعج الخليفة، وقال: (أيها الغلام، اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً)، فقال هذا الغلام الصغير: (أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول أيها الأمير، لكان في الأمة من هو أحق منك بهذا المجلس).
وأتمنى من المسؤولين والجهات الحكومية ووزارة الشؤون الإسلامية والمؤسسات التربوية في هذا البلد أن تنشر كتاب فضيلة الشيخ الإمام عبدالسلام البرجس رحمه الله تعالى (معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة) وتوزعه على المسلمين في جميع أنحاء العالم وتعقد له قراءات في وسائل الإعلام وتدرسه الطلاب لمعالجة الأخطاء التي يصطلي بها الإسلام والمسلمون على يد من تربى على الحركية وأحزابها علاجاً شرعياً بالنصوص والأدلة والقواعد وأقوال السلف وبخاصة أن هذا الكتاب بشهادة الجميع لم يؤلف مثله في هذا الجانب منذ زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله... والله من وراء القصد.

( * ) الإمارات العربية المتحدة

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved