تطور مدينة الرياض عمرانيا وسكانيا تمثل قصة النقلة الحضارية في عالم الماضي إلى دنيا الحضارة المشتركة، وما يشاهد اليوم في (منتزه سلام العائلي) يبرهن بوضوح على صحة قصة تلك النقلة حيث تغطي مساحة ذلك المنتزه أكثر من ربع مليون متر مربع تقريبا من المساحات الخضراء والمرافق الخدمية لإسعاد الزائرين وقضاء أوقات ممتعة في تلك الحدائق إضافة إلى خدمة البيئة بإيجاد محيط بصري يحد من مظاهر العمران والكثافة المرورية في ذلك الموقع، وقد أحسنت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض التي تولت مسؤولية التخطيط والتنفيذ، حينما استفادت من إمكانيات العناصر الموجودة في ذلك الموقع، فأبقت على مزارع النخيل القديمة وأحدثت عناصر رئيسية مهمة تتمثل في تلك التلال الخضراء، وإيجاد بحيرة مائية تصل مساحتها إلى (33) ألف متر مكعب. ومن هنا كان لا بد لي أن أجري حواراً مع تاريخ هذا الموقع الأثري الذي ينضح بعبق الماضي، ليس لأنني أطمع أن يعود التاريخ أدراجه، فالماضي لن يعود مهما هتفنا له أو توسلنا إليه وكل ما في استطاعتنا هو أن نحاول اعتقاله خطوة ينتهي امتدادها بالمستقبل، فيستوعبه الموثق وعالم الآثار. لذا أجدني مدفوعا إلى ما يهم كل باحث في تاريخنا المسجل وغير المسجل استناداً إلى الوثائق المحفوظة لدى أمانة مدينة الرياض، ومركز المشاريع بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وما تختزنه ذاكرتي عن هذه البقعة التي تحتلها اليوم هذه المساحة المنظورة لهذا المنتزه في هذا الجزء المستطيل ما بين شارع طارق بن زياد شمالاً، وطريق الملك فهد غرباً، وشارع الأعشى جنوباً، وشارع سلام شرقاً، والتي هي الناحية الغربية الجنوبية لما يعرف قديما ومنذ القرن الثامن الهجري ببلدة مقرن التي تكون مع بليدات أخرى تقع في الشرق والجنوب مثل (معكال وجبرة ومنفوحة والمصانع والخراب والصليعاء والعود والبنية) أجزاء من مدينة حجر القديمة كما تكون مع البلدة المجاورة لها من الشرق مدينة الرياض في القرن الثاني عشر الهجري، وقد عرفت تلك المناطق بأنها ذات تربة خصبة يزدهر فيها النبات وتنمو فيها أشجار النخيل والأعناب وتتوفر فيها المياه بكثرة، وقد حدثنا التاريخ عن سالف مجدها الضارب في عمق القدم حسبما تدل عليه الآثار القديمة المقرونة بقبيلتي (طسم وجديس) اللتين سيطرتا على إقليم اليمامة في زمن يعود تاريخه إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي، ولم يذكر المؤرخون المسلمون، ولا العرب عن هاتين القبيلتين إلا النزر اليسير عن مأثوراتهما. وتذكر تلك المأثورات زحف بني حنيفة قبل الإسلام بقرنين تجاه هذا الوادي الذي أصبح فيما بعد يعرف باسمهم، وبنو حنيفة أحد الفروع الرئيسية لقبيلة بكر بن وائل التي انحدرت بفروعها من أعالي الحجاز باتجاه الشرق والشمال الشرقي قبل الإسلام لكننا لم نعرف الكيفية التي من خلالها استقر بنو حنيفة في اليمامة وكل ما وجد هو أقرب إلى القصص الخيالية منه إلى الواقع التاريخي. وعلى كل فقد تعاظم شأن إقليم اليمامة في عصر صدر الإسلام ثم في العصرين الأموي والعباسي حتى خرج هذا الإقليم عن يد العباسيين في القرن الثالث الهجري باستيلاء الأخيضرين الذين ينتهي نسبهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستمر حكمهم إلى القرن الخامس أو إلى ما بعد ذلك وقد تحدث عن شيء من أخبارهم الرحالة الفارسي ناصر خسرو عند زيارته إقليم اليمامة. والغريب في الأمر أن جميع من بحث في موضوع الدولة الأخيضرية التي قامت في ولاية اليمامة تحدثوا عنها كدولة، وليس كقبيلة - وفرق بين الدولة والقبيلة - وتحدثوا عن أسر محدودة ينسبونها إلى الأخيضرين دون الرعايا التي كانت تعيش في أكنافها. مما يعزز القول بأن تاريخ هذه الدولة قد سبق كل القبائل المتحضرة في نجد استنادا إلى ما ذكرته بعض المصادر التاريخية، وكان ولاة اليمامة في القرن الثامن الهجري آل يزيد وآل مزيد من بني حنيفة، وفي منتصف القرن التاسع الهجري كان أبرز أخبار هذا الإقليم ذكر قدوم مانع بن ربيعة المريدي الحنفي الجد الرابع عشر لحاكم هذه المملكة اليوم خادم الحرمين الشريفين. ولم يكد ينتهي القرن العاشر حتى توارى واضمحل اسم حجر (قاعدة إقليم اليمامة) وتحولت تلك المدينة العظيمة إلى أحياء وقرى متفرقة مشتتة، وشهدت (معكال) وهي أحد بلدان حجر اليمامة أهمية كبرى في منتصف القرن العاشر الهجري، وربما قبله. لكن غزوة شريف مكة لهذه البلدة عام 968هـ وضع حداً لنهاية ذكر بلدة معكال حتى لم نعد نسمع عنها إلا أنها بقيت حتى هذا اليوم اسماً لحي من أحياء مدينة الرياض.. لكننا نجد أخباراً كثيرة عن البلدة المجاورة لها من الغرب المعروفة بمقرن - موقع هذا المنتزه وما حوله اليوم - التي أصبحت تنافس معكال من ناحية الأهمية حيث إنها أكثر اتساعا من الغرب والشمال والجنوب وأصبح يطلق اسم الرياض في القرن الثاني عشر عليها بعد ذلك. واشتهر من سكان مقرن علماء لهم اليد الطولى في الفقه والإفتاء والرواية، ومن أولئك بيت آل خيخ وبيت آل شمس الحنفيين وظل ذكر مقرن وعلماء مقرن يتردد في المصادر التاريخية والفقهية. ومن اللافت أنه ظهر في هذه الأيام كتاب سمي تتمة (إمتاع السامر) منسوب إلى شعيب بن عبدالحميد، وقد اشتملت تلك التتمة على وقائع ومعلومات لا تنتمي إلى مصدر معروف، وقد وجد فيه بعض الناس ما يروق لهم، فجعلوا منه مصدراً لمعلوماتهم فقمت مع زميلي الأستاذ محمد الحميد رئيس النادي الأدبي في أبها بالرد على ذلك الكتاب كما سبق أن قمنا بالتصدي لنبذ أكاذيبه وسخافاته في الجزء السابق من ذلك الكتاب. والمهم أن هذا الأفاك قد زعم في هذه التتمة أن بلدة (مقرن) تنسب إلى مقرن بن زامل بن أجود، وأن مقرن بن زامل قتله البرتغاليون، وبعد قتله قبر في هذه المنطقة.. مع أن بلدتي مقرن ومعكال قد اشتهرتا قبل تاريخ أبناء أجود بن زامل. ووجود أشعار باللهجة العامية لجعيثن اليزيدي الحنفي صاحب (دعكنة) التي يمدح فيها الرئيس أجود بن زامل الجبري، لا يدل على أن بلدة مقرن قد اكتسبت اسمها من اسم مقرن بن زامل، وإن كان نفوذ الدولة الجبرية قد امتد إلى حجر اليمامة. ومن الأسر التي حكمت بلدة مقرن في القرن الحادي عشر الهجري أسرة أبا زرعة وهي أسرة حنيفية وائلية. وكذلك دهام بن دواس من قيس بن ثعلبة من أسرة آل شعلان الحنفية التي تحكم منفوحة قديما، والذي لجأ إلى الرياض إبان حكم زيد بن موسى أبا زرعة، وعند قتل زيد نجح دهام بن دواس في الاستيلاء على الحكم سنة 1151ه وظل حاكما لكل ما يطلق عليه اسم الرياض حتى نشأت الدولة السعودية التي تجاوره من الشمال على بعد يقدرب (11) ميلا فنشأ العداء بين تلك الدولة وبين دهام بن دواس بسبب دعم دولة آل سعود للدعوة الإصلاحية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب فانبرى دهام بن دواس لخصومتهم. وعندما أعيد إنشاء الدولة السعودية الثانية بقيادة الإمام تركي الذي طرد العساكر الغازية من نجد، اتخذ الرياض عاصمة لملكه، ورمم قصر الحكم وبنى الجامع الكبير، وأعاد تسوير المدينة وظلت آثار الإمام تركي بارزة في الرياض القديمة حتى أيام حكم الملك عبدالعزيز. وكان لي شخصياً - ولمن هم في سني من سكان الرياض - امتياز رؤية مدينة الرياض القديمة تلك المدينة البستانية المسورة من جميع جهاتها كما تم لي بفضل الله تعالى امتياز رؤيتها وتقدمها العمراني في عهد خادم الحرمين الشريفين، تحت ريادة أميرها سلمان بن عبدالعزيز الذي لا تذكر تلك المدينة وتقدمها إلا وذكر اسمه، فهو بحق التذكار الحقيقي لإنجازاتها الضخمة وتحولها الاجتماعي والعلمي والاقتصادي الذي حققته عبر حلقات شهدت انفصالاً تاريخياً عن الماضي عبر وسائل وكفايات غيرت وجه التاريخ. وليس من شك في أن ما قيل منتصف حكم الملك عبدالعزيز لم يكن التغيير في أي ناحية من النواحي سريعا بل كان بطيئاً، ليس في بلادنا فحسب، ولكن في سائر البلاد العربية. فقد أدركنا ونحن صبية نماذج وشواهد من تاريخ الرياض القديمة ذات الأبواب التسعة التي تغلق ليلاً من الساعة التاسعة مساء وحتى الخامسة صباحاً، ولابد أنها كانت كذلك منذ مئات السنين.. أدركتها وهي محاطة من جميع نواحيها ما عدا الجهة الشرقية ببساتين نخيل كثيفة، وتحتوي تلك البساتين على عدد من المباني الريفية تستخدم مساكن ومستودعات للمحصولات الزراعية، وأحواش للأبقار والحمير والماعز، وإلى جانبها آبار واسعة وبعضها ضيق تنتشل منها المياه بواسطة دلاء كبيرة تدعى (الغروب) تقوم الحمير أو الأبقار وأحيانا الجمال بسحب المياه إلى خارج الآبار دون أن يتوقف صرير بكرات السانية ليلا أو نهارا في تلك البلدة، حتى استبدلت بمكائن رفع المياه الحديثة التي بدأت في الظهور وبدأت أدوات الري البدائية في الانحسار ثم الانقراض. وكان من أوائل من استخدم هذه الادوات الميكانيكية الرافعة في ناحية مقرن الأمير عبدالله بن عبدالرحمن أخو الملك عبدالعزيز وكبير مستشاريه الذي كان يملك مزرعة النخل التي هي اليوم جزء كبير من منتزه سلام العائلي. كان هذا النخل قد درج على الأمير من مورثيه ثم ما زال رحمه الله يضيف إلى تلك المزرعة ما يجاورها من أملاك صغيرة تعطلت منافعها فانصرف عنها أهلها، وعرضوها للبيع فاشتراها الأمير وأضافها، حتى أصبحت مزرعته تلك من أكبر مزارع النخيل في تلك الناحية، وأطلق على تلك المزرعة اسم سلام. وعندما ضاق مسكنه القديم في وسط البلدة قرر الانتقال إلى هذه المزرعة فأنشأ بها في المرحلة الأولى قصراً من الطين له ولعائلته، كما أرفقه بمبان ودور أخرى ومسجد ودور للضيافة ومدرسة لتعليم أبنائه، ومكتبة أيضاً. وكان من ضمن الاماكن الأثرية المهمة التي ضمت إلى ذلك الملك بستان نخيل أثري قديم يقع اليوم في الجزء الجنوبي الشرقي لهذا المنتزه، ويدعى (أم العصافير) لكثرة طيور العصافير التي تتخذ من أشجار النخيل مقرا لها ترتاده وقد شهدت شخصياً في ذلك البستان برجاً أثرياً وحوله بئر مهدمة ويدعى (برج أم العصافير)، وقد بني على ربوة مرتفعة يقدر ارتفاعه بأكثر من ستين قدما وكان ملك ذلك النخيل قديما عائلتان حنيفيتان هما آل دخيل وآل نوح ويتحدث الناس أن ذلك الملك وما حوله من خرائب وأبراج كان قديما ل(مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفي) الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم أماكن كثيرة في اليمامة، وله ذكر في أخبار حروب الردة حيث تزوج خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من ابنته وعندما ارتحل خالد رضي الله عنه من وادي أباض إلى وادي الوتر على الشاطئ الغربي منه انتقل إلى موضع عرف بالخراب أحد محلات حجر، ويقع تحديداً غربي هذا المنتزه فيما بعد طريق الملك فهد قرب شارع عسير، وقد أدركته وبه مسجد يزعم الناس أنه مسجد خالد بن الوليد، وبهذا الموقع آبار صغيرة مدورة منحوتة وقد انتشر على أرض ذلك الموقع قطع من بقايا الفخار الملونة، ويؤكد الناس بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا المكان هو منزل خالد بن الوليد بعد فتحه لليمامة ومصالحته لمجاعة في السنة الثانية عشرة للهجرة. وقد بنى السيد خالد القرقني مستشار الملك عبدالعزيز قصراً حديثا قرب هذه الخرائب. ومن الآثار المهمة التي اختفت في الماضي القريب، موقع مهم يقع بالقرب من البوابة الجنوبية لهذا المنتزه يدعى (المبرز) أرض مستوية يجتمع فيها حجاج الرياض وما حولها من راكبي الجمال للانطلاق جماعة نحو مكة المكرمة تحت قيادة مسلحة، ويرأس تلك الجماعة شخص مكلف بهذه المهمة يحمل راية البلاد (البيرق) ويدعى أمير الحج وكانت آخر رحلة لهذا الموكب الجماعي لحجاج الرياض سنة 1358هـ وآخر من حمل الراية ورأس الحجاج شخص من رجال الملك عبدالعزيز يدعى (صالح بن هديان) أمير منطقة رماح السابق.. كان الناس يتجمعون في هذا المكان قرب ربوة لتفقد حاجات سفرهم من أقتاب وشدة وقرب وخيام وهوادج (محامل) وأمتعة ومزاهب. وما زلت أتذكر أنني انطلقت محمولا مع والدتي، ومعي أخ لي يكبرني، حملنا على محمل صغير على ذلول يقوم على شأن أمرها أحد أعمامي - رحمه الله - وكان ذلك عام 1354هـ وكان والدي ضمن الحجاج في ذلك الركب الجماعي. ويظهر أن هذا الموكب كان تقليداً قديماً، توارثه الناس قبل أن يستتب الأمن، وظل يعمل به حتى اتضح عدم الحاجة إليه حيث تنوعت وسائل النقل من الجمال إلى السيارات، ومنها إلى الطائرات. هذا الموقع (المبرز) هو الحد الجنوبي لمزرعة سلام التي يملكها الأمير عبدالله بن عبدالرحمن أحد الأعضاء البارزين العاملين في الأسرة الملكية الكريمة، ويعد هذا الأمير من العلماء الشغوفين بالبحث في الموضوعات الأدبية والعلمية، وكان رحمه الله يمثل الجيل الأكبر من الأمراء السعوديين، وهو ذو ثقافة مميزة، وعلى دراية بعلم الأنساب والشعر العربي القديم والتاريخ.. وقد وصفه (عبدالله فليبي) بأنه نير البصيرة حصيف الرأي والحديث وقد عرفه ولما يبلغ الأمير من العمر عشرين عاما فانجذب إليه وأصبح صديقا له من ذلك الأوان. وكان يجتمع به دائماً، ويتجاذب معه أطراف الحديث. وكان أول معرفته به عندما دخل إلى خيمته في وادي الشوكي شرقي الرياض فوجد كتباً كثيرة فوق سجاد الخيمة، وكان الأمير عبدالله وابن عمه أحمد بن ثنيان آل سعود منهمكين في قراءة واحد من تلك الكتب هو كتاب (تاريخ الحرب) الذي ألفه حسن رضا أحد محرري مجلة المقطم.. أما الكتب الأخرى المبثوثة بين يديه فقد كان بعضها دواوين شعر والبعض الآخر مقتطفات أدبية مختارة. وقد عرض عليه الأمير عبدالله بأن يأخذ بعض الكتب، لأنه يحتفظ بمجموعة أخرى منها. كان بستان الأمير عبدالله الذي عرف باسم (سلام) وبه قصره يطل على الشارع الشرقي الرئيسي لمدخل الرياض قديما منذ مئات السنين وهو شارع واسع يطل عليه عدد من البساتين المسورة من جهتيه الغربية والشرقية. للموضوع صلة..
|