Thursday 30th December,200411781العددالخميس 18 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

المرفأ الوحيد..! المرفأ الوحيد..!
* قصة: فاطمة السويدي

(1)
في كل يوم يمضي، كنت - وما زلت - تتوغلين أكثر في نفسي، حتى غدت نفسي هي نفسك، لا تطيق الفراق عنك فكيف يريدون أن تستل روحك عني وتأتي أخرى لتحل محلها؟!
كنت الأرض التي تؤوي تعبي وضجري وسعادتي والنافذة المشرقة التي أطل منها على وجه الحياة الضاحك، كنت الجمال والرقة والعذوبة الممتزجة بالنقاء والمحبة والمودة الخالصة، فكيف يطلبون أن أنساك؟
كانت الوحدة تمزقني قبل أن تظلني سماك، تأكلني كل صباح وتزداد حدتها في هدأة الليل الحزينة، وعندما تفرش الشمس نورها على النهار، أتذكر أن عذابا جديداً يزحف على أقدامه، آت إلي بقساوة يتنفس الصبح وينطلق الناس إلى أعمالهم وأنطلق - أنا - الى مقاومة هذا العذاب .. اتكئ على سيارتي لأذهب إلى العمل المكتبي، هناك أجد بعض الراحة في عمل تصاميم مدينة لا تتكون إلا على الورق, أحببت الرسم وكأن الملاذ لباحة صغيرة من الفرح.
وحين أتيت تطرقين بابي الموصد بالتعب، فإذا به يفتح لأول مرة، فدخلت نسماتك الحانية فادفأت أرضي الباردة, لم أكن أدري أن في الحياة فرحاً تمثل ذلك الفرح، كيف لقلب أن يترك الفرح بعد أن قفز إليه حبواً فمشياً فركضاً!
أويت هذا الفرح في الدار سنين طويلة من الحب والألفة ولأنك لم تختاري الفراق يوماً، بل هو الذي اختارك بقيت القنديل الذي يضيء القلب، منذ ثلاث سنوات وما زالت وأي عصر قادر أن يستلك من نفسي المشغولة بك دائماً؟!
قبل تلك الليلة، قلت:
(ماذا تفعل لو مت يا عبد الله؟)
- لماذا تفكرين بالموت في هذه اللحظات الحلوة!!
دخلت في الصمت وطاطأت رأسي ومادت الأرض بي .. لماذا تباغتنا الأحزان هكذا حتى في لحظات الفرح القصيرة؟!
قالت علياء: عبد الله، أنا هنا، لكني شرود.
(2)
في تلك الليلة، الليلة الأخيرة، كان الوطن يجمعنا تحت ظلاله الواسعة، كنا نذوب في نعمته الرائعة، تنقلنا في أماكن عدة، عدنا صغاراً، نمارس اللعب والجري بحيوية ونشاط كبيرين، نقطع التذاكر ونصطف قرب الصغار انتظارا لدورنا في اللعبة.
قلت لها: تأخر الوقت، وغداً السفر.
- ما أجمل السفر يا عبد الله.
ظلت علياء يقظة طوال تلك الليلة، تملؤها فرحة السفر حتى انتزعت النوم من أجفانها، غفلت، فنمت ساعة، فتحت عينيك، كنت جالسة بقربك.
قلت: لماذا تركتني أنام؟
- كنت متعباً، اردت أن أرتاح من شقاوتي.
- وأنا أحب هذه الشقاوة.
تلفت حولك. كان كل شيء معداً للسفر.
قالت: قم أيها الكسول.
سمعت صوت سيارة أخيها - سلطان، نهضت مسرعة إليه.
- هيا، علياء، أخبئ لك مفاجأة في بيت العائلة، بلغي عبد الله أن يأتي خلفنا، أنا على عجل.
- عبد الله لا تتأخر، نتنقدمك - أنا وسلطان - الى بيت والدي.
خرجت مسرعاً وكعادتك، تأخرت بعض الوقت وانطلقت ..
غريب هذا اليوم والشارع فارغ من الناس والسيارات.
الهدوء يرسم لوحته الشفافة من حولي، أين الازدحام الذي اعتدت أن أراه في هذا الوقت ؟! هل أدركوا أني مسافر، فأخلوا لي الطريق؟
مسكن العائلة، وجدت بابه مفتوحاً، الهدوء حتى هنا، يغرس شجيراته الطويلة بقوة وكأنه الجدران الواقية من قيظ الصيف، أين حرارة الاستقبال؟!
أين العائلة؟ أين علياء وسلطان؟! لماذا هذا الهدوء ينسج غلالته السوداء حولي؟!
صحت .. عمتي عمتي!
ارتد إليك صدى صوتك، داهمتك الحيرة، وبدأت تلف خيوطها حول رقبتك.
أين ذهبوا؟ هل مفاجأة سلطان تتطلب هذا التأخير؟
ربما!
وإذا بخطوات أقدام تمشي ببطء تقترب منك ذهلت، وجهه شاحب، يشير بمرارة وكأنه ليس الفتى الصغير الممتلئ بالعافية، تسمر في مكانه حين رآك ارتعش جسده، وتداعى على أقرب كرسي، وغرق في بكائه، سألته:
- ماذا بك؟ أين علياء وسلطان؟!
هززته وسألته ثانية:
- تحدث يا أحمد ماذا حدث؟ هل حدث شيء لعلياء؟
انطلقت كلمة واحدة وانطفات: إنها بالمستشفى!
صرخت:
- ماذا تقول أيها المجنون؟ لماذا هي بالمستشفى؟
وفي أي مستشفى هي إن كنت صادقاً؟
قال: الفلاح.
حاصرك البكاء في عيون والديها، جمدت في مكانك كالشجرة،
أشاروا بأصابعهم إلى غرفتها، دفعت الباب بجرأة، انتبهت الممرضة:
- ابتعد من هنا، حالتها خطيرة، الطبيب يحاول إنقاذها.
لكنك لم تكن قادراً على الابتعاد، دفعت الباب ثانية بقوة أكبر،
أشار الطبيب إليك بأن تجلس في هدوء، رأيتها ممددة على السرير.
كيف أصبحت هكذا يا جميلتي؟! رأيتها تحدق بك وكأنها تطلب شيئاً، اقتربت منها. قال الطبيب بعدما التفت إليك: إنها تحتضر.
هل يغتالك الموت مني؟ لا تتركيني وحيداً، أبقي معي أرجوك.
لمست وجهها الذي فارق دفق الحياة وصرخت:
- إنها حية ولن تأخذوها مني، تشبثت بها كغريق فقد طوق نجاته! .. بكيت وتشبثت بها أكثر، نجحوا في إخراجك من غرفتها.
بقيت شهورا طويلة مريرة لا أدرك شيئاً سوى الهذيان بها.
والآن بعد ثلاث سنوات مضت ما زالت تحيا بداخلي كالأمس يريدون أن يستلوك من نفسي المشتاقة إليك.
أمي تقول:
- تزوج يا عبد الله، لقد كبرت.
وصديقي الوفي إبراهيم:
- أنت بحاجة إلى امرأة تعتني بك.
ما زلت أحيا بصوتها الذي صار في مسمعي بيتاً جميلاً.
فكيف أطلب بيتاً غير صوتها!!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved