أكتب هذا المقال بعد ساعات من الكارثة الإنسانية الرهيبة لزلزال سومطرة وينشر المقال قبل ساعات من نهاية العام الميلادي الحالي، وفي الوقت القليل الفاصل بين اللحظتين يندلع شريط من الرعب العالمي والإقليمي والعربي لأحداث لا تكف عن تذكيرنا بمدى التحديات التي ما يزال على المجتمعات البشرية مواجهتها بما لا يقل شراسة عن مواجهة تلك العصور الموغلة في القدم من زمن الكهوف والغاب رغم التقدم العلمي وكل ما كشفه من قوانين علمية يفترض أن تمكن الإنسان من حسم الصراع مع الطبيعة ومع مختلف قوى الصراع البشري لصالح حياة إنسانية أكثر عقلانية وسلاما وكرامة، وأقل خطرا وخوفا من مراحل سابقة في عمر الأرض.
ولا أنكر أنني حاولت الكتابة فيما كنت قد أعددته ليكون موضوع هذا المقال ولكن دون جدوى لأن يستجيب قلمي لأمر لا يريده أو يصم مسامه وصمامات قلبه وقلبي عن تلك الابتهالات الشاهدة على جبروت الإنسان وضعفه في آن واحد، فكيف لي أن أمنع تسرب تلك المياه المميتة الى حبري وإلى دورتي الدموية، وهي تحتدم في كل لحظة تنهش لحم الأطفال الطري وطمأنينتي معا أمامي، وكيف لي أن أخلص نفسي من وسواس السؤال، وقد تزامن موعد هذه الكتابة الأسبوعية مع حلول مأساة الزلزال التي حركت جزراً من مكانها. إنني بدون مكابرات الصرامة مع الذات لا أستطيع أن أوقف تجرح عيوني بالمشاهد السريالية الفاجعة لمرأى أولئك البشر الذين التفت حول رقابهم حبال الماء وحولتهم إلى نتف طينية معلقة على شجر مقتلع، مبددة الأنقاض أو متطايرة في الهواء، فأكتب وأصوات الحناجر الغريقة تمزق سمعي بذلك البكاء المكتوم الذي لم يكن لديهم وقت ليبكوه، وتلك الصرخات التي لم يمهلهم الموج لإخراجها من صدورهم.
ومن المفارقة أن ينتهي العام الميلادي الحالي بكارثة إنسانية رهيبة وكأنها تتويج لمسلسل الكوارث الذي حاق بالعالم وبهذه المنطقة من العالم طوال العام، تارة بفعل البشر وأخرى بفعل تعاون البشر مع العوادي الطبيعية، فمن الحقائق التي أصبحت بديهية في هذا العصر، وإن كان أشد الناس جهلاً بها أو تجاهلاً لها هم عادة مع الأسف من يملكون القرار في هذا العالم، هي حقيقة أن علاقة الإنسان مع الطبيعة قابل للترشيد، وهي لا يمكن أن تؤدي في بعض حالاتها لأن تتحول إلى هزيمة ماحقة للإنسان بما فيها حوادث الصراع المراوغة والمفاجئة مثل هذا الزلزال إلا إذا تواطأ الإنسان معها ضد نفسه، وضد الأرض التي يقيم عليها. فالدول التي تنغمس لأسباب اقتصادية في بناء الصروح السياحية نادرا ما تسمح لها أحلامها الربحية بان تضع في ميزانها حساباً لمثل هذه المفاجأة غير السارة، ولا لماهو اقل منها خطورة، بل على العكس من ذلك غالبا ما يتم بناء القطاع السياحي على عداء مقنع للطبيعية باسم الاحتفاء بها، يقوم بالاعتداء على عذريتها بالمنتجعات وسواها من الوسائل السياحية الناعمة مظهريا الخشنة داخليا، وذلك حتى لا نسمي الأشياء بأسمائها، كما أن ذلك كثيراً ما يكون باتباع أساليب عزل لا تخلو من القسوة والتوحش بين أجزاء المناطق المعنية فترتع الطبيعة في بدائية أليمة دون حد أدنى من الاستصلاح، ويعيش فيها السكان في فقر مدقع، وفي حالة تفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية الصحية، بينما في امتداد تلك المناطق تخضع الطبيعة لعملية (استصناع) وتطوير جارفة وجارحة دون أدنى رحمة باحتجاجها، وفي الحالتين تكون خسارات ذلك باهظة في إمكانية إقامة علاقة سوية بين الإنسان وبين الطبيعة، وبينه وبين عواديها إذا حدثت على حين غرة كما في زلزال مطلع الأسبوع نهاية العام، وعلى أنني لا أريد أن أبدو وكأنني فجأة قد انضممت إلى (حزب الخضر) وإن كان ما يطمئنني في الشبهة أنه ليس بحزب سياسي، فإنه لا بد من التذكير في هذا السياق بمقولة سيسيولوجية مهمة، وهي مقولة شائعة بين المختصين في العلوم الاجتماعية وبالأخص المختصين مثلي في علم الاجتماع، وإن كان يبدو أنهم وحدهم الذين يتمسكون بها لتكدير السياسيين ليس إلا طالما أن ليس بأيديهم وضعها موضع التنفيذ، أو على الأقل موضع التجريب لاختبار صحتها، وتلك المقولة هي القائلة بأن أنظمة الأوطان والمجتمعات التي تكون أقل عدائية في علاقتها بالطبيعة والتي تحتاط للطوفان ولحالات الطوارئ في كوارث الطبيعة ببناء نظم إنقاذ عالية الجودة بهدف غير تزيين بنيتها التحتية والتباهي الإعلامي تكون الأقدر على إنقاذ ما يمكن إنقاذه عند الحاجة.
وإذا كان لذلك متطلباته التقنية التي قد لا تتوفر لغير العالم المتقدم إلا لمن يسعفهم استيراد التقنيات الفنية اللازمة لمواجهة الأزمات الطبيعية هذا إذا عرفوا كيفية استخدامها فإن لها أيضاً متطلباتها من حيث رصد تكلفة احتياطية مسبقة لعمليات الإغاثة السريعة ووجود طواقم بشرية مدربة، وذات فعالية في عمليات الإغاثة وإلا تحولت هي نفسها إلى عبء، وإلى مصدر لتفاقم الأضرار وأصبحت الطواقم المنقذة هي نفسها بحاجة إلى إنقاذ كما هي حالة بعض حكومات الإنقاذ في العالم الثالث الذي رغم تغير ترتيب المنظومة التي سمي على أساسها بهذا الاسم فإن أحداً لم يقترح له اسما بديلاً بعد، ومن الأمثلة التي يمكن أن تساق للتدليل على صحة تلك المقولة تضامننا مع السوسيولوجيين وليس نكاية بأحد آخر مثال إعصار فرانسيس، إذ بينما نجح ذلك الإعصار في إلحاق نكبة مادية وبشرية بجزر هايتي التي تعاني من العوز الاقتصادي والتأزم السياسي والاستنزاف السياحي الأمريكي، فإنه عندما انتقل إلى ولاية فلوريدا الأمريكية لم يستطع أن يعيث فيها نفس الفساد لأنها كانت مستعدة بأبينة زنرت بحزامات أمنية وبفرق إخلاء فعالة سارعت في وقت قياسي بإخلاء المناطق البحرية. ومن المعروف في الكوارث الطبيعية أن دقيقة واحدة تفرق في إمكانية إنقاذ العديد من الأرواح التي تكون معلقة بين قدرين مثل ما قال خبير الزلازل هيروو كاناموري.
وأختم بأن مثل هذه الكوارث الطبيعية على فداحتها وآلامها المبرحة قد تكون مثل صفارات الإنذار التي تذكرنا أو يجب أن تذكرنا بالحاجة الملحة إلى التضامن العالمي على أساس من العدالة في العلاقات الدولية وليس على أساس من الإلحاق والتتبيع بما يجعل المجتمع الدولي قادرا على مواجهة التحديات التي لا تحصى والتي ما يزال علينا مواجهتها إن أردنا حقا أن نعيش بسلام على هذه الأرض ونعمل على إعمارها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|