الرجوع إلى تاريخ الأمة يستدعي الاطلاع على تاريخ نخبة من البناة المؤسسين الذين كافحوا وجاهدوا بل وخاطروا بأرواحهم في سبيل نشر الدعوة وإعلاء الرسالة واستعادة المجد.. واطلاع لا يستهدف الهروب من مخاوف الانكسار في حاضرنا إلى عز الانتصار في ماضينا لمواساة أنفسنا الجريحة.. وإنما لاستلهام العبر من الماضي لنتصدى للحاضر بواقعية فنصنع مستقبلاً مشرقاً.
الملك عبدالعزيز - رحمه الله - شخصية قيادية عظيمة.. حققت إنجازات كبيرة في وقت قصير نسبياً رغم شح الموارد ونقص خبرة الأعوان وصعوبة الاتصال في ذلك الزمان، وحري بنا ونحن اليوم ننعم بثمار إنجازات هذا الملك العظيم أن نرجع إليه لنترسم خطاه، ونتعرف على منهجه القويم في معالجة المعضلات، في ظل تسارع الأحداث والظروف العصيبة في مجرياتها المؤلمة في مخاضها، التي يتفاعل بها المشهدان الداخلي والخارجي تفاعلاً سريعاً بعد أن جعلت ثورة الاتصالات من العالم قرية صغيرة، الأمر الذي أدى إلى تسارع معدلات التغيير العالمية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
إن أهم ما نريد مطالعته اليوم هو أسلوب الملك عبدالعزيز في الإدارة ومطابقة هذا الأسلوب على أوضاعنا الراهنة.. كيف استطاع رحمه الله لمّ شتات هذه الأصقاع المترامية الأطراف في كيان واحد، وفي زمن قياسي؟.. كيف تمكن من جمع أفئدة الناس حوله وكسب تأييدهم وولائهم له؟ وكيف تمكن من التكيف مع عناصر البيئة الخارجية المتربصة له تأهباً لانتهاز أي فرصة لإجهاض كل محاولة بناء أو طموح؟.. وكيف تمكن من القضاء على الفتن الداخلية ومحاولات التشرذم والهدم لإفشال جهود الأمن والتوحيد والبناء؟
في قراءة إدارية في سيرة الملك المؤسس كتب الدكتور حسين بن محمد العلوي يقول: (إن نمط الملك عبدالعزيز القيادي الذي ميز أسلوبه عبر مراحل التأسيس والبناء والتطور هو القيادة الموقفية.. وهي نظرية فيدلر التي تقول باختصار بأن نمط القيادة الأمثل يحدده الموقف، وفقاً لخصائص المجموعة التابعة للقائد، وطبيعة العمل المراد إنجازه، وخصائص القائد نفسه، والنمط الفعال هو الذي يتمكن من مزج هذه الأبعاد الثلاثة في نمط معين يتدرج بين التسلط والتسامح، أو بين المركزية المتزمتة واللا مركزية المتسببة، وبين الانفراد بالرأي والديمقراطية المتزنة في اتخاذ القرار.
في مراحل التأسيس الأولى كان الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، يعتمد على المركزية والحزم وسرعة القرار كأسلوب إدارة لاستعادة مجد الآباء والأجداد وفرض النظام وإشاعة هيبة الدولة وسيادتها، ومع بزوغ فجر الأمن والاستقرار وبدء مرحلة البناء والتطوير.. جاء أسلوبه متفقاً مع خصائص تلك المرحلة من حيث الدراسة والبحث والتشاور والتفويض.. كما كان أسلوبه في إدارة البادية يختلف عن أسلوبه في إدارة الحاضرة وأسلوبه في أوقات الحرب يختلف عن أسلوبه في أوقات السلم، وأسلوبه في أول عهده يختلف عن أسلوبه بعد توحيد المملكة، كما أن أسلوبه في التعامل مع من يثق بهم يختلف عن أسلوبه مع حديثي الولاء.
وبالإضافة إلى قدرته الفائقة في التكيف مع خصائص الموقف، كان يرحمه الله، قائداً تحويلياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، فالمتأمل في سيرته ومنهجه القيادي يجد أن فكره وفعله من النمط التحويلي، إذ استطاع أن يحول الشتات والفرقة إلى تجمع واتحاد، وحوَّل التقاتل والتناحر إلى قوة نظامية، وحوَّل الجهل إلى معرفة وعلم، وحول الفوضى إلى ولاء والتزام، والعصيان إلى طاعة نابعة من الذات بغير فرض ولا إجبار، وحوّل الفقر إلى وفرة ورخاء، ونقل اقتصاد القرية إلى اقتصاد الدولة، والانغلاق إلى انفتاح، وكأنه يرحمه الله، قد استشرف العالمية قبل بزوغ شمسها بمائة عام).(أ.د. حسين العلوي بتصرف).
من كل ذلك نستنتج أن الملك عبدالعزيز يرحمه الله كان قائداً موقفياً وتحويلياً قادراً على استشراف المستقبل بل وصناعته.. مما مكنه بتوفيق من الله من توحيد البلاد وتحقيق الإنجازات الهائلة التي حققها في وقت قياسي.. وبسرعة متناهية تضاهي سرعة الأحداث والمتغيرات التي واكبت مدة حكمه.
واليوم ونحن نمر بهذه الأحداث المتسارعة وهذا التحول في النظام العالمي.. نتيجة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وإفرازاته على المنطقة.. ومشروع الشرق الأوسط الكبير.. ومتطلبات الانضمام لمنظمة التجارة العالمية.. وما يتطلبه ذلك من تغييرات داخلية على المستوى الذاتي (الإنسان والمواطن).. وعلى المستوى الموضوعي (المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية).. نعود إلى صفتين قياديتين هامتين تميز بهما الملك عبدالعزيز يرحمه الله، وهما القيادة الموقفية والقيادة التحويلية، فنجد فيهما الكثير من العبرة التي يجب أن نتحراها في اتخاذ القرار ومواجهة المتغيرات.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة تراعي الموقف الداخلي والخارجي.. قرارات قائمة على رؤية واضحة مبنية على (معلومات دقيقة شاملة حديثة..) قرارات تشمل المجالات السياسية والاقتصادية في المقام الأول.. لجعل أنظمتنا قادرة على التواؤم مع الأنظمة العالمية التي سننفتح عليها ونتعامل معها كحكومات ومؤسسات وأفراد شئنا أم أبينا، وهذا ما تحاوله القيادة الحالية التي ورثت فكر المؤسس الأول.. الملك عبدالعزيز ورؤيته.
كما أننا بحاجة لتحويل الإنسان السعودي إلى مواطن عالمي قادر على التعامل مع المتطلبات العالمية الجديدة.. أي إلى إنسان مسلح بالقيم والمفاهيم الحضارية السليمة التي حثنا عليها ديننا الإسلامي.. ومنها الإنتاجية، احترام الآخر، احترام الوقت، سلامة الاعتقاد وإبداء الرأي.. الخ.. إنسان يتمتع بمهارات وقدرات في جميع المجالات.. تمكنه من التفاعل مع الآخر والظروف المحيطة بكفاءة واقتدار.. كالمهارات البحثية والتخطيطية والتنظيمية والاتصالية والذهنية والفنية.. الخ.. إنسان يتميز بسلوكيات إنسانية ومهنية تمكنه من اكتساب احترام الآخرين وثقتهم، حتى لا يكون مصيره الخسران في معركة غير متكافئة مع أفراد أفضل تأهيلاً وأكثر كفاءة عند استكمال عصر الانفتاح وانتهاء عصر الحماية.
ولمزيد من التعمق في هذا الموضوع.. نواصل الأسبوع القادم سلسلة مقالات نستعرض فيها بعض أهم متطلبات المرحلة العالمية الجديدة التي علينا مجاراتها.. لكي نبقى في حلبة السباق وننافس على المراكز المتقدمة.. خصوصاً وأن الحكومة قد رفعت راية الانطلاق في سباق التنمية والتقدم والازدهار بالإعلان عن أول انتخابات عامة في أول محرم 1426هـ.
فاكس: 4792350 |