فاجأت ليبيا العالم بالإعلان عن تخليها عن امتلاك صواريخ يزيد مداها على300 كيلو متر وكشفها أيضاً عن تفاصيل برامجها الخاصة بأسلحة الدمار الشامل وفتح أراضيها لخبراء هيئة الطاقة النووية الدولية لتفتيش المواقع ومراجعة الخطط واستجواب المسؤولين الليبيين المتصلين بذلك.
ثم توالت المفاجآت بالإعلان عن محادثات سرية سبقت القرار الليبي أجرتها ليبيا على مدى تسعة أشهر مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا حول برامجها التسليحية، ثم إعلان سيف الإسلام القذافي نجل الرئيس الليبي للصحافة عن أن الولايات المتحدة تعهدت بحماية الأراضي الليبية وأن الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني سيقومان بزيارة لليبيا قريباً لتتويج هذه الخطوات.
وكانت المفاجأة الكبرى أن الرئيس الليبي نفسه بدا مختفياً عن الصورة وكأنه لا يعلم شيئاً عما يدور وكأنه أراد أن يوحي للمخدوعين أنه كما يحب أن يردد دائماً فرد من الشعب وأن الشعب هو الذي يحكم، مع أن الحقيقة غير الخافية أنه هو المتحكم في رقاب البلاد والعباد.. ولكي (يحبُك) الدور جيداً أعلن القذافي في تصريح رسمي أنه (يرحب بالبيان الذي أعلنه وزير الخارجية الليبي) الخاص بالتخلي عن برامج أسلحة الدمار الشامل، وكأن القذافي رئيس بلد آخر وكأنه علم ببيان وزير خارجيته المؤتمر بأوامره من وسائل الإعلام!! هكذا بدا المشهد الليبي الذي جذب إليه أنظار العالم وحرك قريحة الساسة والمسؤولين في مختلف دول العالم معلنين إعجابهم بالخطوة الليبية الجريئة، ومعتبرين تلك الخطوة مثالاً يحتذى خاصة من الدول التي ما زالت تصر على ركوب موجة المروق والعصيان وفق التعبيرات الأمريكية.
لكننا.. وسط ضجيج ردود الأفعال على قرارات القذافي الفجائية نتوقف أمام المشهد مؤكدين ما يلي:
أولاً: أن تلك القرارات المفاجئة من الرئيس الليبي جاءت كحلقة من حلقات سياساته المتخبطة التي تعودت عليها شعوب العالم خاصة الشعوب العربية والإسلامية، فقد عُرف عن العقيد القذافي منذ تولي سدة الحكم بانقلاب عسكري مدبر عام 1969 أنه صاحب قرارات ومواقف وتوجهات يناقض بعضها بعضاً، ويختلط حابلها بنابلها، فمن مشاريع الوحدة العربية إلى التخلي عن العروبة والاتجاه نحو إفريقيا والتهديد بالانسحاب من الجامعة العربية، ومن حركات بهلوانية لفرض الوحدة الاندماجية على مصر إلى مناصبتها العداء في عهد السادات، ومن دعم ثوار أيرلندا إلى السعي للإفراج عن الرهائن الأمريكيين في الفلبين، ثم من ثورة الصمود والمقاومة ضد الإمبريالية العالمية الاستعمارية إلى السقوط المدوي أمام الأوامر الأمريكية البريطانية، ومن الخطب النارية ضد الكيان الصهيوني إلى إرسال الوفود الليبية بزعم الحج في القدس والدعوة لإقامة دولة (إسراطين)، ولم تكن أفكار الرجل ومعتقداته أقل غرابة وتناقضاً عن مواقفه، فقد أنكر السنة النبوية المشرفة ودعا إلى حذف كلمات من القرآن الكريم وتهجم على الحجاب والطواف ببيت الله الحرام، وهو صاحب المقولة المشهورة: (لتذهب القدس في ستين داهية)!!
وهكذا أصبح الرئيس الليبي وسياساته ومواقفه على امتداد ثلث قرن بمثابة حالة غريبة من المتناقضات تسببت في تبديد ثروات الشعب الليبي للإنفاق على مغامراته وسياساته المتناقضة التي جعلت منه أشبه ما يكون بالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فهو يتحمس لمشروعٍ اليوم ويحيطه بهالة من الدعاية ثم يهدمه في اليوم التالي ودون مقدمات، ويتحول بعد ذلك لمشروع ثان ثم ثالث ورابع، ويفعل بها ما فعله بالأول، وقد كان ذلك مسلك القذافي مع برامج التسليح المتطورة، إذ لم يدر الشعب الليبي المبتلى، لما أقدم القذافي على تلك البرامج ولا لماذا تخلى عنها؟! وربما الأمر الوحيد الذي يعرفه الشعب الليبي ومعه شعوب المنطقة أن القذافي خاف أن يُفعل به كما فُعل بصدام فسارع لرفع الراية البيضاء معلناً التسليم على أمل أن يبقى في الكرسي أو يورثه لأحد أبنائه، دافعاً ما يطلب إليه من ثمن.. وتلك مصيبتنا في الزعامات الكرتونية التي تبدو في صورة فرعونية على شعوبها وتتهاوى كورق الشجر اليابس مع أول هبة ريح.
ثانياً: إن حالة القذافي هي امتداد للحالة السرطانية التي ابتليت بها الأمة في النصف الأخير من القرن الماضي.. إنها حالة الزعامات القومية والاشتراكية والبعثية التي ابتلينا بها من خلال حركات ثورية وزعامات ضالة مضلة أحيطت بهالة ضخمة من الشعارات الخادعة والزائفة والمخدرة للجماهير التواقة للتحرر من الاستعمار في ذلك الوقت، وقد كان المثال الأكبر على ذلك جمال عبدالناصر الذي خان الأمة وأورثها هزيمة ثقيلة لا تزال تعاني من وطأة آثارها، وقد كان الزعيم والملهم والموجه للقذافي.
وقد أخذت تلك (الحالة) الكاذبة بزعاماتها وأيديولوجياتها دورتها مع الأيام وفعلت أفاعيلها بالشعوب المستضعفة ثم تجلت الحقيقة في النهاية كالشمس في رائعة النهار كاشفة خواء تلك الزعامات وعمالتها للصهيونية العالمية والاستعمار الدولي، وفساد تلك الأيديولوجيات التي أذلت العباد وضربت البلاد وأورثتها الذل والهزائم والتخلف الاقتصادي والبؤس الاجتماعي وثبت أنها لم تكن سوى حلقة من حلقات الاستعباد التي ألقى بها الاستعمار العالمي لتطويق أعناق الأوطان وطيّها تحت سطوته، كما ثبت أنها لم تكن يوماً إلا خادمة للمشروع الصهيوني السرطاني في المنطقة.. فهل يدخل القذافي بعد كل ذلك إلى جحر النسيان ليلحق بمن سبقوه أم أن جرابه ما زال فيه المزيد من المغامرات المراهقة؟
ثالثاً: منذ أن أعلن النظام الليبي مواقفه الجديدة المفاجئة تحول السياسيون في الغرب وتحولت وسائل الإعلام الغربي حياله مائة وثمانين درجة فأصبح المثال النموذجي الذي ينبغي الاحتذاء به وسكت الكلام عن ملف النظام الليبي في انتهاك حقوق الإنسان، ونخشى أن تضيع قضية آلاف المضطهدين والمعذبين القابعين في سجون القذافي التي كشفت منظمات حقوق الإنسان الدولية عن بعض ما يجري فيها بحقهم من أهوال، بل نخشى أن تضيع قضية الشعب الليبي المصادرة حريته وحقوقه في التعبير واختيار حكامه، وهو الشعب الذي انقطعت أنفاسه تحت نير السلطة العسكرية على امتداد ثلث قرن.
فهل يتناسى الغرب ذلك ويتنكر لشعاراته في سبيل تحقيق مصالحه؟!
لكن إن نسي الغرب ذلك أو تناسى فإن رب الأرض والسماء سبحانه لا ينسى، وإنما يمهل ولا يهمل حتى إذا أخذ الظالم لا يفلته ويكون عبرة للمعتبرين، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً لكل متجبر ظالم في الأرض يعيث فيها الفساد.
|