ذهبت في الأسبوع الماضي إلى مركز الانتخابات الذي لا يبعد سوى خطوات عن منزلي، وهو ما شجعني على تأجيل هذه الزيارة أكثر من مرة، حتى ظننت أن الفرصة التي انتظرتها طويلاً وأهملتها طويلاً فاتت علي! وقد شعرت بالارتياح بعد هذه الزيارة، فقد كانت مقابلة القائمين على المركز جيدة، فلم يستغرق الأمر كله أكثر من ربع ساعة، سجلت خلالها البيانات وطرحت الأسئلة وأخذت الصورة، ثم خرجت من عندهم ومعي بطاقة بلاستيكية، وهي شهادة مؤقتة تجعلني مؤهلا لترشيح نفسي أو انتخاب الغير، ولم يلفت نظري حقيقة ما قيل عن قلة الإقبال على التسجيل، فقد كان المكلفون يعملون من الدوام، لم يجلس أحد منهم بدون عمل، وهم يعملون بإخلاص فلم أرَ تبرماً أو ضيقاً من الداخلين والخارجين من مقر تسجيل الأسماء أو البيانات.. وهذا مؤشر جيد، لعله يستمر في الأيام القادمة اعتباراً من بداية محرم، حيث تنطلق الانتخابات وحيث من المفروض أن تشهد المراكز تكدساً من المرشحين وأنصارهم!
لقد كانت الانتخابات البلدية موجودة في مدينة الرياض قبل أكثر من أربعين عاماً وكانت تلقى عناية ودعماً من سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض، ونفس الدعم كانت تلقاه هذه الانتخابات في كافة المدن، لكن ما يزيد عليها في بعض مدن منطقة الحجاز (مكة وجدة والمدينة) أن كل شيء يمس حياة الناس في هذه المدن كان بالانتخابات فمهن مثل (القرانة والزمازمة والبناء والحدادة وقيادة السيارات والصناعة وعمد الأحياء وغيرها) كل هذه المهن كان لكل منها شيخ يتم الرجوع إليه في حالة وجود تجاوزات من عامل أو بائع، وقرارات هذا الشيخ كانت نافذة وفورية، وكان أصحاب المهنة يحسبون ألف حساب لشيخهم، رغم أن هذا الشيخ المنتخب لا يقبض راتباً، بل ربما يصرف من جيبه على المهنة وأبناء المهنة، وهو راض قرير العين!
أما العمدة الذي كان يتبوأ المنصب استناداً إلى جاهه أو مكانة أسرته، فقد كان أيضاً لا يتقاضى راتباً من الدولة وإذا حصل على شيء من المال فإنه لا يكفي ثمناً لفناجين القهوة والشاي التي يشربها من يزوره في دكانه أو مكتبه، ولم تكن مهمة العمدة سابقاً مثلما هي الآن، فقد كان حاكماً (في الظل) للحي الذي يعيش، وهو يشعر بالعار أو المهانة إذا حدثت مشكلة في الحي الذي يعيش فيه دون أن يحيط بها وبأبعادها علماً!
فالعمدة (وهذا ما أذكره جيداً) كان يتدخل في النزاعات العائلية ومشاكل الأفراد (تسديد الديون والمنازعات) بل إنه يذهب بنفسه مع أي شخص يتعرض لمشكلة في المحكمة أو الشرطة للمساهمة في حل مشكلته، هذا ما أعرفه على الأقل عن عمدة حارتنا الشيخ عابد الطييلي رحمه الله، فقد كان الرجل يدير الحارة من دكانته التي يبيع فيها الفخار في سوق العياشة بالمدينة المنورة، وكان منظر الرجل وحده كافيا ليبث الرعب في نفوس أشقياء الحارة، وكان لهذا الرجل مساعد يطلق عليه النقيب يتولى نيابة عنه، مساءً تفقد الحارة والعسس حتى مطلع الفجر، فأين هؤلاء مما نراه من عمد هذه الأيام؟!
ما هو الفرق بين مرشحين في بلد كانت فيه نسبة الأمية لا تقل عن 95% ومرشحين نسبة الأمية في نفس البلد 5 أو 10%؟ المؤسف أن المرشحين السابقين رغم الفقر والأمية، كانوا جادين في الوصول بمواطنيهم إلى هذه النسبة من محو الأمية حتى إذا ما وصلوا إليها كان هدفهم من الكرسي الانتخابي واضحا، الأمن رحم ربك، والسبب ليس نابعاً من ذات المرشح ولكنه نابع أيضاً من ذات الناخب الذي رضي لمنفعة (مادية أو معنوية أو عائلية)أن يكون جسراً للناخب، دون أن يحس بوخز الضمير أو بحجم الجرم الذي يرتكبه في حق أهله ومواطنيه وقبل ذلك كله... بلاده، التي علمته وأطعمته وأمنت له كل سبل العيش الكريم! ومن يتأمل في انتخابات بعض الغرف التجارية سوف يجد نموذجا لهذه الانتخابات (الغموس) فقد طرح أحد المرشحين في عام من الأعوام أن يسدد الاشتراكات المتأخرة للغرفة لكل من ينتخبه، وبعضهم قدم هدايا مادية وعينية ومعنوية لمن يدلي بصوته لصالحه، وحالما تبوأ هؤلاء كراسيهم كان أول أعمالهم رفس من رشحهم، فمن يخون مرشحه لا يستحق سوى ذلك!
في الدول الراقية إذا شابت الانتخابات شبهة تلغى فوراً، وإذا لم يفِ المرشح بما قدمه من وعود لناخبيه يسقط فوراً، بل إن من يكتشف تزويره أو أنه قدم هدايا بهدف استمالة الناخبين، فإنه يقدم للمحكمة لتأكله الصحف بأخبارها وتعليقاتها وتأكله جدران السجن برطوبتها، وربما سقط تجارياً وعائلياً واجتماعياً!
إننا متفائلون بالانتخابات البلدية، لأن كل أمر من أمورنا لو تم بهذه الصورة سيرفعنا عالياً وسيساهم كثيراً في الحد من البطالة والغش والتربح والفساد.. فالصوت النقي والصادق.. أمانة، ونرجو أن يكون كذلك ونحن نخوض اختبارات سنة أولى.. ديموقراطية!!.
فاكس : 014533173
|