Wednesday 29th December,200411780العددالاربعاء 17 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

كل الوقت للموت.. يا ريمارك!!! كل الوقت للموت.. يا ريمارك!!!
عبدالله بن ثاني (*)

يا ترى هل كانت تدرك بطلة فيلم التيتانيك (كيت وينسلت) قيمة المعطف الذي دثرها به صديقها (رونالدو دي كابريو) في ذلك الجليد بعد تحطم السفينة الأسطورة في بدايات القرن الماضي على حرف جبل باذخ من الجليد، يطاول عنان السماء بغاربه، لو رآه ابن خفاجة الأندلسي لزهدت عينه في جبله الذي وصفه على يابسة الأندلس، وهل ما زالت تذكر فرق الطوارئ عندما أنقذتها من أعلى خشبة من حطام السفينة ووجدت رونالدو قد مات متجمداً بسبب البرد القارس؟.. صدقاً لا أتصور عطاءً إنسانياً مثل ذلك عندما تهب حياتك للآخرين وتمضي عن هذه الدنيا دون أن تنتظر منهم أي شيء يذكر، ولو قالوا شيئاً فلن يصلك، ولو وصلك فلن تلتفت إليه، فما أنت فيه أدهى وأمر في صورة تعطي بعداً يؤكد أن الإنسان قد يتخلى عن حب ذاته نتيجة موقف إيثار تتجلى فيه التضحية والبذل الإنساني الصادق ويغادر هذه الحياة ولا يقف العطاء غير المحدود عند حدود الجنس الإنساني، بل قد يتوافر في الجنس الحيواني مثل قصة جاموس استوقفتني قبل قليل في إحدى الفضائيات أثناء كتابتي هذا المقال، فقد هجم عليه نمران مفترسان وطرحاه أرضاً فتدخل جاموس آخر وأخذ يدفعهما عنه بقرونه ولما هرب المطروح من الموت دون التفات لما وراءه هجما على الجاموس المنقذ فطرحاه أرضاً وافترساه، ولا يختلف ذلك عن طائر القطرس القطبي الذي يذهب كل يوم للصيد حتى يطعم فراخه وحينما يعود خالي الوفاض يفتح جناحيه لفراخه الجائعة لتسد رمقها من ثندوته فيتهاوى ميتاً، ويسجل بدمه على سفر العطاء المحمود تضحيته لفراخ فكرت في ليلتها وتناست من يجلب لها الغذاء بعد غد مثلما تذكرت كيت تضحية رونالدو أياماً ثم عادت لحياتها كأي امرأة في هذا الكون وكأنها ملكة النحل عندما تعاقب الذكر (اليعسوب) بالقتل بعدما يلقحها وهو من يحفظ لها نوعها واستمرارها، وقد يكون البذل أقل من حياة ولكنه في تلك اللحظة أعظم من الدنيا بما فيها نتيجة الصدق في الشعور المتناهي، وهذا مما يفسر به موقف الكاتبة الإيطالية (أليرامو) مع الشاعر الإيطالي (دينو كامبانا) عندما يشتد به الغضب ويتفجر غيرة عليها فيختلط عشقه بكلمات قاسية وأحياناً يتطور الحزن والغيرة إلى اكتئاب ووسواس قهري ممزوجين بالكلمات والتشابك وصنوف العذاب وحين يمطرها بكل ذلك في لحظة غياب تصبر حيناً وتستنجد حيناً آخر بأصدقائه ومن في الشارع لينقذوها من تحته، وعندما تراه تحتهم وهم يقسون عليه تصرخ فيهم... (اتركوه إنه أعظم شعراء إيطاليا) ثم تأخذه إلى البيت تحاول تهدئته والتخفيف من روعه لأنها تعرف صدقه في حبه ولولا ذلك لما حصل هذا، ومثلها شهرزاد التي عالجت زوجها بعطاء ألف ليلة وليلة دون كلل ولا ملل، حيث تسرد له كل ليلة حكاية لا تكملها إلا في اليوم التالي لينام حتى تم شفاؤه من مرضه وعقده وهوس قتل البنات، وما أجمل عبارة د.عبدالله الغذامي في العطاء عندما قال في (المرأة واللغة): تشير جوديت فيتري إلى حادثة موت البطلة في رواية (وداعاً للسلاح)، حيث تتساقط الدموع من عيون القارئات ليس حزناً على المرأة التي ماتت وإنما هو الحزن من أجل فردوك هنري.. إن دموع النساء تسيل من أجل الرجال لأن عالم الرجال هو العالم المعتبر في هذه الرواية فأي حالة يمر بها الأدباء يا دينو وهم بين نوازع نفسية واجتماعية وسياسية في هذا الكوكب المتسلح، وأي جوع يعصرهم في حروبه وأي غربة تجتاحهم بعد سقوطهم وسقوط أوطانهم وهم مجتاحون قبل ذلك من القلق والاكتئاب والوسواس وعارض أرنست ولم يجدوا من يعذرهم في حالهم تلك وكأنهم ذلك المقال الأسود الذي كتبه نيابة عنهم جميعاً العقاد ذات يوم احتجاجاً على شيء ما في هذا العالم لم يعجبه فالتزم الصمت ولون الورقة البيضاء بالسواد تماماً وأرسلها لرئيس التحرير ونشر مقاله الأسود في اليوم التالي وكان الباعة يصيحون اقرءوا المقال الأسود للعقاد، وماذا يعني هيكل وما هيكل إلا مثل إن انصرف عن الكتابة أم عاد إليها لأن المجتمع المشغول لا يسأل عن قلمه ولن يسمعه عبارة مثل عبارة الكاتبة أليرامو السالفة، لقد عاد بعد تجاهله استجابة لنداء نفسه طائراً على الهواء بعد ما مل الكتابة على الأرض، عاد يحكي بأثر رجعي ما هو معروف وما هو مسكوت عنه مصلحة وحكمة فيما يخص مصطلحات النكبة والنكسة والخراب ليسمع زمناً أعمى قد فقئت عيناه وهو لا يؤمن بقولهم (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) لأن أدباءه البائسين قد سئموا تكاليف الحياة في ريعان شبابهم حتى أصبح زهير في نظرهم أديباً محظوظاً لأنه سئم تلك التكاليف بعد الثمانين، وقيض الله له كريماً مثل هرم بن سنان أعانه على نوائب الدهر، وما من كاتب حاذق في هذه الروايات البوليسية يستطيع رسم شخوصها بأكثر مما وصفت به نفسها حتى أشهدت الزمان والمكان على واقع أبلغ من الخيال وكأنه ممن وصفه (فيشر) حينما قال عن الخيال: (قد يكون واقعاً بالغ التركيز) ولا يريد الأدباء منه أكثر مما قاله كاتب فرنسي عندما رفع شعاراً خالداً ذات يوم بائس في قوله: (عش ودع غيرك يعيش أيضاً)، محتجاً على احتلال فرنسا للجزائر، الذي دام أكثر من قرن وربع القرن في زمن حرم الغزو والغنائم والسلب والنهب على الأفراد وشرع للدول غزو بعضها ومحاكمة رموزها، وأعجم لغات التفاهم والسلام وأغرب مصطلحات على الفرد والمجتمع بطريقة تفكير تناسب القرن السابع عشر الميلادي وثقافة تتدخل في ما يجب أن يؤكل وما يسمح به أن يمارس، وأصبح الفرد يحاذر حتى الأطفال وحتى الجدران وحتى التليفون.كما قال مظفر النواب فسجل شهادته على قساوة حزب البعث مثلما سجل ريمارك حقيقة الكشف والفضح والانتقام والتعرية لمنهج النازية في روايتين من أشهر الروايات البوليسية الحربية، هما.. (كل شيء هادئ في الحي الغربي)، و(للموت وقت وللحب وقت)، شهادة التاريخ على تلك الحقبة التي نقشت على سفر من حجر دكتاتورية ألف نيرون جديد يختلفون عن القديم في أنهم أكثر عالمية لا يكتفون بحرق روما واحدة بل تجاوزوها إلى حرق قارات أخرى وطمس هوية شعوب كاملة وجلسوا مقابلها على مرتفع يؤلفون قطعاً موسيقية يضربون بمخالبهم على أوتار الأمعاء والأشلاء وويلات النساء وصراخ الأطفال ثم مات نيرون وبقي رمزاً للسادية والاستبداد والتلذذ بإحراق المدن، مثلما انتهى نابليون بعد أن طاف الأرض عند صخرة في سانت هيلانة ولم تسمع أوروبا بموته إلا بعد أسابيع، وهي المدة التي استغرقتها الخيول لإبلاغ النبأ، فلماذا لا يقف هؤلاء الساديون والطغاة مع نفوسهم في خلوتهم ويرون حجم العذاب الإنساني الذي سببوه لكائنات تجتمع على كره رؤية أرض تحترق بأهلها ودمار يكتسح كل شيء وجوع يفتك بالبشرية حولهم مهما كانت المسوغات، ولقد أصبحت مهمة كل فرد في هذه المآسي مقاومة الانهيار النفسي الكبير في زمن الحروب بأصعب مما قاوم الكاتب وليم ويلر به محنة الحرب، فغمر عائلته بالحب في فيلم (أحلى سنوات حياتنا)، وتتمثل الصعوبة في أن العائلة كلها لا تملك وقتاً للحب بعد أن تسمرت عيونها أمام فضائيات الدماء والكوارث في المسلسلات والأفلام والأخبار وبرامج الأطفال، مما زاد من حجم الكارثة النفسية لدى الجميع في صورة تعد ما عالج الفارس العبسي عنترة به نفسه من دمار الحرب ضرباً من المستحيل، حينما عزى نفسه المحبطة من الواقع المملوء بالعنف وقاوم تلك النظرة السوداوية تجاه الحياة بسبب الحرب بتذكره عبلة وروحه في خطر... إنه قمة العطاء الإنساني والعودة إلى الفطرة السليمة، وكأنه يريد أن يثبت لمن خلفه أنه لم يكن شريراً وقاسياً حسبما تصوره الروايات والقصاص وكتاب التاريخ، بل قلبه مملوء بالحب والأمل ولذلك قال:


ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم

أتدرون لماذا تختلف؟ لأن الشر أكثر فتكاً، والحروب أكثر دماء في ظل أدب الاعتقال والمهجر والمنفى، حتى أصبحت الهجرة من صميم هذه الثقافة في هذا الزمن، ولا ننسى أدباء العالم الشرفاء الذين رفضوا الحروب والكوارث والدماء؛ إيماناً منهم بوحدة التجربة الإنسانية، فظهر الاتجاه الرومانسي وهو الهروب من المدن إلى الطبيعة وزرع الأمل بالنفوس المحطمة بعدما ذاقوا مرارتها على يد العسكرتاريا واصطلوا بنار جنرالاتها ورأوا نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية، ولذلك لا تعجبوا من تصرفات بعض المثقفين من الأدباء الكبار وإصابتهم بعارض إيرنست.. وهو مرض يبدو فيه الشاعر والروائي والكاتب شارد الذهن وزائغ العينين مكتئباً حداً لا يوصف، وموسوساً وحساساً، يحدق في وجوه الناس بطريقة مثيرة، يحسبه من يراه متربعاً على عرش التأمل والإبداع في وادي عبقر، وهو في مرحلة غياب وشرود وهروب وألم، وهذا ما أثبتته الدراسات النفسية الحديثة، وبسبب ذلك العارض كان انتحار الروائي هرنست همنجواي بإطلاق النار على نفسه، ومرض فرجينيا وولف ثم انتحارها، وانتحار ميشيما الياباني بسكينه تلك التي ختم بها روايته المشهورة (الجياد الهاربة) بعد أن نظر إلى قرص الشمس ثم أغمدها في صدره ومشي بلزاك في الليل من أجل أن يعد النوافذ المضاءة، وحلق سلفادور دالي نصف شنبه وعاش بقية حياته بنصف شنب.ولو نظرنا إلى أدبنا العربي وجدنا أمثلة لهذا العارض مع أنهم كانوا يعيشون كوارث أقل مما نحن فيه بمراحل، ولو أدرك السابقون زماننا لما عدوا اللون الأحمر (الدم) وثقافة القتل مقياساً للشرف والفروسية والكرم، ولا أدل عليها من ظاهرة القتل والانتحار، نسأل الله العفو والعافية، وإحراق الكتب وتمزيق المجلدات احتجاجاً على واقعهم الثقافي.
حكى أبو حيان التوحيدي حادثة انتحار شرقية نادرة، نسأل الله العفو والعافية، لا تختلف عما فعله الأدباء الغربيون، إذ قال: (شاهدنا هذه الأيام شيخاً من أهل العلم ساءت حاله وضاق رزقه واشتد نفور الناس منه، ومقت معارفه له، فلما توالى هذا عليه دخل يوماً منزله ومد حبلاً إلى سقف البيت، واختنق به، ففاتت نفسه في ذلك، فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه وتصرفنا)، كان الله في عون أدبائنا إذن وهو ذاته القائل: (ضاق اللفظ واتسع المعنى وانخرق المراد، وتاه الوهم، وحار العقل، وغاب الشاهد، في الغائب وحضر الغائب في الشاهد، وتنكرت العين منظوراً بها ومنظوراً إليها ومنظوراً فيها، فكيف يمكن البيان عن قصة هذا إشكالها؟ وأين الدواء والعلة وهذا عضالها).وقال ابن قتيبة في مقدمة أدب الكاتب: (فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين، أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ ليدخل في جملة المجدودين ويخرج عن جملة المحدودين، فالعلماء مغمورون، وبكرة أهل الجهل مقموعون حين خوى نجم الضمير وكسدت سوق البر، وبارت بضائع أهله وصار العلم عاراً على صاحبه...)، والله من وراء القصد.
(*) الإمارات العربية المتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved