لا يختلف اثنان على جدوى اعتماد نظام اللامركزية في الإدارة الحديثة لما فيه من سرعة إنجاز وتخفيف عبء عن كاهل المواطن، ولا أظن أن هناك عراقيا لم يكتو بنار التنقل من دائرة لدائرة، ومن مدينة لأخرى سعيا وراء توقيع مسوؤل ما على الورقة التي تتضمن طلبه مهما كان بسيطا.
ومن ينسى المنظر المعتاد في بغداد لتكدس مئات من المواطنين أمام أبواب بعض الدوائر الحكومية منذ الصباح الباكر أملا في إنجاز معاملاتهم، وأغلب أولئك المتكدسين عادة من أبناء المحافظات البسطاء الذين يضيعون في مجاهل بغداد بحثا عن الدائرة المعنية أو سعيا وراء فندق رخيص يؤويهم، ويناسب ما في جيوبهم من دريهمات قليلة، وقد أصبح حل هذه المشكلة متيسراً عن طريق تفويض مسؤول المحافظات صلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات دون حاجة للرجوع إلى المركز، وإذا اقتضت الضرورة القصوى ذلك فإن تقنية الاتصالات الحديثة تيسر إتمام الأمر خلال لحظات، وبناء على ذلك كله فإن المطالبة بتطبيق اللامركزية في كافة المحافظات العراقية دعوة مبررة تتسق مع المصلحة العامة وتتماشى مع روح العصر.
ولكن الغريب المريب هو أن يشتط المشتطون فيتجاوزوا حد اللامركزية ويطالبوا بتطبيق الفدرالية في بعض محافظات وسط وجنوب العراق، ويحسن التفريق هنا بين وضع تلك المحافظات ووضع كردستان، فإذا كانت دعوى الفدرالية في كردستان تبدو ذات أسباب واقعية (لعلي سأتناولها في المقال التالي) فإنها تبدو مجافية للواقع في بقية أنحاء العراق، ولا تخدم هدفا عمليا إلا إذا كانت تهدف للتمهيد لتقطيع أوصال البلاد، أو لتوفير المزيد من الرئاسات الإقليمية للمسترئسين، وما أكثرهم في العراق اليوم، ولو أمعن رافعو تلك الدعوة النظر فيما حولهم لظهر لهم على الفور عدم وجود دواع طبيعية أو بشرية أو اقتصادية تبرر دعوتهم، فلا حد طبيعي فاصل بين محافظة وأخرى، ولا تمايز في بناها الاقتصادية، وينتمي أغلب سكان تلك المحافظات لقبائل واحدة تمتد في أكثر من محافظة بل إن بعضها تنتشر في أغلب محافظات العراق كله.
والمحزن صدور آخر دعاوى الفدرالية من منطقة الفرات الأوسط، ويعرف كل ملم بتاريخ العراق دور هذه المنطقة في مسار تاريخ العراق الحديث والمعاصر، فقد انطلقت شرارة ثورة العشرين من رحابها، ومرغ ليوثها بأسلحتهم البدائية أنوف المحتلين البريطانيين بالتراب، وأجبروا الحكومة البريطانية للرضوخ لإرادة الشعب العراقي والاستجابة لبعض مطالبه، وقد ظل أبناء الفرات الأوسط يفاخرون بعد ذلك بدورهم المشهود في تلك الثورة التي أسهمت في خلق الدولة العراقية الحديثة الموحدة، ويغمزون جانب القاعدين عن الجهاد معهم، فيرددون (هوستهم) المشهورة (شط نار وشطين..) ولا أظن إن تلك النار قد خبت في تلك النفوس الأبية، كما لا أظن أن (الستمائة) الموقعين على عريضة الفدرالية يمتون لأولئك الأسلاف الكرام بصلة، وسيكون مصير هذه العريضة مصير عريضة وقعها بعض وجهاء البصرة سنة 1920م بإيحاء من المحتلين البريطانيين للمطالبة بإلحاق منطقة البصرة بحكومة الهند البريطانية.
*سياسي عراقي مستقل |