يتمتع الأطفال عند ولادتهم بمخزون وافر من الإمكانات التي تؤهلهم للتفاعل مع محيطهم بكفاءة إلا أن أشد ما يعوزهم هو القدرة على التواصل مع هذا المحيط بلغة مفهومة، لذلك يصبح الذكاء أداة تعبيرهم الوحيدة عن كل ما ينتابهم من جوع وألم وإحساس بالضيق والملل، ويمتاز كل منهم منذ ولادته بمزاج فريد يطبع أنشطته كلها من نوم ولعب واستجابة للمؤثرات الخارجية، وتعتبر هذه الخصائص الفريدة بمثابة الأرضية التي ستبنى عليها شخصية هذا الفرد مستقبلاً وهي المحددة لمعالم سلوكه خاصة في السنة الأولى من عمره وهذا ما سنتطرق إليه هنا بشيء من التفصيل.
لاشك أن العناية بالطفل عملية مرهقة فهي تتطلب تفرغاً شبه كامل من الأم، هذه المهمة تشكل تحدياً مستمراً خاصة خلال الأشهر الأربعة الأولى حين يكون سلوك الطفل عصياً على الفهم، إذ يصرخ ويبكي دونما سبب ظاهر، لكن بمرور الوقت تكتسب الأم خبرة تستطيع معها فهم ما يرغب طفلها بالتعبير عنه فتصبح أكثر ثقة بنفسها ويسهل عليها الارتباط الحميم بوليدها، تلك الصلة المميزة التي ستطبع شخصية طفلها إلى أمد بعيد.
رغم صعوبة التنبؤ بسلوك الطفل في هذه المرحلة لكن حاجاته تنحصر في الطعام والنظافة والشعور بالأمان فهو ينام بسهولة في معظم الأحيان عند تلبية هذه الحاجات وقد يحتاج بعضهم إلى طقوس معينة قبل أن يستسلم للنوم (كمص الإصبع أو أن يحمل على ذراعي أمه حتى ينام) وغالباً ما تعزو الأم القلقة بكاء ولدها المتواصل إلى الألم (المغص) أو إلى مرض ما فتكثر من زياراتها إلى الطبيب أو قد تلجأ إلى علاجات لا تجدي نفعاً، ولعل أفضل نصيحة أقدمها هنا هو أن يعطى هذا الطفل قدرا أكبر من الاهتمام ولا بأس من حمله حتى ينام إذ يحتاج الطفل خلال هذه الفترة من العمر خاصة إلى الكثير من الشعور بالأمن والثقة بمن يقدم له الرعاية حتى يتطور نفسياً بالاتجاه الصحيح.
حينما يجاوز الطفل شهره الرابع يصبح أكثر سلاسة فتقل حدة بكائه وتنتظم دورات نومه وطعامه إلى حد ما وتزداد مناغاته وابتساماته لمن يداعبه، وقد يساعده على الدخول في النوم وضعه في السرير مع لعبة طرية محببة إليه.
خلال هذه المرحلة (4-8 أشهر) تأخذ معالم مزاج الطفل بالتكشف وتصبح تصرفاته أكثر قابلية للتنبؤ وعلى الأم أن تتذكر أنها لم تكوّن هذا المزاج فهذا أمر مقرر سلفاً من قبل ولادته لذا فإن كل ما باستطاعتها هو أن تفهم طفلها وأن تتعامل معه بصبر.
حينما يبلغ شهره التاسع يصبح الطفل غالباً قادراً على الحبو وخلال أسابيع معدودة قد يتمكن من الوقوف والاستناد إلى قطع الأثاث، ثم يخطو خطوته الأولى عندما يقارب عامه الأول، لذا يجب على الأم ومن يساعدها في العناية بالطفل أن يولوا عناية خاصة لحمايته من السقوط من الأسرة وعلى السلالم وإبعاده عن كل ما يمكن أن يشكل مصدر خطر خاصة الأسلاك الكهربائية والمدافىء وحبال الستائر المدلاة وغيرها، فالرغبة العارمة في اكتشاف العالم عند الطفل في هذه المرحلة لا تترافق مع قدرة كافية على تمييز الضار من النافع فيما يحيطه.
عند هذا العمر ورغم حب الطفل لاستكشاف ما حوله إلا أنه يبدأ بالخوف من الغرباء ويزداد تعلقه بأمه وهذا تطور طبيعي ويدل على علاقة سليمة بين الأم وطفلها ولا داعي للقلق بشأن هذه الظاهرة ولا بأس من تركه برهة قصيرة بعيداً عن الأم لكن عند عودتها عليها أن تعامله بدفء وستجد أنه استعاد هدوءه سريعاً وستهيئه تجربة الانفصال القصير عن الأم إلى فترات أطول في الانفصال لاحقاً وستقوى فيه ملكة الاعتماد على الذات في قابل أيامه.
وأخيراً فإن السنة الأولى من عمر الطفل هي مصدر تحد كبير للأبوين خاصة إذا كانت هذه تجربتهما الأولى وعلى الرغم من النوم المتقطع والقلق من المجهول الذي يعانيانه إلا أن الشعور بالإنجاز والرضى عن الذات يجلب للأبوين متعة لا تدانيها أية متعة أخرى.
( * ) استشاري الأطفال وحديثي الولادة
حائز على شهادة البورد الأمريكي في طب الأطفال
زميل أكاديمية طب الأطفال الأمريكية |