عندما سطر يراع الأخ عبدالله حمد السبر مقالاً تحت عنوان: (الشعر النبطي هو مصدر التراث وليس له تأثير على الفصحى كما تدعون) في عدد الجزيرة 11734 ليوم السبت الموافق 1-10-1425هـ بدا في مقدمة مقاله مهاجماً لي بلا ريب ومهاجماً لكل من يحاول المساس بعاميته..!! حيث كتب مخاطباً إياي قائلاً: (لعله من المؤسف حقاً أن يطل علينا بين الحين والآخر من يدعي العلم والمعرفة والفصاحة في اللغة العربية والتعمق فيها) انتهى كلامه.
ومن قال إني أدعي العلم يا أخي الحبيب.. ألم يقل الله جل وتبارك: {... وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.. ولكن أقول: ألم تسمع بقول الشاعر الذي يقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
إلى قوله عني (بمجرد تخيله أنه وصل إلى درجة الفلاسفة في معرفة اللغة العربية، فإنه يحاول أن يجد له مكاناً ينطلق منه ليشتهر ويبرز اسمه في الساحة بمجرد تحريك ريشة قلمه ليكتب في مواضيع لا يعرف عنها شيئاً..) وله أقول: يا أخي هل لك بخير من هذا الأسلوب والذي لا يحمل لمتمعنه إلا التحامل؟ ولِمَ هذه النوايا.. والاختلاقات..؟؟ أو هل شققت قلبي لتعلم ما به؟.. يا سبحان الله!!.. فيا أخي مقالتي لم تكن الأولى لأسعى بها إلى ذلك، إذ هي تباع لمقالات سابقة وكثيرة وهذا من فضل ربي ولله الحمد في ذلك، فالأيام ضرستني، والخطوب دربتني، وأجازت لي أن أقف مدافعاً - وبكل فخر- عن لغتي المقدسة الفصحى لحظة رأيت أن العامية طغت واستفحلت.. وأخذت بمسامع العامة إلى أن احتلت على النصيب الأوفر من عقد المناسبات والأمسيات الخاصة بها في صورة تحكي التجاهل للغة القرآن والبعد عن تفعيلها!!
عزيزي إن لونك العامي الذي تنتصر له لم يكن له من حضور أو وجود في العصر الجاهلي أو عصر صدر الإسلام إذاً لِمَ هذا الهجوم، لِمَ هذه المكابرة والإصرار على أن عاميتك ليس لها تأثير على لغة القرآن، وبالتالي على لغة أجيالنا..!! واعلم أن أمر الفصاحة والبلاغة باب متعذر على الوالج.. ومسلك متوعر على الناهج.. ولكن هذا لا يجيز لك التطاول على لغتنا الفصيحة وتهميش دورها لتنأى أنت ومن ينهج نهجك بلغتك العامية ولتضعها في برج عاج!!
* أخي ألا تروم معرفة مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن الكريم.. كي تتخذه بحراً تستخرج منه الدرر والجواهر، وتودعه مطاوي كلامك خيراً من عاميتك.. وبدلاً من أن تعيّرني فيما نهجته في اتخاذ الفصحى منهجاً لكتاباتي.. والذي أقابلك إزاءه بالشكر وأجزيك خيراً بدلاً من ملاحاتك لأن الحق مع من يقف مدافعاً عن لغة الحق تبارك وتعالى، فكان من الأدب أن أنهج نهج الواقعية في الرد بعيداً عن الحماس الذي يقضي بالانتصار للنفس على حساب أخلاقنا, وكفى بلغة القرآن الكريم وحده آلة وأداة لاستعمال أفانين الكلام.. وهذا فخر لي ولا عجب!!
أخي عبدالله.. لتكن تجارتك في الكلام الفصيح لا العامي ولهجتنا الفصيحة هي لهجة القرآن الكريم فهيا افحص عن سره وغامض رموزه وإشاراته فهذه هي التجارة - ورب الكعبة - لا تجارتكم والتي تطبلون لها وما زلتم!! إني لا أوجب عليك نظم شعرك على الفصحى فذلك مرجعه للتذوق وإنما أريد احترامها، فقد ذكرت في مقالتك ما نصه (الشعر النبطي الذي لا أحد ينكر دوره فهو الذي قد حفظ لنا الكثير من القصص والأحداث والبطولات والمواقع التاريخية، وشعراؤه هم الذين أورثونا مجداً وتراثاً أصيلاً نعتز به), فكأنك من نص كلامك تحصر هذا الحفظ للتراث والتاريخ على لونك العامي وتتجاهل اللغة وتراثها وتتعسف النص، مهملاً ومتجاهلاً تلك المكتبات التي تزخر بالعديد من الكتب اللغوية الثمينة.. وفي موطن آخر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك في أسلوب مناقض لرأيك الأول قائلاً: (ونحن نعلم بما لا يقبل الشك أن الشعر النبطي (دون سواه) هو الذي حفظ لنا تراثنا وأصالتنا وعاداتنا وتقاليدنا المستوحاة من ديننا الإسلامي الحنيف وهو الوسيلة التي يعبر بها الكثير من الناس عن أحاسيسهم ومشاعرهم، ومليحه مليح وقبيحه قبيح، شأنه شأن الشعر الفصيح) انتهى كلامه..
في البداية تقول (دون سواه) ثم تستدرك قائلاً: (شأنه شأن الشعر الفصيح) ما هذا التخبط؟ وأي اعتساف للنصوص هذا..!؟
وها أنت تصمنا بأننا غير قادرين على فهم عاميتك وقصورنا في نظمها، وأعتقد أن الصعوبة في التلقي والصياغة هي أقرب ما تكون إلى اللغة الفصيحة لرقيها ورقي مفرداتها، وأنا لن أسخر بكم أو أتهمكم متجنياً بأنكم لا تفهمون شعرنا الفصيح كما اتهمتنا بقصورنا في الفهم.. فحاشاكم ذلك ولكنكم والله تفهمونها طالما أنتم تقرءون القرآن الكريم وتفهمونه وعلى اتصال به، ودليل ذلك فهمك لما يقال بالفصيح ولو بالمعنى.. أما العامية فهي لهجتنا الدارجة، ولا أعتقد بأن فيها شيئاً لم يفهم بعد!!
* ولتعلم يا أخي الحبيب بأن سبب تعاطف الكثيرين معكم في لهجتكم العامية مرجعه إلى أن الذوق العام عندنا ما زال أقرب إلى العامية.. والسبب هو أن الشعر العامي يفهمه الكثير من العامة، فالمثقف يعرفها وغير المثقف نشأ فيها ولم يعرف غيرها..!
لقد كتبت في مقالتك.. محتجاً بأن الشيخ عبدالله بن خميس يكتب بالعامية ويوصل للعامة ما يريد عن طريق العامية وهي أقرب ما تكون من اللغة الفصيحة.. وأعتقد أن ذلك الأمر لا يعتد به، بل هو مما أخذ على الكاتب ابن خميس الذي أسرف في الدعوة إلى تذوق شعر العامة وحفظه واستظهاره وتمثله.. والواقع المشاهد والذي لا يستطيع أحد إنكاره.. أن أنصار العامة وضعوا أيديهم في جيوبهم وأوكلوا إلى ابن خميس الدفاع عنهم وعن لغوهم.. وما زلت مستغرباً كيف يدعو إلى هذا وهو الذي ينتمي كعضو في مجمع اللغة.. ولكني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا ينتصر للعامية لأجل طمس اللغة الفصيحة وحاشا أن نعتمل ذلك في مضمون علمنا ولكن نأمل أن يتراجع عن هذا الانتصار للعامية!! لأن نقاء اللغة وبقاءها فصيحة مسؤولية كافة المتخصصين في اللغة والأدب وابن خميس أحد هؤلاء بلا ريب!!
* ألا تعلم بأن ابن خميس أثر عنه تعسفه الشديد في اختيار اللفظة من قاموسه القديم يتردد عن استخدام الحوشي والغريب وهو بنفسه لا ينكر على نفسه ذلك!! ولقد اطلعت في أحد مؤلفات الكاتب (محمد العوين) بأنه سأله ووجه إليه ذلك، ففي نص ما كتبه العوين حيث قال: (إن ابن خميس يمتح من إنائه وأن الغريب لدى الناس ليس غريباً عنده لمعرفته به وألفه ومجاورته لذوقه).
وقال العوين أيضاً: (ربما إن قراءات ابن خميس التراثية أسعفته بهذا الثراء اللفظي المتعب للقارئ، لكنه أفسد على القصيدة تدفقها الشاعري وصنعت من متنها وحاشيتها دفتراً كبيراً للعرض اللغوي أكثر من كونها سماء عالية رحبة فسيحة للخيال، والمشاعر ودفق الروح وغناها.. أقرأ له من الشعر فأحس أني أقرأ روح الواعظ بقسوة، كأنه يستخدم عصا اللغة في تأديب واقع الخطأ).. انتهى.
أخي عبدالله: أراك تحتج بأن ابن خميس شجع العامي والأدب الشعبي.. ولأقول لك نعم أوافقك في ذلك، بل إنه دافع واستمات في دفاعه حتى أخذ عليه من يتهمونه بإنفاقه جهده في دراسة معجم اللغة أنه يفسد أذواق القراء (بهذا اللغط من الشعر العامي)، والكل يرى أن ابن خميس حينما ينغمس في الأسلوب الشعبي فهذا فيه خسارة لأرباب الأدب واللغة الفصيحة إذ هو ثروة هائلة من المخزون اللغوي.. ولا أرى أمراً يستلزم أن يضع من نفسه محامياً لهذا التراث الشعبي ويرغب القراء فيه ويصرفهم وأجيال شابة قادمة عن رغبتهم في الأدب الفصيح ولغته العربية، فأنا أرى أن لا يرفع قضايا الدفاع عن الأدب الشعبي حتى لا تخسره ولا يخسره محبوه!! ومع كل ذلك إلا أني أرى أن ابن خميس أستاذ بارع ولا يجارى بحق!!
وبعيداً عن الشاعر والمؤرخ والمفكر الشيخ عبدالله بن خميس فإن مشكلتنا اليوم هي توجه من لا يستطيعون التعبير السليم باللغة العربية الفصحى إلى الكتابة بالعامية نثراً كما نرى عند بعض الكتاب على رغم ما تحمله العامية من فجاجة وغثاثة بخلاف الشعر الذي يتصف بالتوجه النبيل للارتقاء بذوق المتلقي وعشقه للغته الفصحى التي ينبغي له أن يتمثلها ويعني بها لأنها لغة القرآن، فكان حري بالمسؤولين عن الصحافة في صحفنا العزيزة ومجلاتنا وضع الحلول المناسبة لكبح جماح كل من لا يستطيع التعبير الفصيح عسى أن يضطر أولئك البشر إلى التوجه السليم لتصحيح ألسنتهم ومعالجة أوضاعهم الفكرية واللغوية والتخلص من أسباب الإعاقة التي يعانون منها!!
حقاً إنه يجب علينا أن نوثق صلتنا بالصحافة ووسائل الإعلام لتنشر للناس الذين لا يزالون يستعملون (الفنيلة والهاف والبجامة والبزبوز) بدلاً من (الشعار والتبّان والمنامة والصنوبر).
وهنا في نظري يبرز دور المجامع اللغوية والتي -في نظري- أرى أن تفعل دورها ونشاطها إذ أن كل ما يدور في أروقتها من مناقشات وجهود من مجلات ومحاضر ترسل للهيئات العلمية، الأمر الذي يجعل الاستفادة منها أمراً محدوداً وضعيفاً إن لم يكن معدوماً!!.. إذ يتوجب أن تصدر المطبوعات اللغوية الميسرة ليجدها المهتم في المكتبة العامة وفي المكتبة التجارية وفي حوامل الصحف والمجلات!!
طالما العامية هي مصدر تراثك فلم لم تكتب بها ردك!!؟؟
* عزيزي: الكتابة معركة فردية فارسها الصبر والإصرار.. غريمها روح الكاتب وجنانه.. ميدانها جسر ذلك الكاتب.. وأسلحتها جوارح المبدع صراع مع النفس.. وأدرك بأن صراعك مع نفسك حال كتبت ردك كان صعباً وألتمس لك عذراً في ذلك ولكن ألم تفكر في ترويض نفسك وكبح جماح غضبك وعنفوانك!!؟
تيار حرفك أمواجه عاصفة صخبها بريق حرفك.. وصهيلها رعد كلمتك الثائرة.. إلى أن استهلكت طاقة ثائرة من مشاعرك وأحاسيسك كان الأولى أن تحتفظ بها لنفسك وألا تحرج نفسك وتضعها في موقف حرج لتدافع عن عاميتك ضد لغة مقدسة هي لغة القرآن، أليس كذلك أخي الحبيب؟
* أخي عبدالله لتعلم بأن الذين يصنعون الكلمة يعانون ويحترقون من أجلها ذلك أنهم يعون أن الكتابة فعل ثقافي وهي تؤدي إلى انتفاع طرفي الحوار (الكاتب المبدع) و(القارئ المتلقي).
وأنا أراك في مقالتك تتشدق بعبارة تراثنا الشعري.. أو تقارن الشعر العامي بقوة وبلاغة الشعر الفصيح..؟ يا سبحان الله.. ألا تعلم حقيقة بأن الموروث من تراثنا هو لغتنا الفصيحة لا عاميتك، والتي تكسرت على نصالها ألسنة العامة وأصابها اللحن الممجوج بسبب هذه العامية اللقيطة!!
نعم اللغة الفصيحة هي تراثنا وموروثنا والذي يجب علينا وعليك وعلى أجيالنا التشبث بها لا عاميتك والتي أنهكت نفسك وقلمك بالدفاع عنها واستحضار أعلام دافعوا عنها على مضض..!!
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
لحن الشريف يحط من قدره
فتراه يسقط من لحاظ الأعين |
* أخي الحبيب ألم تسمع بجلسات ومؤتمرات أقيمت لأجل اللغة العربية، وأكدت في حديثها على قيمة اللغة العربية وضرورة أن يتيقظ العرب والمسلمون للأخطار والتي تحدق بلغتنا.. ألا تلاحظ مؤشر انخفاض مستوى اللغة في كثير من مدارسنا على الرغم من جهاد مناهجنا التعليمية والتي يلفها شيء من القصور إزاء ذلك.. هذا في كثير من الدول العربية، إن لهذا المؤشر خطورته على ثقافتنا وعلى ثقافة أجيالنا، وأنت تشجّع للعامية وتدافع عنها وتبرز ظهورها على حساب لغتنا، مردداً بأن لا تأثير للعامية على لغتنا الفصيحة إذ يفترض منك الاعتداد بالفصحى والاعتزاز بشرف الانتماء لها وتحفيز البواعث النفسية الكامنة وإبداء الآراء إلى وسائل التربية والتعليم وأجهزة الإعلام إلى تطبيق الفصحى وممارستها بشكل مستمر قدر الإمكان..!!
* إن ما يعوق لغتنا الآن أنها الآن أصبحت لغة كتابة لا لغة كلام!! ولو كانت لغة كلام لعاشت في السوق والمنزل ولنمت من تلقاء نفسها ولاشتقت ألفاظها من طبيعتها دون اللجوء إلى عوامل أخرى بينما العامية في أقطار الشرق أكثر طلاقة لأنها أصبحت ترجمان حياتنا الدارجة غير أن لا ضوابط ولا نظام يضبطها، فإنها لهجة غير مهذبة ولا طاقة لها بالتعبير الراقي عن جلائل الأشياء في مجتمعاتنا، أما لغة الكتابة (الفصحى) فقد انصقلت من ترادف الأيام وأحكمت ضوابطها في الألفاظ والأساليب لأنها استعملت في التعبير منذ أمد بعيد.
* إننا نقرأ ونلحظ ذلك الانقلاب من كبار الكتاب على لغتهم.. ومنهم من يستصفي من نفسه ما ترسب فيها من سلطان الفصحى ربما هو شعور بأن الفصحى صعبة المرتقى، عصية المنال وأنها ليست طيعة ولا مرنة لملاءمة حاجات حياتهم.. إنها ثورة على اللغة في نظري..!! ليست إلا ثورة (القضاء على الفصحى وإحلال العامية محلها).
* أحبتي اعذروني إن أطلت ولكن كان حتماً عليَّ أن أسطر هذه العبارات الشاكية وفاء للغتنا الفصحى وإذا ما علمنا أن التشكيك في تراثنا اللغوي وإلى اصطناع العامية على حساب لغتنا من الأمور التي يجب أن نتصدى لها بالحزم والقوة والمنطق والبيان الرفيع وإننا في حاجة الآن إلى كتابنا الكبار وإلى أدبائنا وعلماء اللغة ممن يمتازون بسداد الرأي والنظرة الثاقبة والإدراك اللغوي للعمل على مواجهة هذه العامية ومواجهة هذا الغزو وتنمية لغتنا العربية وصقل أجيالنا على لغتها الفصيحة وتعريب الألفاظ والمصطلحات المختلفة في شتى ميادين العلوم والحياة، وإننا نخشى بحق أن نضيع لساننا العربي الفصيح وقد قيل (إن إضاعة اللسان تعني إضاعة الذات).
* إننا أمام تورط عربي لغوي ثقافي كبير بالعامية وأمام استمزاج الكثير للهجة الدارجة.. وحري بنا أن نوقف هذا الزحف العامي على تراثنا اللغوي الأصيل!!
ولعل ما كان في أول أمر الإسلام من الدعوة إلى العربية يقف في صف الفصحى، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم (أرشدوا أخاكم فقد ضل) عندما لحن خطيب قوم بحضرته عندما جاءوا ليعلنوا إسلامهم!!
* نعم إن فصيحنا اليوم منسي!! إننا نجد بعض كتابنا يبتعدون عن الفصيح مع أن مفرداتها تفي باحتياجاتهم وتعابيرهم وما زلنا نلحظ أثر اللغة الأم في لسان متكلميها وهو أمر ماثل في لهجة عوامنا، فروافد اللغة الفصيحة ماثلة في القرآن والسنة النبوية فضلاً عن تراث الأمة اللغوي القديم المتمثل في الشعر العربي والأمثال الفصيحة، فنجد ألفاظاً شاع استعمالها في لهجاتنا العامية وهي الأصل في اللغة العربية الفصيحة لم يطرأ على حروفها أي تغيير لذا نجد الكثير من المعاصرين يهجرون تلك الألفاظ ربما لأنهم يظنون بأن اللفظة العربية إذا استعملت في اللهجات العامية فقدت قيمتها اللغوية أو إنهم يرون أن ما تستعمله العامة في أحاديثهم اليومية لا يرقى إلى اللغة الفصيحة وهم يجهلون حقيقة تلك الألفاظ كونها عربية فصيحة أي أنهم يجهلون أصل الألفاظ الفصيحة في لهجة العامة!! ولذلك مالوا إلى إهمالها!! لأن العامة تعارفتها وتناقلتها دون التنبه إلى مكانتها من فصيح اللغة!!
* وما أكثر أولئك الذين يحاربون الفصحى وهم يكتبون بها.. فهذا سلامة موسى أخبث رؤوس الدعوة إلى العامية ينحو باللائمة على الفصحى ويدعو إلى اتخاذ العامية لغة القراءة والكتابة والعلم ثم نجد أنه كتب جميع آثاره الأدبية بالعربية الفصحى ولم يكتب ولا مقالة واحدة بالعامية التي يحرق نفسه بالدعوة إليها!!
إن التأفف من الفصحى ليس حديثاً إذ هو يرجع إلى ما قبل ثلاثين سنة حين نعى قاسم أمين على اللغة صعوبتها، وهناك دعاة كثر للعامية منهم سعيد عقيل وغيره الكثير.
* أما عن (الأدب الشعبي) فكان أخصب عهد نشط فيه هو عهد الدول المتتابعة، ففيه انتشرت الأساليب العامية بين الناس ولعل من مسببات ذلك تغلغل العناصر الأجنبية في جهاز الحكم..!!
عن أي تحديات واجهتها اللغة الفصحى أتحدث.. إن الفن الشعبي أخذ يتأبى على العربية الفصحى وأخذ يتحداها بالعامية فمن قراءاتي قرأت (في خزانة الأدب) ما ذكره ابن حجة الحموي من أن زجلاً لابن مقاتل يتحدى فيه اللغة الفصحى ولا يسع المجال لعرض الأبيات!!
* وختاماً أقول لطالما ارتفعت صيحات عشاق العامية وهم يهتفون بالعامية لغة للأدب والكتابة والعلم.. وبذلوا جهوداً في سبيل تحقيق صيحاتهم، وقد باءت كلها بالفشل ولم تحظ هذه الصيحات إلا بالصدى يرتد إلى أصحابها لأن الدعوة إليها لا تعتمد على أسس متينة أو ضوابط ولا تستجيب لها العقول وإنما هي ضرب من التفلت من ضوابط المنطق وأصول الكلام.
وفي رأيي أن العامية لم تكن سوى ثورة على القواعد والضوابط التي تحكم اللغات وتضبطها وهي ضرب من التفلت والتحرر من قيود الإعراب وانطلاق حر في كل اتجاه من أسلوب الكلام.. (إنها لغة مسخ وتشويه شنيع للفصحى، وإذا وجد فيها شيء جميل وانضباط قرب فهو ما تبقى فيها من الفصيح على فصاحته كما ذكرت آنفاً قبل أن يتطرق إليها التشويه).
* ويكفي ما يصف قصور العامية هو أن بعض أربابها وأنصارها كثيراً ما يكتبون آراءهم وأفكارهم وافتراءاتهم على اللغة الفصحى بالفصحى ولا يستعملون لونهم العامي والسبب واضح وضوح الشمس في رابعة النهار؛ لأنهم لو حاولوا صياغة افتراءاتهم وكتابة آرائهم بالعامية: لما استطاعوا، ولو فعلوا لأخفقوا ووجدوا أنفسهم أمام لغة غثة تعجز عن التعبير الدقيق والأسلوب المحكم الذي تمتاز به لغة القرآن. إذاً يكفي أن نقول بأن العامية لغة فوضوية متشردة لا تستقيم على قواعد، ولا تضبطها موازين ولا تصلح لأن تلتزم بمنهج علمي أو قاعدة منطقية!!
* والشيء الذي لا يختلف عليه اثنان أن أي كاتب أو شاعر يريد ويود لكتابته أو شعره أن ينتشرا بين الناس تجده يتخذ من الفصحى طريقاً له، أما العامية فهي لا تتيح له وسيلة النجاح لأنها أداة قاصرة فمتى ما استخدمها كاتب أو شاعر نجد المتأثرين بها قلة قليلة ولا يفسح لها مجال في سجل تاريخنا!! وكم حاول بعض الكتاب الكتابة بالعامية بحجة أنها أقرب إلى تشخيص الواقع فكان أن خسروا تقدير المثقف الواعي وبعضهم تراجع بعد محاولته الأولى والتزم الفصحى على نحو ما وجدناه عند الكاتب محمود تيمور الذي جرب العامية ورأى أنها لا تصلح أن تكون وعاء لكتابة قصصية وأدبية خالدة مؤثرة فهجرها إلى غير رجعة، وأقبل يمارس إنتاجه القصصي والمسرحي بلغة عربية فصيحة ذات سهولة وبيان وإشراق، ثم تحول إلى باحث لغوي متمكن يدافع عن لغة القرآن (الفصحى) ويكتب فيها أبحاثه ودراساته، إذاً يتطلب على الكاتب والشاعر أن يرتفعا بوعي القارئ والناس عامة وبثقافتهم، وعليهما أن يهذبا أذواق العامة وعواطفهم ولا يسلكا سبيل التملق بالهبوط إلى درك دهمائهم!!
* ولم تؤهل العامية في أي عصر من العصور لتكون لغة أدب وفكر ولغة تأليف وكتابة لأن نطاقها محدود، ومجال التعبير ضيق ودائرة انتشارها لا تتعدى الإقليم.. وهي بحق قاصرة أن تضارع الفصحى في التعبير عن الخلجات والأفكار والحقائق والآراء إذ أنها لغة العوام الطبقة غير المتعلمة والفصحى لغة العلم والأدب والثقافة وعلى امتداد التاريخ لم نر أحداً كتب بالعامية وأنتج بها أدباً وعلماً ولا أدري بحق.. لم يكتب كاتبهم العامي أو شاعرهم؟؟ ألمجرد الكتابة وقرض الشعور والارتزاق فقط على حساب لغة البيان والفصاحة!!؟؟ ويكفي أن نعلم بأن شر العامية الأولى أهون علينا من شر عامية اليوم.
أما العامية الأولى فلم تكن تعدو حالات شاذة محدودة، منها الخروج عن القواعد العربية السليمة التي لا تأويل فيها ولا التواء (كالإبدال والقلب، وعدم المبالاة بمخارج الحروف).
أما عامية اليوم يا أخي عبدالله فهي شر مستطير ومن هذا الشر (ترك الإعراب، وتسكين الأواخر.. إلخ)، ولعل سبب تقلب العامية المستمر من حال إلى حال عبر العصور وفقدها عنصر الثبات هو ضعفها وسطحية جذورها لأنها لغة طفيلية تحاول أن تعيش على حساب اللغة الأم الأصيلة التي امتازت بعمق جذورها، وصلابة عودها لذلك كانت العامية سريعة التقلب!!
ثم ألا تعلم بأن الكتابة بالعامية عقوق للفصحى، بل حتى الدعوة إلى الكتابة بها وتشجيعها أو لمجرد الرأي بأنها لا تضر الفصحى وإن كانت هذه دعوتك ودعوة من يؤيدك فهي، مع احترامي الشديد لكم، دعوة ضيقة ودعوة إلى التقوقع على الذات وهي انطواء على النفس.
إننا نريد أن نحقق لنا مكانة مرموقة على هذا الكوكب بما نملكه من ثقافة وعلم وأدب ولن يتحقق ذلك إلا عن طريق الاعتزاز بلغتنا لغة القرآن الكريم والقضاء على ازدواجية اللغة.. وحصر اهتمامنا بالعامية وأدبها الشعبي في الدراسات التي تهتم بتأثرها هي باللغة الفصحى في الصيغة والدلالة وفيما تحمله من إشارات تاريخية واجتماعية تسهم في تدوين تاريخ بلادنا.. وما زلت أكرر حتى لا يساء الفهم أنني أقصد بالعامية هنا (العامية القديمة) التي غزتها عاميتكم الحديثة منذ 40 سنة (أربعين سنة) حتى غيّرت من ألفاظها ودلالاتها وأسقطت الكثير منها لغياب مدلولاتها عن الحياة!!
هذا نبضي وهذا دفاعي وما سطرت للرد بالمثل على أخي عبدالله بل لأبيّن جوانب مضيئة في لغتنا.. وأكشف الستار عن هذه العامية.. والتي حاول أنصارها من حيث لا يعلمون تضييق الخناق على الفصحى والقضاء عليها من خلال دعوتهم إلى العامية وتقريبها إلى ذوق أبنائنا، ولقد أحسست بهذا الخطر المحدق على لغة القرآن فكتبت هذه السطور فاعذروني إن أطلت، وليعذرني الأخ عبدالله إن جفوت عليه.. فمبعث ذلك إن حصل هو غيرتي على لغتي الفصيحة ليس إلا..!!
سليمان بن ناصر عبدالله العقيلي
المذنب - ص. ب 25 الرمز 51931
|