Monday 27th December,200411778العددالأثنين 15 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

الأصمعي في حضرة الناقدات الصغيرات الأصمعي في حضرة الناقدات الصغيرات
الجوهرة آل جهجاه *

في إحدى محاضرات مادة (النقد) لطالبات المستوى السادس في الجامعة كان هناك وقفة تحوّلت إلى مُساءلات نقدية، تسعى إلى تفعيل التفكير العلمي الإبداعي في قراءة نصوص التراث النقدي العربي وأخباره، وكان موضوع الوقفة موقفاً طريفاً بين الأصمعي (الناقد الذي ينتصر للقديم) وإبراهيم بن إسحاق الموصلي (الشاعر الذي ينتصر للمحدَث)، حيث الخبر: (حُكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: أنشدتُ الأصمعي:


هل إلى نظرةٍ إليكَ سبيلُ
فيُبَلّ الصدى ويُشفى الغليلُ
إنّ ما قلّ منكَ يكثر عندي
وكثير ممّن تُحبّ القليلُ

فقال: والله هذا الديباج الخسرواني، لمن تنشدني؟ فقلتُ: إنهما لليلتهما، فقال: لا جرم أن أثر التكلف فيهما ظاهر).
كان الأساس هو الاستشهاد على موقف النقاد أنصار القديم من الشعر المُحدَث في عصرهم، حيث يرفضونَه لمجرد أنه وليد الزمن الحاضر دون أي عناية بالجودة الفنية، واتجه النقاش إلى ضرورة تأمّل هذا الموقف وشخصياته ليس في إطار الموروث الذي نُحنّطه في قراءة واحدة لا حركة فيها، وإنما في إطار الموروث - الحاضر- الحي الذي يجب أن نُبدع في قراءته، وفي تحريكه في عدة اتجاهات، بالإضافة إلى أننا ننسى أن شخصيات النص (الشعراء والنقاد) بشر، يعتريهم ما يعتري الإنسان العادي من أفكار، وسلوكيات، ونوازع تُقرّبنا إليهم، وتُقرّبهم إلينا.
الموصلي (شاعر محدَث)، أنشد بيتَين دون أن يذكر نسبتهما، ربما لأنه يريد معرفة الرأي النقدي الصادق فيهما دون أي تشويش من معيار القديم والحديث، والأصمعي (ناقد قديم)، أُعجب بالبيتين، وأثنى عليهما بحكم تقويمي وصفي (والله هذا الديباج الخسرواني) دون أن يعرف أن صاحب البيتين محدَث، وحكمه هذا يعني أنهما في غاية الجودة والجمال تماماً مثل (ديباج خسروان)، ولما أراد الأصمعي أن يُتمّ ثناءه سأل عن صاحب البيتين ؛ ليعطيه نصيبه الخاص من الديباج، فكانت الإجابة صدمة له تداركها بسرعة، وحذق، وطيب نفس، وصدر واسع بحق.
البيتان محدثان، والأصمعي يتعصب للقديم تعصباً علمياً ظاهرياً، وقد انكشف أنه يُخبئ في داخله ناقداً حراً يتذوق جماليات المحدث وينفعل بها، فكيف لهذا التناقض أن ينفلت من سطوته ويظهر في انفعال عفوي؟ وكيف لهذا الشعر الجميل أن يُخِلّ بهيبة الناقد اللغوي الذي يترفّع عن المحدَث من الشعر؟ إذاً، لا بد من نقض الحكم، وتحويله إلى الضد بطريقة ذكية وسريعة ؛ فهو عندما قال: (لا جرم أن أثر التكلف فيهما ظاهر) بعد أن عرف أنهما بيتان محدَثان، علّق بما لا ينقض ظاهر حكمه النقدي الأول، وإنما أبقى عليه مع تغيير للتوجيه الدلالي له؛ فبدل أن كان (الديباج الخسرواني) كناية عن الجمال المحبوب والجودة المقبولة المُدهِشة، قلبَهُ إلى أن أصبح كناية عن المبالغة في الجمال وفي الجودة التي لا يستسيغها الذوق الفني؛ بسبب مجاوزتها للحد المقبول؛ أي بسبب التكلف الطاغي عليها.
وهذا الذكاء في قلب توجيه المعنى النقدي غير المباشر يكشف سر العبارات الوصفية التي يُكثر منها النقاد القدماء في كتبهم، حيث يسهل تحريكها لجهة الجودة ولجهة الرداءة وفق ما يتأتّى للناقد؛ فهي عبارات زئبقية تُطيع الناقد أينما هشّ عليها بعصاه.
هذا الانكشاف لوجود ذوقين شعريين داخل الأصمعي، يُعلِن أحدهما، ويكبت الآخر، استدعى قصيدته الوحيدة - حسبما نُسب إليه -، قصيدة (صوت صفير البلبل) التي منها:


صَوْتُ صَفِيْرِ البُلْبُلِ
هَيَّجَ قَلْبِيَ الثَمِلِ
المَاءُ وَالزَّهْرُ مَعَاً
مَعَ زَهرِ لَحْظِ المُقَلِ
وَأَنْتَ يَاسَيِّدَ لِي
وَسَيِّدِي وَمَوْلَى لِي
فَكَمْ فَكَمْ تَيَّمَنِي
غُزَيِّلٌ عَقَيْقَلي

***


فَلَوْ تَرَانِي رَاكِباً
عَلَى حِمَارٍ أَهْزَلِ
يَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ
كَمَشْيَةِ العَرَنْجِلِ
وَالنَّاسُ تَرْجِمْ جَمَلِي
فِي السُوقِ بالقُلْقُلَلِ
وَالكُلُّ كَعْكَعْ كَعِكَعْ
خَلْفِي وَمِنْ حُوَيْلَلِي
لكِنْ مَشَيتُ هَارِبا
مِنْ خَشْيَةِ العَقَنْقِلِي

***


أَنَا الأَدِيْبُ الأَلْمَعِي
مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوْصِلِ
نَظمْتُ قِطعاً زُخْرِفَتْ
يَعْجِزُ عَنْهَا الأَدْبُ لِي
أَقُوْلُ فِي مَطْلَعِهَا
صَوْتُ صَفيرِ البُلْبُلِ

وأُطلقت الأسئلة من خلال الشرط الذي اتفقنا عليه، وهو التفكير العلمي الحواري:
- ألا يمكن أن نقول: إن الأصمعي شاعر مُحدَث من خلال هذه القصيدة؟
- ألا يمكن أن نقول: إن الأصمعي الناقد ذو ذوق ينتصر للقديم، والأصمعي الشاعر ذو ذوق يتحدّى المحدثين ويتجاوزهم في الإبداع؟
- هل ينبغي للإنسان أن تتحد منطلقاته النقدية والإبداعية؟ وإلا حكمنا عليه بالتناقض؟ وكانت الأفكار تتحفّز للإجابة، وأحياناً للرد بسؤال على سؤال، حيث:
1- لُبابة أبو صالح: (عُرِف الأصمعي ناقداً، ولم يُعرَف شاعراً فيما عدا قصيدته الوحيدة التي وصلتنا (صوت صفير البلبل).. وعُرف عنه أنه ناقد متعصب للقديم، ولا يميل إلى الحديث من الشعر والأدب.. ولما ألقى قصيدته (صوت صفير البلبل) حُدِّث: إنه شاعر حديث يتصنّع العبارة، ويتكلف الشعر.. وحُكم عليه بأنه مُحدَث !! فما رأيي؟!!
لا يجب أن نُطلِق حُكما عاماً بناء على قصيدة واحدة، ولا يجب أن نأخذ بحكم عام ونُسلّم ذوقيتنا ورأينا وتفكيرنا له.. ولو جئنا إلى مناسبة هذه القصيدة التي كانت باباً لحكم أُطلق على الأصمعي.. لوجدنا أنه قالها في مقام تحد عند الخليفة أبي جعفر المنصور الذي عاجز الشعراء، وضيّق عليهم في إجزال المال على ما يكتبون احتجاجاً منه بأن ما يُلقونه بين يديه معلوم محفوظ عنده.. في حين أنه كان يتميز بأنه يحفظ القصيدة منذ سماعها للمرة الأولى.. إلى آخر ما ذكرته الحكاية.
ولأن الأصمعي يعرف هذا عن الخليفة آثر أن يُجبر نفسه، ويكتب قصيدته على هذا النحو المتكلّف.. وليس ما اتبعه فيها هو تلك الملامح التي تُكوِّن القصيدة عند الأصمعي، وإنما هي ملامح تحد خرجت بعد ضغط وجبر.. وليس ضمن عاطفة ورغبة أو لأقل (حاجة ما) أو مناسبة!!!.. لذلك ليس من العدل أن نحكم عليه حكماً بعيداً كل البعد عن سلوك القصيدة لديه.. فقط لأنه لم يصلنا سوى (صوت صفير البلبل) ذات المقام الخاص جداً!!!!.
ألا نُراعي (لكل مقام مقال)!!
ألا يكون المقام مبرراً لكثير من القول الذي لا ينتهجه صاحبه منهجاً أبد حياته).
وانبثق من تساؤلاتها سؤال آخر: ألا يمكن أن نُصدر حكماً على شاعرية الأصمعي من خلال القصيدة الوحيدة المنسوبة إليه؟ أو لا بد من وجود كم من القصائد نتتبع فيه هذه الظاهرة إن ثبتت أم لا؟ وهل من العدل أن نفصل بين أحكامه النقدية على الآخرين وبين ما ينظمه هو؛ انطلاقاً من حكم ذاتي يرتضيه لنفسه، ولا يرتضيه عند غيره؟ فكان الرأي الثاني:
2-آمنة عارف حجّاج: (إن الأمر - بالنسبة لي - رؤية وتذوق، بمعنى أنني آخذ الحكم النقدي المُعلّل والمبرر تبريراً منطقياً، أرتضيه - على أن النقد تذوق- وفيما عدا ذلك، لا أعتبره حكماً للأصمعي - أو غيره - على نص أدبي، أو ربما يدخل ذلك في سلسلة الأحكام التأثرية الانطباعية التي لا نسلم منها أحياناً، والتي لا نُعمّمها، ولا نقول: إنها رأينا القطعي في نص أو مبدع، ولو طبقنا ذلك على الأصمعي لكان ذلك صواباً - حسبما أرى-).
وانبثق سؤال آخر: هل يتعارض التذوق النقدي مع أن يكون للناقد سمة ذوقية غالبة أو ثابتة؟ وجاء الصوت الثالث:
3- سهام الزهراني: (الأصمعي حينما ينشد قصيدة يُلقيها كما تجيء في ذهنه في لحظته الراهنة، فلا يُعنى بنقدها قبلاً وتجويدها مثل زهير بن أبي سُلمى وتنقيح معلقته لوقت طويل قبل إنشادها.
إن للأصمعي طريقة يجب أن نفهمها، ونحكم عليه من خلالها).
وانبثق سؤال آخر أيضاً: ألا يعني هذا أن الأصمعي ناقد يحب - في أعماقه - فنون ما يصفه بالتكلف، ويخفي ذلك في داخله، ولا يظهره في أحكامه إلا بالصورة الرافضة للتكلف بوصفه عيباً شعرياً، ما دامت (صوت صفير البلبل) قصيدة مرتجلة؟ فجاء الصوت الرابع والأخير:
4- شريفة السُّلَمي: (برأيي ألا نحكم على الأصمعي بالتكلف من خلال قصيدة واحدة، فلو رأينا قصيدته (صوت صفير البلبل) لوجدنا التكلف مقصوداً منه بعيداً عن النظر في أسلوبه العام، أو النهج الذي يتبعه الأصمعي، فالقصيدة أتى بها هنا كالمعجزة التي يتحدى بها جميع الشعراء، فاستحق الجائزة القيمة التي حصل عليها، لما امتازت به هذه القصيدة من التكلف في الألفاظ والأسلوب الصعب الذي يجعل القصيدة صعبة القراءة، وهذا إن دل، فهو يدل على إبداعه، وليس عيباً يُعاب به، أو صفة نطلقها على شعره جميعاً).
وقفز سؤالان: أليس ما سُمّي (التكلف) فنّا من فنون الشعر، وباباً من أبواب الموهبة فيه؟
- ألم يتكوّن بين أيدينا قضية نقدية تستحق البحث فيها بشكل جاد في بحث مكثف أو رسالة علمية؟.
لكن قبل ذلك.. لا بد من توثيق حقوقهن الأدبية بنشرها.!!
لقد كانت سعادتي بحركة أولاء الناقدات الصغيرات كبيرة جداً، خاصة حينما تجدهن يذكرن الأساتذة الذين زرعوا هذه البذرة الطيبة في طريقتهن في التعامل مع المواد الدراسية والقراءات، أمثال: الأستاذة: هيفاء الفريح، والأستاذ: صالح المحمود، والأستاذ: إبراهيم العتيق.
إن ذلك ليُسعِد إلى درجة تغرورق فيها العينين شكراً لله تعالى أن مَنّ علينا في مسيرتنا التعليمية ببعض أساتذة وأستاذات فيهم من الفضل الكثير الذي علّمنا أن نبني شخصياتنا العلمية بعمق وإخلاص، وأن نثق في هذه الشخصية في حوارها النقدي الذي يلتزم آداب الحوار الإسلامي الأدبي، فتغدو الدقائق القليلة في الفصول الدراسية حياة أكثر بهاء من أجمل حدائق الدنيا، خاصة عندما يكون الأخذ والعطاء متبادلاً بلا أسوار فاصلة بين مقعد المتعلّم ومقعد المُعلِّم؛ وما كان نقل هذه التجربة إلا تأكيداً لإيجابيات التوجيهات التي تدعو إليها حكومة خادم الحرمين الشريفين دائماً من تطوير منهجية التعليم والتعلّم، وتحصين الطلاب والطالبات الفكري بتنظيم عمليات التفكير لديهم بما يُمكّنهم من تمحيص المقولات، وتحليلها تحليلاً صحيحاً يقيهم ما قد يُدسّ فيها من شر، ويجعلهم مُنتِجين مُبدعين في ميدان التأليف والحوار والبحث العلمي.
*معيدة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي /جامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية /عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved