Monday 27th December,200411778العددالأثنين 15 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

ما بعد الإنسان (2) ما بعد الإنسان (2)
عبد الرحمن الحبيب

في خضم مرحلة التبدلات العالمية سياسياً واقتصادياً تتنامى مصطلحات النهايات والمابعديات.. نهاية الإيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية المثقف الواعظ.. إلخ، ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الرأسمالية، ما بعد البنيوية.. والآن نحن أمام مصطلح ما بعد الإنسان! وقد تم تناول هذا المصطلح في المقالة السابقة من خلال استعراض الكتاب الأخير لفرانسيس فوكوياما ( OUR POSTHUMAN FUTURE) (مستقبلنا ما بعد الإنسان). والذي ذكر فيه أن فوكوياما تراجع عن فرضيته حول نهاية التاريخ، مقترحاً أن التاريخ لم يصل لنهايته بعد؛ لأننا لم نصل إلى نهاية العلم، مجادلاً بأن التقدم الأعظم سيأتي من علوم الحياة، ويطرح تساؤلات حول قدرة هذه العلوم على تعديل السلوك البشري، ومدى تأثيرها في الديموقراطية اللبرالية، موضحاً أن التقدم الهائل في علوم الحياة يدعو للتفكير في الصدمة التي تقوم بها هذه العلوم على السياسة والمجتمع، مما يؤثر في طبيعة البشر وقواعد سلوكهم، ومقترحاً أن إمكانات التقنية الحيوية (خاصة الهندسة الوراثية) كبيرة في تعديل طبيعة البشر، مما ينتج عنه تغير طبيعة الإنسان نفسه؛ لندخل في مرحلة من التاريخ يسميها مرحلة (ما بعد الإنسان) ما لم تتخذ المحاذير والاحتياطات والأنظمة لتنظيم تطور تلك التقنية.وهنا سنعرض لجانب من المناقشات التي طرحها المفكِّرون حول هذا الكتاب وفرضيته الجديدة. نُوقش الكتاب من أعداد غفيرة من الكتَّاب والمفكِّرين في الصحف والدوريات العالمية. البعض أثنى على القيمة العظيمة لهذه المواضيع دون أن يعني ذلك عظمة الأفكار التي طرحها فوكوياما. بعض آخر اعتبر أن فوكوياما مجرد موزِّع للذعر؛ لأنه لم يفهم التقنية الحيوية، بل ناقش الطبيعة البشرية المشوشة في ذهنه. وقد لاحظتُ، دون أن أقوم بالرصد، أن البريطانيين أكثر ميلاً لنقد أفكار فوكوياما والتقليل من قيمتها الفلسفية مقابل ميل الأمريكان نحو إطراء تلك الأفكار.
أولى الشكوك التي طُرحت هي في مدى قدرة فوكوياما فيلسوف الاقتصاد السياسي على إقحام نفسه في موضوع بعيد كل البعد عن حقله، وهي العلوم البيولوجية والهندسة الوراثية، مثلما طرح ستيفن روز (الجاردين)، بل إن فوكوياما نفسه طرح هذه المسألة في مقدمته معتبرها نوعاً من الحماقة (الإيجابية على أية حال). ورغم هذه الشكوك فهناك غالبية كبيرة ترى أنه يمكن اعتبار الكتاب دليلاً فلسفياً عاماً للقرن الواحد والعشرين، سواء كان ما بعد الإنسان أو لم يكن كما عبَّر كيفن شابيرو (كومنتري) وماجي جي (ديلي تلجراف). البعض بالغ في إطراء الكتاب وعدَّ قيمته هائلة جداً، كما عرض في صحيفة الإكونومست، وكذلك ما أشار إليه نك هاكوورث (إفننج ستاندرد)، وجون إكنبري (شؤون خارجية)، وروبرت هوتز (لوس أنجلوس تايمز).
ويعتقد ستيفن جوهانسن (الواشنطن بوست) أن أهم ما في الكتاب هو الرحلة الشيقة عبر علوم ما بعد الإنسان ومضامينها الخالية من الانحياز لأي اتجاه خلال التقدم النوعي للتقنية الحيوية. إلا أن الكتاب لم يسلم من النقد الحاد؛ فالكاتب كاس صنسين ( The New Repubic) يرى أنه رغم أهمية الموضوع وتحذيراته إلا أن أفكاره غامضة وناقصة معتمدة على أساسيات مضللة. الكاتب كنان مالك (New Stateman ) يرى أنه في عمق الكتاب لا نجد التقنية الحيوية، بل إن الفكرة تدور حول معنى الإنسانية.ولكي نفهم التحذيرات المبالغة في الكتاب لا بدَّ من فهم الارتباك في فهم المؤلف للطبيعة الإنسانية. ومن التعليقات التي لفتت نظري ما ذكره الناقد والكاتب البريطاني المشهور ( Bryan Appleyard) من أن كتاب (نهاية التاريخ.. والإنسان الأخير) السابق قد جعل من فوكوياما نجماً عالمياً، مما أعطى أهمية لكتابه الحالي. ووصف براهين وأفكار فوكوياما في كتابه الجديد بأنها تعاني من ضعفين؛ الأول: التفاؤل، بينما سياق فرضيته لا يحتمل التفاؤل، ويصعب الأمل فيه. الثاني: الفرضية ككل متأثرة بأطروحته (نهاية التاريخ)، فهو يصر على بقائه مخلصاً لها، رغم زعمه أنه تجاوزها.
ورغم تفاوت الآراء المتوقع حول أفكار فوكوياما الأخيرة إلا أنه يمكن استقراء شبه إجماع من الأغلبية على الأهمية الكبيرة للكتاب كدليل للمستقبل، خاصة في شرحه الواضح وتفسيراته السهلة وربطه بين التطور البيوتكنيكي والسياسة والاقتصاد السياسي، وتحذيراته المنطقية بغض النظر عن موافقة أفكاره أو عدم موافقتها، فالهندسة الجينية التي بدأت تتقدم علمياً بتواضع تُنذر بمستقبل غامض. الاستنساخ لم يعطِ إلا القليل من المناقشة، وذلك غير منطقي حسب فوكوياما، الذي أهم ما يعنيه هو إمكانات البيوتكنولوجي في تعديل طبيعة البشر، مما ينتج عنه تغير طبيعة الإنسان نفسه؛ لندخل في مرحلة من التاريخ يسميها مرحلة (ما بعد الإنسان)، وإن كان فوكوياما لا يطرح أفكاراً غريبة أو صدامية بقدر ما يطرح مقترحات غير محددة، موضحاً الأفكار المعارضة المتوقعة لطرحه.ورغم بعض المحاذير التي طرحت حول مبالغة فوكوياما في تقدير خطورة التقدم في التقنية الحيوية، فإن الكتاب وفرضيته الأساسية جديرة بأن تستحوذ على قدر كبير من العناية والاهتمام.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved