Sunday 26th December,200411777العددالأحد 14 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

بناء الفكر الوسطي لدى الطلاب وكيفية ترسيخه بناء الفكر الوسطي لدى الطلاب وكيفية ترسيخه
عبد الملك بن عثمان بن الأمير

الإسلام دين الوسطية والاعتدال في الأمور كلها، والوسطية هي اللفظ المقبول بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتقصير، والوسطية هي المقبولة بين الطرفين، والتطرف في اللسان العربي مشتق من (الطَّرَف) أي (الناحية)، أو (منتهى كل شيء)، وتطرّف (أتى الطرف)، و(جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط)، و(التطرف) مصطلح يضاد مصطلح (الوسطية) الذي هو من الوسط (الواقع بين طرفين)، كما يقول الأصبهاني في مفردات غريب القرآن، وهو يحمل في طياته معنى (العدل)، وفي القرآن الكريم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (143) أي أمة عدل.
وإذا أراد المربون أن يبنوا الفكر الوسطي لدى الطلاب فعلينا جميعاً معرفته، كما أراده الله ورسوله، وليس كما تريده الأهواء أو الآراء والاجتهادات الفردية أو الكتابات التي لا تستند إلى دليل صحيح ولا فهم سديد، ولن يدرك ذلك إلا الفقهاء الذين وفقهم الله لفهم النصوص الشرعية، ولديهم معرفة ودراية بقواعد الفقه وأصوله، كمعرفة المقيد من المطلق، والناسخ من المنسوخ، والخاص من العام.. وهكذا.
وعليه نقول مستعينين بالله: لقد نهى الله عن الغلو في كتابه العزيز في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}، الغلو هو مجاوزة الحد في القول والعمل والاعتقاد، والتفريط هو عدم القيام بالواجب تهاوناً وكسلاً.
والحق هو الوسط، فلا مجاوزة للحد ولا تقصير عن الواجب, وهو أن تفعل ما أراد الله على قدر الطاقة والإمكان، وتترك ما نهى الله على شكل الإجمال، فالعمل على قدر الطاقة والاستطاعة، وأما الترك فهو على العزم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فجعل الأمر مربوطاً بالاستطاعة لكون بعض الناس قد يعجز عن بعض العمل، ولكنه عزم في النهي فقال (فاجتنبوه) لعلمه أن كل أحد يقدر أن يترك المحرمات إلا من نسي أو جهل أو أكره أو اضطر، والإنسان مطالب أن يعمل على قدر طاقته ووسعه {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، ثم قال: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، فالله سبحانه قد كلف الناس على قدر طاقتهم ووسعهم ولم يحملهم ما لا يطيقون، فمن عمل بهذه الآية حق العمل فقد قام بالتوسط، فهو يعمل بالدين بلا غلو ولا تقصير، ويستدل البعض بهذه الآية عندما يلام على تقصيره في بعض الواجبات وهو لم يعمل ما بوسعه، بل قصر عن الوسع والطاقة، والمعنى الصحيح أن الله قد كلفنا وسعنا وطاقتنا فلا نطالب بما زاد عليها، ولكن لا نقصر عنها، والإسلام يدعو إلى التوسط في العبادة فلا يُكلَّف الإنسان ما لا يطيق، يقول عليه الصلاة والسلام: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، (هلك المتنطعون)، وفي نفس الوقت لا يتهاون في العبادة (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)، (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيَّا).
إن تكليف النفس ما لا تطيق أمر مذموم، والتهاون في العبادات أمر مذموم أيضاً، والمطلوب الوسط.
وفقدان التوسط في حياة المسلم يؤدي إلى الانقطاع عن الدين كله أو بعضه (إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، (أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل)، (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)، ومن حكمة الله تعالى أن جعلنا نقرأ في كل ركعة من الصلاة قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)، الصراط المستقيم هو الدين كله أو هو القرآن أو هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو في الحقيقة كل هذه، فلا تنافي بينها، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهم الوسط بين المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به ويمثلهم اليهود، وبين من عبد الله على ضلالة وعمى ويمثلهم النصارى، فالمستقيم هو الوسط بين هذين القسمين يعبد الله على علم وبصيرة، والأمة الإسلامية أمة الوسط، ولقد وسمها الله بميسم الوسط فقال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)، يقول القرطبي- رحمه الله- ولما كان التوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي أن هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولم تقصر تقصير اليهود في أنبيائهم.. أ هـ.
والوسط خير كله، يقول ابن كثير -رحمه الله- والوسط ها هنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيارها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات- وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها- ولما جعل الله الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب.. أ- هـ.
وأهل الإسلام الحق وسط في الإيمان بين الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة، والمعتزلة الذين جعلوه بمنزلة بين المنزلتين، وبين أهل الإرجاء الذين قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب، فقال أهل السنة والجماعة إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
وسط في باب الأسماء والصفات، فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام بدون تكييف ولا تمثيل، إثباتاً يليق بجلاله وعظمته، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه نبيه عليه الصلاة والسلام بدون تعطيل ولا تحريف، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل.
أمة الإسلام وسط في تعاملها مع الدنيا والآخرة، فلا تغوص في وحل الدنيا وتترك الآخرة، ولا تتجرد للآخرة وتنسى عمارة الدنيا، ولكن كما قال الله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب)، فانظر كيف ربط الله جل جلاله بين عمارة الأرض وبين عبادته أيضاً، ويقول تعالى: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)، وذكر الله هذين القسمين التارك للآخرة وهو خاطئ، والثاني الوسط الذي أعطى الدنيا والآخرة حقّهما، وهو الوسط الحق، وترك الثالث لكونه معروفاً وهو أيضاً نادر الوقوع، وهو المقبل على الآخرة التارك للدنيا، (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك).
ووسط أيضاً في التعامل مع الآخرين، قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، فلا يكون الإنسان حديداً صلفاً لا يألف ولا يؤلف، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله يبغض كل عتل جواض مستكبر) ولا يكون أيضاً ذليلاً مهاناً يساق كما تساق الشاة الجماء.. عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً).
بل إن الإسلام وسط في التعامل حتى مع أعدائه فهو لا يهضمهم حقهم، ويأمر بإنصافهم، قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ}، بل ويأمر بالإحسان إلى من لم يسئ إلى الإسلام وأهله دون موالاتهم ومودتهم، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
والإسلام الحق تميز بوسطيته في مسألة تكفير المعَّين، حيث توسط بين التفريط بمنع تكفير المعيَّن مطلقاً وبين الإفراط في تكفير المعيََّن مع عدم توافر جميع شروط الكفر لديه، أو مع وجود مانع أو أكثر من موانع تكفير المعيَّن.
وبعد أن ذكر قصة الرجل الذي طلب من أولاده أن يحرقوا جسده بعد موته ويذرّوه في الريح لئلا يبعثه الله، وقد غفر الله له رغم شكه في قدرة الله في بعثه لجهله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهّال..) ا.هـ.
والإسلام وسط في التعامل مع ولاة الأمر، فقد نهى عن الخروج عليهم (ما لم يُر كفر بواح عندنا من الله فيه برهان)، (وما أقاموا فينا الصلاة)، فالإسلام لا يبيح الخروج عليهم لمجرد المعاصي مهما عظمت ما لم تصل إلى الكفر البواح..
بل إن الشارع سبحانه أمر بطاعتهم في المعروف، قال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ومع ذلك نهى الإسلام عن طاعتهم في المعصية أو مداهنتهم أو الغلو فيهم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، بل أمر بالنصيحة لهم، ودلالتهم على الخير، وتحذيرهم من الشر وأهله شريطة أن تكون النصيحة غير مفضية لشر أو فتنة وليس فيها تشهير أو حط من قدره.
والإسلام وسط في التعامل مع العلماء، فلا يطاعون في معصية الله ولا يتخذون أرباباً من دونه، ولا ينزلون منزلة الألوهية أو الربوبية أو الأنبياء، ولكن الإسلام أمر بطاعتهم في المعروف وتقديرهم وإجلالهم، قال الله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، بل أمر الله بالرجوع إليهم والصدور عن رأيهم، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}، فلا تؤخذ الفتيا إلا منهم مع إيماننا بعدم عصمتهم.
ووسط في التعامل مع الزوجة والأولاد، فلا يكون مقوداً حسب الطلب، ولا يكون أيضاً جماعاً مناعاً، إنما يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
وليس معنى الخيرية هنا أن ينفذ كل الطلبات، ولا أن يمنع كل الحاجات، لا.. بل يعمل ما فيه الخير لهم سواء بالمنع أو العطاء، لذلك يوم أكثرت أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن- عليه من طلبات الدنيا وطلب النفقة وهو يعلم أن هذا ليس خيراً لهن خيرهن، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، فلم يعطهن ما أردن مباشرة، ولم يفارقهن مباشرة أيضاً، بل خيرهن عليه الصلاة والسلام بين أن يبقين عنده على ما هو عليه أو أن يفارقهن بعد أن يمتعهن مما عنده، وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فرضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين.
ولا شك أن مقالاً كهذا لا نستطيع من خلاله أن نتطرق إلى جميع المسائل والأحكام الشرعية التي تميزت بالوسطية، ولكن أحببنا الاكتفاء بهذا القدر لحاجة الواقع إلى ذكره والبعد عن الإطالة.
ولكن علينا نحن المعلمين أن نقوم بترسيخ الفكر الوسطي لدى الطلاب من خلال طرحه على حقيقته دون تدليس ولا تلبيس، إذ إن من عناصر قوة أي فكر؛ تقديمه كما هو منذ البداية..، والفكر الإسلامي المستوعب لحركة الزمن وتغيير الظروف مقدَّم على غيره، وأن يُطرح على حقيقته كما جاءت أصوله في الوحيين: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا أنْ يُطرح مبتوراً أو ناقصاً أو مزيداً أو مشوَّهاً أو مفسَّراً تفسيرات خاضعة لعوامل تغير الزمان والمكان والإنسان.
ومن هنا فإن الفكر الإسلامي لا يَقْدُم بتقدم الزّمن ولا يبلى، ولا يعتريه العجز في يوم ما عن تقديم الحلول، ولا تقعد به التطورات الّتي يشهدها العالم عن أداء دوره المصيري الّذي لا يمكن لأي فكر آخر أن ينهض به.
ولا بدّ للنخبة الواعية المفكرة من المعلمين والقيادات الإسلامية أن تتعامل بهذا الوضوح والصراحة في أشكال التعامل كافة، وعلى أساس المبادئ والأصول الإسلامية، لكي تتعمق الأفكار الإسلامية في الأمة، وتتضح معالمها من خلال التطبيق العملي، ولكي يتولّد عندها شعور بأنّ الإسلام ليس مجرد أفكار نظرية مطروحة؛ بل يمتلك القدرة على تسجيل المواقف واتّخاذ القرارات، وتحديد طريقة التعامل مع الأحداث، وهذا ما يدفع بالتالي إلى تعاظم ثقة المسلمين بإسلامهم وحلوله وقيمه ومثله، ويزيد من تمسّكهم به وإصرارهم عليه، ممّا يعني ارتفاع مستوى الحماية لدى الإنسان المسلم، وصعوبة سريان السموم الفكرية إليه سواء الغالية أو الجافية.
كما أنّ الصراحة في التعامل مع الأمة بأصول الفكر الإسلامي كما أراد الله لها لا تترك آثارها الإيجابية على المجتمع الإسلامي والتيار الإسلامي بشكل خاص؛ بل ستقنع الآخرين- الّذين ربّما لا يلتقون مع هذا التيار في كثير من الرؤى والتصورات، بل وحتّى التيارات المضادة- إذ ليس في الفكر الإسلامي شيء مخفي، وأنّه لا يكتم قضايا يُخاف منها، بل هو فكر صريح واضح لا يريد بالنّاس إلاّ خيراً، ولا يهدف إلا لإسعاد الأمم والنهوض بها، وإنقاذها من كافة ألوان الظلم والامتهان وصنوف الحيرة والتسكّع في أزقة الأفكار السقيمة.
عندما يتحول الفكر الإسلامي إلى قناعة كاملة تملأ على الإنسان روحه وعقله؛ يجد المسلم نفسه مقصراً أمام الأمانة التي حمله الله إياها، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.
إن الوسطية والاعتدال حفظ لهذا الدين من تيارات هي في الحقيقة هادمة له، ولو فُقد مع هذه التيارات أهل الوسط والاعتدال لحصل لهذا الدين ما حصل لغيره من الأديان الأخرى، وهذه التيارات إما أن تكون غالية متشددة تخرج الإسلام عن وسطيته، وتذهب عنه رونقه ونقاءه وصفاءه وسماحته إلى الشطط والتشدد وتكليف النفس ما لا تطيق، وتحميل بعض القضايا ما لا تحتمل، وتضخيم قضايا أخرى هي في الحقيقة أقل مما ضخمت له حتى وصل الحال عند البعض إلى تبديع الناس وتفسيقهم، وفي بعض الأحيان إلى تكفيرهم بلا مسوغ شرعي صحيح، وهذه التوجهات أو التيارات ليست على وتيرة واحدة، بل هي متناقضة في المقاصد، ولكنها تنحو نفس المنحى من التشدد والتعصب وسرعة الحكم على المخالف، وإما أن تكون متراخية متساهلة همها متعتها كلما قيل لهم أمرٌ من أمور الشريعة قالوا أنت متشدد، أنت تريد أن تعقِّد الناس وتكبت حرياتهم، أنت متطرف، فيصمون أهل الإسلام بأوصاف عامة، ولو جلست تريد التحقق من هذا الوصف لظهر التجني الواضح على الشريعة وأحكامها وحملتها، ولا تكاد ترى فيهم متمسكاً بالإسلام إلا قليلاً، بل زاد الأمر عند بعضهم إلى أن سار في ركاب الغرب معجباً بحضارتهم تاركاً الإسلام وتعاليمه وراءه ظهرياً.
والحق هو الوسط فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وهو تطبيق الكتاب والسنة على الحقيقة، والعمل بكل النصوص الشرعية، وهذا لا يتأتى إلا من العلماء الربانيين الراسخين الذين يعرفون مجريات الأمور وتغيرات الأحوال، ويقدرون للفتوى قدرها، يقول عليه الصلاة والسلام: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، يقول ابن القيم -رحمه الله- فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يؤوّلونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث، فلولا أن الله يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء. أ - هـ.
وإن ما ظهر ببلادنا من أمور منكرة وأعمال آثمة ينكرها كل صاحب شرع وعقل هي إفراز من إفرازات التشدد في الدين، وتحميل بعض قضاياه ما لا تحتمل، وهذه الأعمال ما ظهرت إلا من الفهم الخاطئ والقاصر للنصوص، وهي أيضاً من توجيهات من خرج عن حكم العدل والوسطية في حمل هذا الدين والعلم، فهذا (تحريف الغالين)، وظهر بالمقابل من أراد أن ينسب هذه التفجيرات والتخريب للدين، ويطالب بمطالب مؤداها تنحية الدين وإبعاده ومحاربة أهله، وهذا يمثل (انتحال المبطلين).
لذا فلا بد من إعطاء العدول -في قطاع التعليم من المعلمين الأكفاء والدعاة وغيرهم- الذين يحملون هذا الدين وهذا العلم المكانة اللائقة بهم، وعلى تلك الفئة المربية أمانة عظيمة في إيصال صوت الحق من خلال تنظيم المحاضرات وعقد الندوات الفكرية، وإقامة اللقاءات والحوارات المفتوحة مع أبنائهم الطلاب، وإعطاء أبنائهم الطلاب الحرية والأمان في طرح رؤاهم مهما شطحت، ثم مجادلتهم بالتي هي أحسن على شكل جماعات أو فرادى بحسب المقام والمقال، وعلى أولئك المربين أيضاً المشاركة حسب الإمكانية في القنوات المتاحة من تلفاز وصحافة وغيرها لإيصال الكلمة الصادقة كلمة العدل والوسطية إلى كل بيت وإلى كل طالب بإذن الله تعالى.
فالناس بشكل عام والشباب والطلاب بوجه خاص إذا لم يجدوا العالم الرباني والمعلم الصادق والداعية المخلص الذي يدلهم على الفهم الصحيح للدين فسوف يذهبون إلى هنا أو هناك بالأفكار والتصرفات إلى أمور لا تحمد عقباها، يضاف إلى ذلك أيضاً توزيع الكتب والأشرطة على الطلاب التي تطرح الفكر الوسطي بالدليل الشرعي وبالحجة والبيان، مع أهمية إقامة مسابقة علمية على مادتهما، كما نوصي رجال التربية والتعليم بأهمية ربط أبنائنا الطلاب بالعلماء الربانيين والدعاة المخلصين، كما لا يفوتنا أن نؤكد على أهمية احتواء الشباب وتفريغ طاقاتهم وتحقيق طموحهم وإشباع ميولهم في أجواء تربوية آمنٍة، وتحت مظلة رسمية، وبإشراف نخبة من المعلمين الأكفاء من خلال الأنشطة المسائية المدرسية، والمراكز الصيفية وما شابهها، فتركهم قد يتيح الفرصة لأصحاب الأهواء في اصطيادهم لتفريغ طاقاتهم في أماكن مشبوهة لا تحمد عقباها، فهل ننجح حقيقة في ذلك؟
نسأل الله الكريم أن يمن علينا جميعاً بالعودة الصادقة للدين، وأن يحمينا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه، وأن يجمع كلمة أئمة المسلمين وعلماء المسلمين وشعوب المسلمين على البر والتقوى،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
* رئيس وحدة التوعية الإسلامية
بإدارة التربية والتعليم بمحافظة المجمعة
المراجع:
جمعت هذه المادة بتصرف من بعض المقالات والكتب التالية، مع إضافة بعض التعليقات والدمج فيما بينها:
1- مقال بعنوان: (وسطية الإسلام) للأستاذ خالد بن سليمان العامر- مدير مكتب الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني بحائل.
2- مقال بعنوان: (قوة الفكر الإسلامي تقديم أصوله كما أنزلت)، للدكتور عبد الحكيم الفيتوري- مدير مركز المنار كاردف ببريطانيا.
3- مقال بعنوان: (مفهوم التطرف: قراءة في شروط الوسطية والاعتدال)، للدكتور أحمد صدقي الدجاني، المقال نقلاً عن مجلة التقريب العدد 36 سنة 1424 هجرية.
4- كتاب: (ضوابط تكفير المعيّن)، للدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين.
5- كتاب: (حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام)، للدكتور صالح بن حسين العايد.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved