كان الأديب ممدوح عدوان أحد أبرز المخلصين لتعليمات المحاربين القدامى وقد حاز منها على أنواط شرف وأوسمة شجاعة، جزاء إخلاصه للحلم القديم، ذلك الحلم الذي كانت خرائطه واضحة ومستتبة ومقسمة بشكل نهائي وقاطع حيث لا وجود للمناطق الرمادية، بل حلم بأراضٍ محررة من المحيط إلى الخليج، وسيقذف العدو الصهيوني إلى البحر، لم يكن يكترث بصيرورة الوقت وشروط العولمة والدول العظمى، كان هناك قصياً محتفظاً بنكهة الحلم القديم.. إلى أن باغته السرطان في أحد المنعطفات والتهمه.
بذهاب (ممدوح عدوان) تنهار أحد أعمدة الذاكرة، تختفي رسالة طويلة كتبها عبر (تقرير إلى غريكو) كان بيني وبين ممدوح عدوان هذا التقرير الطويل، أو الكتاب المزار الذي أظل أزوره وأعاوده دوماً، وفي كل زيارة أوقن بأنه الكتاب السحري، صفحاته تظل تتكشف دوماً على كم وافر من الفتنة والدهشة عندما تكون الدهشة هي أعظم أفراح البشرية، لا ينضب الجمال الذي ينبع من صفحات هذا الكتاب، وكأن الأديب اليوناني الكبير (نيكوس كازنتزاكي) عزف أسرار روحه كلها عبر ناي (عدوان) كانت روح عدوان هي القصبة التي مرر عبرها كازنتزاكي جميع سحره من اليونانية إلى العربية.
حينما سمعت بخبر وفاة (ممدوح عدوان) هرعت إلى تقرير غريكو، كأنني أخشى بغيابه غياب شطر من ذاكرتي، فوجدته باقياً هناك فوق قمة الأولمب، متدثراً برداء الخلود، وحدهم من يحسنون التسلل إلى كتاب يفوزون بنبتة الخلود.
يقول كازنتزاكي لغريكو قبل أن يرحل: (وداعاً! أمد يدي وأمسك مزلاج الأرض لأفتح الباب وأمضي، غير أنني أتردد لحظة صغيرة على العتبة النيرة، عيناي وأذناي وأحشائي تجد أنه من الصعب وأنه لمن أقسى الأشياء، أن تسلخ نفسها عن حجارة العالم وعشبه، يستطيع القول إنه لم يعد يحتاج لشيء وأنه قد أدى واجبه وأنه مستعد للرحيل ولكن القلب يقاوم، يتمسك بالعشب والحجارة ويقول (ابق قليلاً)، وأجاهد لتعزية قلبي وجعله ينسجم مع إعلان الموافقة بحرية، يجب أن نغادر الأرض ليس كعبيد ممزقين ومجلودين، بل كملوك ينهضون عن المائدة وهم ليسوا في حاجة لشيء بعد أن أكلوا وشربوا حتى الامتلاء ولكن القلب لا يزال يخفق داخل الصدر ويقاوم صارخاً: (ابق قليلاً).
|