الكتاب: Crisis : The Anatomy of Two Major Foreign Policy Crises
المؤلف: Henry Kissinger
الناشر: Simon and Schuster 2003
على الرغم من أن وزير الخارجية الأمريكية الأشهر والأسبق هنري كيسنجر قد تجاوز الثمانين من عمره وكتب العديد من الكتب، إلا أن الكتاب الأخير الذي أصدره تحت عنوان (الأزمة: تشريح أزمتي سياسة خارجية رئيسيتين) أكد أن كيسنجر ما زال لديه الكثير من الأسرار التي تستحق الرواية.
ويعد كيسنجر من الشخصيات التي تمتعت بنفوذ سياسي وإعلامي على الصعيدين الأمريكي والعالمي.
ففي عام 1973 حصل وزير الخارجية الأمريكية الأسبق والأشهر هنري كسنجر على جائزة نوبل للسلام. كما حصل على ميدالية الحرية الرئاسية وميدالية الحرية الأمريكية وهي أعلى وسام يمكن للرئيس الأمريكي منحه لأحد المسؤولين الأمريكيين وغير ذلك من الجوائز.
كما ألف كسنجر العديد من الكتب وهو يشغل حالياً رئاسة مجلس إدارة شركة (كيسنجر أسوشيتس) وهي شركة استشارات دولية. وفي أحدث كتبه (الأزمة: تشريح قضيتي سياسة خارجية رئيسيتين) قدم كسنجر نصوص اتصالاته الهاتفية خلال حرب أكتوبر 1973 مع العرب وإسرائيل والأيام الأخيرة للحرب الأمريكية ضد فيتنام عام 1975م.
وفي هذا الكتاب يكشف الرجل الكثير مما دار وراء الكواليس خلال هاتين الأزمتين اللتين شغلتا العالم بأسره في وقتهما. وهذا الكتاب أقرب إلى الفيلم التسجيلي أو البرامج الوثائقية حيث يعرض الواقع من خلال المكالمات الهاتفية دون أن يتعرض لها بكثير من التحليل ليترك للقارئ الوصول إلى النتيجة التي يريدها. فمساحة تدخل كيسنجر بالتحليل أو التعليق على نصوص المحادثات الهاتفية كانت محدودة للغاية وهو ما يجعل من هذا الكتاب شهادة شاهد عيان وليس (قرار هيئة محلفين) بشأن اثنتين من أخطر الأزمات التي وجهتها الدبلوماسية الأمريكية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وقد كانت هاتان الأزمتان اللتان انتهت إحداهما بنجاح ملحوظ وهي أزمة حرب أكتوبر والثانية كانت كارثة لأمريكا وهي حرب فيتنام التي انتهت بما يشبه استسلام الولايات المتحدة أمام المقاتلين الفيتناميين.
ولكن القاسم المشترك بين الأزمتين أن كلتاهما كانتا من الخطورة والسخونة بحيث لا يمكن إداراتها إلا عبر اتصالات هاتفية لا تنقطع. وقد كان الجزء الأكبر من الكتاب هو المخصص لحرب أكتوبر والذي جاء مليئاً بالوثائق ونصوص الاتصالات الهاتفية التي لم تتوقف على مدى أيام الحرب تقريباً التي انتهت رسمياً بصدور قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار.
شملت قائمة الشخصيات التي تحدث معها كسينجر هاتفياً خلال أزمة حرب أكتوبر رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير والسفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة سيمحا دينتيز ووزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات والسفير السوفيتي لدى الولايات المتحدة أناتولي دوبرينين والأمين العام للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدهايم وغير ذلك من الشخصيات الدولية ذات الصلة بالأزمة بالإضافة إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون وغيره من كبار المسؤولين الأمريكيين ذوي الصلة بإدارة الصراع في الشرق الأوسط.
أما الجزء الثاني والأخير من الكاتب وكان الجزء الأصغر فخصصه كيسنجر لتلك اللحظات المأساوية التي عاشتها أمريكا خلال الأيام الأخيرة لحرب فيتنام. وكان كيسنجر يحاول مساعدة الرئيس الأمريكي الجديد جيرالد فورد الذي تولى الرئاسة خلفاً للرئيس المنتخب ريتشارد نيسكون الذي استقال من منصبه بعد فضيحة ووترجيت الشهيرة. كما كان كيسنجر يسعى إلى وضع نهاية لكارثة الحرب في فيتنام التي أدت إلى انقسام حاد للشعب الأمريكي خلال اللحظات الأخيرة لحرب انتهت بهزيمة أمريكية غير مسبوقة.
ويقدم هذا الجزء أسراراً مهمة عن الجهود التي بذلها كيسنجر من أجل إجلاء وحدة من قوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) التي اكتشف وجودها في العاصمة الفيتنامية سايجون التي كانت على وشك السقوط. وتضمن هذا الجزء نصوص اتصالاته الهاتفية مع السفير الأمريكي في سايجون الذي كان متردداً في مغادرة المدينة قبل سقوطها. هذا الكتاب يقدم ما يمكن اعتباره أفضل تسجيل لما قامت به الدبلوماسية الأمريكية وراء الكواليس خلال اثنتين من أخطر الأزمات التي واجهتها منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم أن البعض ينظر إلى الكتاب باعتباره محاولة من داهية السياسة الأمريكية العودة مرة أخرى إلى الأضواء التي انحسرت عنه وجعلته يدخل العام الثمانين من عمره وهو يعيش في كواليس الشهرة وليس في موقعه البارز المعتاد وسط خشبة مسرح الأحداث الدولية والعالمية فإن الكتاب قدم الكثير مما يستحق القراءة.
في الوقت نفسه فإن هذا الكتاب الذي ينتمي إلى فن السيرة الذاتية لم يكن أول ما يكتبه كيسنجر عن حياته السياسية. فقد سبق له أن قدم كتاباً تحت عنوان سنوات البيت الأبيض (The White House Years) ومن أهم الوثائق التي تضمنها كتاب (الأزمة) لهنري كيسنجر تلك التي تتناول دوره خلال الساعات الحاسمة التي سبقت حرب أكتوبر.
ففي ساعة مبكرة من صباح يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973 وفي الوقت الذي كان الإسرائيليون يحتفلون فيه بيوم الغفران كان وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت هنري كيسنجر يقضي عطلة نهاية الأسبوع في إحدى الغرف بفندق من فنادق نيويورك.
وقد أبلغوه أن رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير حذرت الأمريكيين بصورة سرية من اعتزام المصريين والسوريين شن حرب مفاجئة علي إسرائيل. وبعد أن اندلعت الحرب ولاحت في الأفق بوادر النصر المصري والعربي حاول كيسنجر مرة أخرى وقف عجلة التاريخ ففي صباح يوم الأحد السابع من أكتوبر طلب المسؤولون الإسرائيليون إمدادات عسكرية أمريكية فتحدث كيسنجر مع ألكسندر هيج مستشار الأمن القومي الأمريكي في ذلك الوقت عبر التليفون ودار بينهما الحوار التالي: هيج: هل أصيب الإسرائيليون بالرعب؟ كيسنجر: إنهم كذلك تقريباً. وهم يريدون الحصول على بعض المعدات التي وافق عليها الرئيس وأعتقد شخصياً أنه يجب إعطاؤهم بعض ما يريدون.
إذا انتصر العرب فسوف يكون مستحيلاً التعامل معهم ولن تكون هناك مفاوضات! وإذا ما تشددنا مع الإسرائيليين هذه المرة فلن يستمعوا إلينا بعد ذلك. وإذا ما تخلينا عنهم في هذا الوقت لن يكون لديهم ما يخسرونه. وفي ظهيرة ذلك اليوم هاج كيسنجر بسبب عدم رد موسكو على اقتراح توجيه نداء أمريكي سوفيتي مشترك لوقف إطلاق النار والانسحاب إلى خطوط ما قبل الحرب وتحدث في هذا الأمر مع هيج عبر التليفون ليتبادلا الحوار التالي: كيسنجر: بدأت أعتقد أن أولاد (....) في موسكو يراوغوننا. ونحن نتلقى استغاثات متكررة من الإسرائيليين لتزويدهم بصورايخ (سايدويندرز) وما زالت وزارة الدفاع ترواغ في تلبية الاستغاثة.
هيج: يمكنك أن تقول لهم إن الرئيس هو الذي أمر بذلك. كيسنجر: الفكرة تقوم علي أساس نقل الأسلحة إلى قاعدة جوية وتقوم طائرات شركة العال الإسرائيلية بنقل هذه الأسلحة بدون أن تلفت انتباه أي شخص. في مساء اليوم نفسه جرت محادثة تليفونية بين كيسنجر ونيكسون، عندما قال كيسنجر إن الإسرائيليين يقاومون هجوماً مصرياً كاسحاً فرد عليه نيكسون قائلاً: إنه إذا استطاع هو وكيسنجر تحقيق وقف لإطلاق النار فسوف يعطي ذلك للرئيس نجاحاً يحتاج إليه بشدة على صعيد السياسة الخارجية في ظل فضيحة ووترجيت. ويقول كتاب (أزمة كيسنجر) إن السياسي الأمريكي الداهية بعد أن فشلت توقعاته في الحرب، وبعد أن ظهر خطأ تقديره لقوة المصريين، حاول أن يسيطر بعد ذلك على عملية السلام بعد أن فشل في السيطرة على الحرب والتحكم في نتيجتها لتكون لصالح أصدقائه الإسرائيليين. ويكشف الكتاب عن قيام الرئيس المصري أثناء حرب أكتوبر أنور السادات بالاتصال بالإدارة الأمريكية في أول أيام الحرب من خلال قناة مخابراتية سرية على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين في ذلك الوقت. كما يكشف الكتاب عن أن خطة الرئيس المصري في حرب أكتوبر لم تكن تهدف إلى تحرير شبه جزيرة سيناء بالقوة وإنما إلى الاستيلاء على جزء صغير منها على الشاطئ الشرقي لقناة السويس وتحريك الموقف السياسي وإجبار الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على التدخل الفعال من أجل الوصول إلى تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي. وفي هذا السياق كتب كيسنجر يقول إنه لو كان السادات قد أبلغ السوريين أو الاتحاد السوفيتي أو حتى الدول العربية الأخرى بحقيقة نواياه لربما ترددت سوريا في الاشتراك في شن الحرب. كما أن الموقف السوفيتي كان سيتغير بالنسبة لمسألة إمداد مصر بالأسلحة.
ويقول كسينجر إنه حرص على الحفاظ على سرية الاتصالات بينه وبين السادات فلم يبلغ بها أحداً في إسرائيل خوفاً من إقدام إسرائيل إلى إعلانها على الفور بهدف نسف التحالف بين السادات والرئيس السوري حافظ الأسد وكذلك إلحاق الضرر بالعلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي.
ويؤكد كيسنجر أنه حتى أجهزة المخابرات الإسرائيلية لم تتمكن من معرفة أي شيء عن هذه الاتصالات. وقال كيسنجر إن الرسالة التي بعث بها السادات إلى واشنطن في اليوم الأول من الحرب كانت تحمل عنواناً يقول (شروط وقف الحرب) وقال فيها السادات إنه غير معني بتصعيد القتال كما أنه لا يريد (توسيع المواجهة).
وكتب كيسنجر تعليقاً على الرسالة: إنه أدرك أن السادات يدعو الولايات المتحدة لتولي زمام القيادة في عملية السلام بعد الحرب. كما تضمن كتاب (الأزمة) معلومات تذاع لأول مرة عن قرار الملك حسين ملك الأردن بإرسال مدرعات أردنية لمساعدة السوريين في مواجهة الهجوم المضاد الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر بعد أن وجد الرئيس السوري حافظ الأسد نفسه تحت ضغط عسكري كبير من الجانب الإسرائيلي فطلب من الملك حسين دعماً عسكرياً. وكان الملك حسين يريد مساعدة (دولة عربية شقيقة) في وقت الحرب وفي الوقت نفسه كان يريد ضماناً بعدم مهاجمة إسرائيل لبلاده رداً على الدعم الأردني لسوريا.
|