درجات من المسؤولية !
لا يوجد شك في أنّ (النظام الانقلابي) بمجموعه يُعتبر مسؤولاً بشكل مجمل عن هذه الجرائم والأوضاع المأساوية.
كما أشرنا إلى أنّ (النظام الانقلابي) يضمّ فئات كثيرة وعناصر متعدّدة تتفاوت في المكانة وفي الصلاحيات ومن ثمّ فهي تتفاوت في حصّتها ونصيبها من المسؤولية عن هذه الجرائم والاقترافات أخذاً بقاعدة أنّ مسؤولية (الرئيس) هي أكبر من مسؤولية (المرؤوس) وأنّ مسؤولية (المتبوع) هي أكبر من مسؤولية (التابع).
استفراد القذافي بالسلطة من المهمّ جداً، قبل الخوض في بحث مدى ودرجة مسؤولية كلّ فئة من الفئات التي يتكوّن منها النظام الانقلابي عن الجرائم والانتهاكات التي وقعت بحقّ ليبيا وشعبها منذ الأول من سبتمبر من عام 1969، أن نثّبت مجموعة من الحقائق المهمّة التي تتعلّق بالسلطات والصلاحيات الثورية والسياسية والعسكرية التي ظلّ الضابط معمر القذافي يتمتّع بها ويمارسها في ظلّ هذا النظام على امتداد الأربع وثلاثين سنة الماضية، ذلك أنّ هذه الصلاحيات والسلطات هي التي سوف تحدّد درجة مسؤوليته.
وسنقسم هذه الحقبة إلى مرحلتين:
الأولى: وهي التي بدأت مع وقوع الانقلاب في 1-9-1969 وحتى قيام ما أطلق عليه (سلطة الشعب) و(الجماهيرية) و(النظام الجماهيري) في 2-3-1977م.
الثانية: وهي التي بدأت منذ 2-3- 1977م وحتى يومنا هذا وإلى أن يسقط هذا النظام. وسنعرض لكلّ مرحلة منهما بالتفصيل.
المرحلة الأولى: منذ قيام الانقلاب وحتى 2-3-1977م ظلّ القذافي على امتداد هذه المرحلة يتقلّد المناصب التالية:
1 - رئيس مجلس قيادة الثورة.
2- قائد عام القوات المسلحة الليبية (وفيما بعد قائد أعلى).
3- وزير الدفاع ورئيس مجلس الأمن القومي.
4- رئيس مجلس القضاء الأعلى.
5- رئيس مجلس التخطيط الأعلى.
6- رئيس المجلس الأعلى للإرشاد القومي.
7- رئيس التنظيم السياسي الوحيد المتمثّل في الاتحاد الاشتراكي العربي ومؤتمره الوطني (ثمّ القومي) العام.
وفضلاً عن ذلك، فقد شغل القذافي منصب رئيس الوزراء خلال الفترة من 13-9-1970م وحتى 6 أبريل 1972م.
وعلى الرغم من أنّ (مجلس قيادة الثورة) كان وفقاً لمقتضى المادة (18) من الإعلان الدستوري، الذي جرى نشره في11-12-1969م، هو (.. أعلى سلطة في الجمهورية العربية الليبية ويباشر أعمال السيادة العليا والتشريع ووضع السياسة العامة للدولة نيابة عن الشعب.. ( إلا أنّ الوقائع تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ العقيد القذافي سعى ونجح بالفعل في (الاستفراد الكامل) بالسلطة دون بقية رفاقه الأحد عشر في المجلس بحيث تحوّل هذا المجلس إلى مجرّد هيكل وواجهة استخدمها القذافي كغطاء لاستبداده ولكافّة تصرّفاته وممارساته.
ولم تأتِ نهاية هذه المرحلة حتى كان القذافي قد تخلّص من سبعة أعضاء من المجلس فأصبح يقتصر على أربعة فقط خامسهم القذافي.
- فتخلّص من النقيب محمد أبو بكر المقريف بالقتل في 21-8-1972م.
- وتخلّص من الرائد مختار القروي والرائد محمد نجم بدفعهما لتقديم استقالتيهما في عامي 1972 و1973 بعد أن نفد صبرهما في تحمّل إهانات القذافي وسبابه المتواصل لهما.
- كما تخلّص من الروّاد بشير الصغير هوادي وعوض حمزة وعبد المنعم الهوني وعمر عبد الله المحيشي بعد اتّهامهم بالتورّط في محاولة الانقلاب العسكري التي جرى الكشف عنها في منتصف شهر أغسطس من عام 1975م.
وقد شهدت هذه الحقبة أيضاً في إطار استفراد القذافي بالسلطة دون (مجلس قيادة الثورة) والباقين من أعضائه:
* إعلان القذافي في 15-4-1973م قيام ما أسماه (الثورة الشعبية) والتي لم تكن في الحقيقة سوى التفاف منه على مطالبة عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة له بإعلان دستور وإجراء انتخابات عامة وإعادة الحياة البرلمانية والسماح بحرية الصحافة.
* شروع القذافي - حسب زعمه - في تأليف (الكتاب الأخضر) الذي صدر الجزء الأول منه في 3-1-1976م ، ويتناول ما أطلق عليه (مشكلة الديمقراطية - سلطة الشعب)، وأصبحت مقولات هذا الكتيّب منذئذ المرجعية السياسية لنظام الحكم في البلاد.
* شرع القذافي منذ عام 1976 في تأسيس تشكيلات (حركة اللجان الثورية) وهي فكرة استأثر القذافي دون أعضاء المجلس بها، وهو الذي حدّد أهداف هذه الحركة ووضع شروط عضويتها كما أشرف شخصياً على اختيار أعضائها.
* شرع القذافي منذ فترة مبكّرة في هذه المرحلة من تقريب عدد من أبناء قبيلته في الجيش والشرطة (خليفة احنيش، مسعود عبد الحفيظ، حسن اشكال، الأخَوان سيد وأحمد قذاف الدم) وإعطائهم صلاحيات تفوق رتبهم ومراكزهم كما قام بتأليبهم على أعضاء مجلس قيادة الثورة وبقية ضباط الجيش.
المرحلة الثانية: منذ 2 مارس 1977 ظاهر الأمر أنّ العقيد القذافي سلّم في الثاني من مارس 1977السلطة للشعب الليبي بإعلان (الجماهيرية) وقيام (النظام الجماهيري) المتمثّل في اللجان والمؤتمرات الشعبية ومؤتمر الشعب.
غير أنّ الوقائع تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الهياكل لم تكن سوى (واجهة) جديدة حكَم القذافي من خلالها البلاد حكماً فردياً مطلقاً مع الاستعداد الدائم لديه بتحميل هذه الهياكل/الواجهة المسؤولية عن تصرّفاته وممارساته كافّة.
1- فظلّ (الكتيّب الأخضر)بأجزائه الثلاثة (حيث صدر الجزءان الثاني والثالث تباعاً خلال عامي1977، 1978) المرجعية الفكرية لنظام الحكم ولسياسات البلاد الاقتصادية والاجتماعية. كما فرض تدريسه في المدارس والمعاهد والجامعات، وتمّ تقنين مقولاته، وجرت مصادرة أي فكر يعارضه.
2- وفي مارس 1979 تمّ حلّ مجلس قيادة الثورة وإعفاء الأربعة الباقين من أعضائه من جميع صلاحياتهم ومسؤولياتهم.
3- استبقى القذافي لنفسه علانيةً منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية وبالتالي فقد مارس صلاحياته بشأن هذه القوات بصفة فردية مطلقة وبلغ به الأمر حدَّ إصدار أحد القوانين المتعلّقة بها بهذه الصفة.
4-استبقى القذافي لنفسه ما أطلق عليه (الصلاحيات الثورية) واستأثر لنفسه وحده بحقّ ممارساتها وتفسير مدلولها وبيان حدودها.
وفي 11-3-1990م استصدر القذافي من مؤتمر الشعب العام ما أطلق عليه (وثيقة الشرعية الثورية) التي حصرت تلك الشرعية في شخص القذافي وجعلت مجرّد توجّهاته وملاحظاته ملزمة التنفيذ من قبل هياكل النظام كافّة.
5- في نطاق ممارسة القذافي ل(صلاحياته الثورية) أعطى القذافي لنفسه، دون غيره، حقَّ ممارسة (التوجيه الثوري) و(الترشيد الثوري) للجان والمؤتمرات الشعبية ولمؤتمر الشعب العام. وهو (حقّ) استحدثه القذافي واختلقه من عنده وأعطى لنفسه - دون غيره - صلاحية تفسيره كيفما عنّ له.
6- أعطى القذافي، بموجب فهمه لصلاحياته الثورية، الحقَّ (للّجان الثورية) في ممارسة ما أطلق عليه (التحريض الثوري) وهو ما يعني باختصار تدخّل عناصر هذه اللجان بكلّ الأساليب في توجيه وتسيير أعمال اللجان والمؤتمرات الشعبية ومؤتمر الشعب العام، عند مستوياتها التفصيلية والدنيا، بما يضمن أن تسير نقاشاتها وقراراتها وتوصياتها وفق ما ينسجم ويتّفق مع توجيهات (القائد القذافي) وترشيده.
7- ترتّب على فهم القذافي الخاص لصلاحياته الثورية وطريقة ممارسته لهذه الصلاحيات إزاء هياكل (سلطة الشعب) و(النظام الجماهيري) أن أصبحت هذه الهياكل مجرّد (واجهة) (كما كان مجلس قيادة الثورة من قبل) لتمرير وفرض وتقنين ما يراه ويختاره القذافي في كافّة شؤون ليبيا الداخلية والخارجية.
* فالقذافي هو الذي يقرّر متى تُدعى المؤتمرات الشعبية للانعقاد.. ولم يحدث أن انعقدت هذه المؤتمرات - أو جزء منها - بمبادرة ذاتية.
*والقذافي هو الذي يحدّد شخصياً جدول أعمال المؤتمرات والقضايا والموضوعات التي تبحثها وتناقشها هذه المؤتمرات كما يتحكّم، عبر عناصر لجانه الثورية، في الحدود التي يجب أن تتوقّف عندها المناقشات والمداولات، ولم يحدث إطلاقاً أن فرضت هذه المؤتمرات مناقشة موضوع لم يكن مقرّراً مسبقاً من قبل القذافي.
* كما حرص القذافي، في مستهلّ كلّ دعوة لهذه المؤتمرات إلى الانعقاد، على إلقاء خطاب مطوّل يستعرض فيه جدول الأعمال المزمع والمقصود من كلّ فقرة فيه وفقاً لوجهة نظره التي تأخذ على الدوام طابعاً قطعياً.
ولم يحدث أن خرجت توصيات ومقرّرات المؤتمرات الشعبية ومؤتمر الشعب العام عن (توجيهات) و(أوامر) القذافي إلا في حالات نادرة جداً كانت توجيهات القذافي قد اقتربت فيها إلى حدّ الجنون كما حدث عندما طالب بتطبيق نظام (المقايضة) في المعاملات التجارية والاقتصادية.
8- لم يتردّد القذافي في مناسبات عديدة عبر هذه الحقبة منذ مارس 1977 في تجاهل هذه الهياكل بشكل كلّي وسافر كلّما اقتضت مصلحته الخاصّة ذلك.
ولعلّ أحدث حالتين صارختين في هذا الشأن قيامه بدفع التعويضات المالية الهائلة عن حادثتي الطائرتين الفرنسية والأمريكية وإعلانه إلغاء برنامج تطوير الأسلحة النووية في ليبيا وهو البرنامج الذي لم توافق عليه هذه الهياكل أصلاً.
9- شهدت الفترة منذ مايو 1993 انزواء الرائد عبد السلام جلود الذي كان يوصف بالرجل الثاني في النظام الانقلابي ولم يعد يمارس أيّة صلاحيات.
ومن جهة أخرى، فقد اقتصر دور الثلاثة الآخرين الباقين في مجلس قيادة الثورة (أو ما أصبح يُعرف بالقيادة التاريخية) على أعمال تشريفية كاستقبال وتوديع الضيوف أو حمل رسائل إلى رؤساء الدول الأخرى.
10- شهدت الفترة منذ بداية التسعينات بروز أبناء القذافي على مسرح الأحداث في ليبيا. ولئن اتّسمت تصرّفاتهم في مرحلة مبكّرة بالنزق والعربدة والاعتداء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم.. ثمّ في مرحلة تالية بالانغماس في نهب ثروات البلاد وخيراتها واحتكار الكثير من المشروعات والأعمال والنشاطات المالية والتجارية، إلا أنّه لم يعد خافياً أنّ أحد هؤلاء الأبناء المدعو سيف أصبح يلعب دوراً سياسياً ويملك صلاحيات لا يتمتّع بها سوى والده وهي تتجاوز صلاحيات أي شخصية أخرى في النظام الانقلابي.
إنّ بروز ظاهرة (أبناء الرؤساء ) الذين يملكون نفوذاً سياسياً واسعاً، إذا كانت مستهجنة في (النظم الجمهورية) فهي بالتأكيد أكثر استهجاناً في النظم التي تدّعي أنّها (جماهيرية) وأنّها (سلّمت السلطة للشعب).
ولا شكّ أنّ بروز ظاهرة أبناء القذافي بهذه الممارسات والصلاحيات المالية و(الرياضية) والسياسية الواسعة هي دليل آخر قاطع على زيف دعاوى القذافي حول نظامه الجماهيري البديع ودليل آخر على أنّ القذافي هو صاحب الكلمة والأخيرة في هذا النظام.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المدعو (الزناتي محمد الزناتي) هو أحد أقارب القذافي وهو يحتلّ منصب (الأمين لمؤتمر الشعب العام ( منذ أكتوبر 1992).
والخلاصة أنّه على الرغم من ادّعاءات القذافي بأنّه منذ مارس 1977 لم يعد ملكاً ولا حاكماً ولا رئيساً ولا أميراً، إلا أنّه في واقع الحال ظلّ يملك ويمارس صلاحيات لا يملكها أو يمارسها أيّ من هؤلاء.
إنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر مسئولية عدد كبير من المنتمين إلى الفئات التي أشرنا إليها والتي يتركّب منها (النظام الانقلابي) عن الجرائم والانتهاكات والمآسي التي ارتكبت بحقِّ الشعب الليبي على امتداد هذه السنوات، لا سيّما:
1- أنّ عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة وممّن يدعون بالضباط الأحرار قد أعانوا الضابط معمر القذافي على الاستفراد بالسلطة والاستمرار فيها وفي التخلّص من معارضيه، حتى من رفاقهم، وفي التنكيل بخصومه، وفي تنفيذ سياساته ومخططاته وبرامجه رغم ما يعلمونه من فسادها وشرورها وخياناتها ومصادمتها لأماني وتطلّعات الشعب الليبي وأماني جيرانه وأمَّته. كما أنّ عدداً من هؤلاء مارس الطغيان والإجرام والإفساد واستغلال السلطة والنفوذ في دائرته الصغيرة ولمصلحته الشخصية.
2- كما أنّ الغالبية الساحقة من عناصر اللجان الثورية والأجهزة الأمنية المختلفة عاشت الفساد ومارست الإفساد بشتى أشكاله وألوانه، وكرّست استبداد الضابط القذافي وطغيانه، وقدّمت له كافّة صور الحماية، كما قدّمت نفسها أدوات طيّعة في خدمة إجرامه وإرهابه وقمعه ومجونه ومؤامراته. كما أنّ الغالبية منهم مارست الإجرام والقمع والمجون في دوائرها الخاصّة ولمصالحها الذاتية والعائلية والقبلية.
3- كما أنّ عدداً من الإداريين والفنّيين، من وزراء وما دونهم، سمحوا لأنفسهم بالمشاركة في تنفيذ سياسات وبرامج ومشروعات القذافي وهم يعلمون مسبقاً فسادها وإضرارها باقتصاد البلاد وخزانتها وتعليمها وإدارتها وأمنها وبنيتها وبمستقبل أجيالها فضلاً عن الإساءة إلى سمعة ليبيا وكافّة علاقاتها.. كما أنّ الكثير من هؤلاء أحجم عن إبداء رأيه الفني والتخصّصي بأمانة إن لم يكن بشجاعة وصراحة. بل إنّ بعضهم زيّن هذه السياسات والممارسات الفاسدة وقدّم لها المسوّغات والتبريرات المضلّلة وزيّف بشأنها النتائج والتقارير. كما أنّ عدداً غير قليل منهم وظّف ووجّه هذه المشروعات والبرامج لخدمة مصلحته الشخصية والعائلية والقبلية.
4- كما أنّ الغالبية العظمى من العناصر التي شاركت في (مسرحية) المؤتمرات الشعبية ومؤتمر الشعب العام وفي فوضى اللجان الشعبية وفي كافّة (المهازل) التي شهدتها هذه السنوات العجاف، قبلت أن يمرّر القذافي باسمها ومن خلالها عملية تزييف إرادة الشعب الليبي، كما رضيت بأن يصدر القذافي باسمها قرارات وتوصيات كانت ذات نتائج تدميرية على اقتصاد الشعب الليبي وخزانته وقواته المسلحة وعلى قِيَمه وأخلاقه ومستقبل أجياله.
5- كما أنّ عدداً غير قليل من أبناء قبيلة القذاذفة وبعض القبائل الأخرى انحازوا للقذافي انحيازاً عشائرياً أعمى رغم ما يعرفونه عنه من فساد ومجون واستبداد وإجرام. وقدّم هؤلاء للقذافي كلّ صوَر الحماية والمساندة التي بمقدورهم تقديمها استجابةً لرابطة قبلية عمياء، وإيثاراً لمصالح ومنافع مادية وسلطوية أنانية عاجلة، متناسين ومتجاهلين الأعراف والتقاليد والأخلاق التي تحكم مجتمعنا الليبي المسلم وتشدّ مختلف فئاته وقبائله وعائلاته وبيوتاته منذ أقدم العصور.. أمّا ما قام به أبناء القذافي منذ بداية التسعينات فليس خافياً على أحد وقد لا يكون مستغرَباً من أحد.
هذه حقائق ليس بمقدور أحد منّا تجاهلها أو القفز عنها عند الحديث عن مسؤولية (النظام الانقلابي) بشأن الجرائم والانتهاكات التي ارتكِبت بحقِّ الشعب الليبي على امتداد العقود الثلاثة الماضية.. فهؤلاء جميعاً شاركوا بدرجة أو بأخرى في تنفيذ هذه الجرائم واقتراف هذه الانتهاكات.
ومع ذلك، فنحسب أنّ معايير العدل والإنصاف والمنطق توجب علينا أن نشير في هذا السياق إلى الحقائق التالية:
أولاً: أنّ عدداً من أعضاء (مجلس قيادة الثورة) عارضوا استبداد القذافي واحتجّوا على كثير من ممارساته وسياساته، كما دعوا إلى عودة الجيش إلى ثكناته، وطالبوا بوضع دستور دائم للبلاد وإجراء انتخابات عامّة بها، واستقال بعضهم احتجاجاً على هذه الممارسات، كما أن آخرين خطّطوا وشاركوا في محاولات مبكّرة للإطاحة بالقذافي والقضاء عليه ودفعوا ثمناً باهظاً لتلك المحاولات.
ثانياً: أنّ عدداً كبيراً من (الضباط الوحدويين الأحرار) تصدّوا للقذافي منذ مرحلة مبكّرة واستنكروا استبداده وممارساته، بل وشاركوا في محاولات الإطاحة بحكمه، ومن هؤلاء من دفع حياته ثمناً لموقفه إمّا بالموت في ظروف غامضة أو أمام فرق الإعدام، ومنهم من دخل السجن لسنوات طويلة بسبب اتّهامه بالاشتراك في نشاط يناهض القذافي.
ثالثاً: أنّ عدداً - ولو محدوداً- من عناصر اللجان الثورية وأجهزة
الأمن والمخابرات قاوموا بطريقة أو بأخرى إرهاب القذافي وممارساته الدموية ولم يستجيبوا بشكل كلّي لصور تحريضه عليها، ودفع عدد منهم ثمناً لهذه المواقف.
رابعاًً: أنّ عدداً من أبناء قبيلة القذاذفة والقبائل المحسوبة عليها، نأوا بأنفسهم عن أن تجرّهم العصبية القبلية العمياء لأن يكونوا أدوات لإجرام القذافي. بل إنّ بعضهم انضمّ إلى فئات الشعب الليبي المعارضة للنظام، كما أنّ عدداً من هؤلاء سعى للقضاء على القذافي والتخلص منه.
خامساً: أنّ بعض المؤتمرات الشعبية نجحت، ولو على نطاق محدود وبصفة مؤقتة، في معارضة وإفشال عدد من سياسات القذافي ومخطّطاته التدميرية كمشروع (الشريط الساحلي) ومشروع (تجنيد المرأة) ومشروع (المقايضة) ومشروع (إلغاء التعليم الابتدائي). نحسب أنّ هذه المواقف تعفي أصحابها من كثير من المسؤولية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها (النظام الانقلابي)..
ولكن ألا يظلّ هؤلاء مسؤولين عن بقية الجرائم الأخرى التي ارتكبها النظام الانقلابي وهم جزء من هذا النظام؟
ومع ذلك فإنّنا نرى أنّ الإنصاف والعدل يفرضان علينا القول أنّ المسؤولية الأولى والأساسية والكاملة عن كافّة هذه الجرائم والانتهاكات إنّما تقع على المدعوّ معمر القذافي.. أمّا مسؤولية أعوانه وبقية عناصر النظام الأخرى عنها، فهي مسؤولية محدودة لا مطلقة.. وهي لا تتجاوز ما يُعرف في القانون بمسؤولية (التابع) أو (الأداة).
ولا ينبغي في هذا السياق أن ننسى..
- أنّ معمر القذافي وحده هو الذي أنشأ هذه الأجهزة واللجان والهياكل بمسمّياتها المختلفة.
- وأنّ معمر القذافي وحده هو الذي حدّد لهذه الأجهزة واللجان والهياكل مهامها واختصاصاتها ودليل عملها كما وضع لها جداول أعمالها، وصاغ مقرّراتها وتوصياتها ونسبها إليها.
- وأنّ معمر القذافي ذاته هو الذي اختار أعضاء وعناصر هذه الأجهزة واللجان والهياكل وقام بتحريضها، بشكل علني وخفي، على الإرهاب والقتل والقمع والقيام -باسم الثورة والشعارات الثورية- بكافّة الممارسات الظالمة الجائرة.
- وأنّ القذافي -ولا أحد غيره- هو الذي أطلق أيدي هذه الأجهزة واللجان والهياكل للقيام بمهامها الإجرامية الإرهابية ووضع تحت تصرّفها كافّة الإمكانات والمستلزمات الضرورية.
- كما أنّ القذافي -ولا أحد غيره- هو الذي أصدر إلى هذه العناصر أوامر التكليف بتنفيذ مهامها الإجرامية.. وهو الذي سعى دوماً للتغطية على هذه الجرائم..ولتقديم التبريرات لها.. ولحماية مرتكبيها بل ولإجزال العطايا والمنح لهم.
هذه حقائق معروفة وثابتة.. ويوجد عشرات إن لم يكن مئات الشهود عليها.. وهي تؤكّد بما لا يدع أيّ مجال للشكّ بأنّ الضابط معمر القذافي هو المسؤول الأول والرئيسي والأخير عن كافّة الجرائم والمظالم التي ارتكبت بحقِّ الشعب الليبي في ظلّ النظام الانقلابي طوال هذه السنوات.
ولن يغيّر من هذه الحقائق أو يقلّل من قيمتها وأهمّيتها شيئا..
* ادّعاء القذافي في مناسبات عديدة بأنّه ليس بحاكم ولا ملك ولا رئيس.. فالصلاحيات (الثورية) التي أعطاها القذافي لنفسه تتجاوز ما أعطته كافّة الدساتير والقوانين لأي حاكم أو ملك أو رئيس.
* أو قدرة القذافي ونجاحه في إصدار كافّة أوامره وتعليماته شِفاهاً ودون دليل مكتوب، أو نجاحه في تغييب وإخفاء أدلّة وقرائن وشهود تورّطه وتدلّل على مسؤوليته سواء أكانت هذه الأدلة والقرائن مادية أو بشرية. فالمعروف أنّ جميع الحكام الطغاة ممّن هم على شاكلة القذافي لا يعطون أوامر كتابية كما أنّهم لا يتردّدون حتى في تصفية من يخشون أن يكونوا شهوداً يوماً ما على جرائمهم.
* ادّعاء القذافي بعدم علمه بما جرى من مظالم ومفاسد وجرائم وتجاوزات في ظلّ نظامه الانقلابي على امتداد هذه السنوات. فقد قال الشاعر العربي منذ زمن بعيد: إنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
وحتى لو لم يكن القذافي يعلم بتلك المظالم والجرائم والتجاوزات، فهو يظلّ مسؤولاً عنها بحكم مبدأ (مسؤولية الرئيس عن أعمال تابعيه).
وقد ورد على لسان الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض(1) خلال اللقاء الذي أجراه معه برنامج (بلا حدود) بقناة (الجزيرة) العربية يوم 17-12-2003 ما نصّه:
(هناك مبدأ دولي حاسم.. وهو أنّ الرئيس يُسأل عن أعمال تابعيه، حتى لو لم يكن أصدر أوامر وحتى لو لم يكن يعلم... في خبرتي العملية ما لقيتش رئيس بيدّي أوامر مكتوبة أبداً، بيدّي إمّا أوامر شفهية، يا إمّا يسكت ويسيبهم يتصرّفوا دون أن يتدخّل، فحتى السكوت يعتبر جريمة، وحتى عدم العلم يعتبر جريمة، لأنّ الرئيس مفروض أن يعلم...)
إذن فقد انتهينا في هذه الحلقات إلى ثلاث خلاصات:
أوّلها: أنّ ليبيا تعيش في ظلّ النظام الانقلابي الذي يقوده معمر القذافي، وضعاً مأساوياً كارثياً عزّ نظيره وانتفى تبريره.
ثانيها: أنّ إيصال ليبيا وشعبها إلى هذه الحالة المأساوية هو جريمة في غاية البشاعة، بكافّة أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسواء نظرنا إليها من منظور وطني أم قومي أم إنساني.
ثالثها: أنّ معمر القذافي هو المسؤول الأول عن وقوع هذه الجريمة/الكارثة مسؤولية أساسية وكلّية ومطلقة. وفي اعتقادنا أنّ هناك نتيجتين منطقيتين تترتّبان على هذه الخلاصات:
الأولى: حقّ الشعب الليبي في المطالبة بمحاكمة الضابط معمر القذافي عن هذه الجريمة أو هذا السجل من الجرائم.
الثانية: حقّ الشعب الليبي في اعتبار الضابط معمر القذافي غير مؤهّل لأن يكون طرفاً عند البحث في مستقبل ليبيا أو حلّ مشاكلها القائمة.
ضرورة المطالبة بمحاكمة القذافي
قلنا من قبل إنّ لكلّ جريمة فاعلاً.. كما أنّ لكلّ جريمة عقوبة.
وإنّ منطق الحقّ والعدل الأزليين يوجب ملاحقة الجاني أيّاً كان، وإلحاق القصاص العادل به. يستوي في ذلك أن يكون الجاني وضيعاً أم كبيراً، غنياً أم معدماً، حاكماً أم محكوماً.. يتكلّم العربية أو العبرية أو اللاتينية أو غيرها من لغات الدنيا..
وفيما نعلم، فإنّ الضابط معمر أبا منيار القذافي هو في نظر الشعب الليبي المتّهم الأول والرئيسي بارتكاب هذه الجريمة التي حلّت بهم وببلادهم منذ الأول من سبتمبر 1969، وهو المسؤول الأول والرئيسي عن إيصال ليبيا إلى هذه الحالة المأساوية الكارثية التي تحياها..
ومن ثمّ فإنّ المطالبة بتقديم هذا القذافي إلى القضاء العادل ومحاكمته عمّا ارتكبه وجنته يداه على امتداد الأربعة والثلاثين عاماً الماضية هي حقّ طبيعي ومشروع للشعب الليبي تسنده كافّة الشرائع السماوية والوضعية.
وإنّ هذه المطالبة هي حقّ عام لكافّة الليبيّين.. ولا يملك أيّ شخص أو فئة منهم الصفة التي تخوله للتنازل عن هذا الحقّ تحت أيّ ظرف وبأيّ ذريعة وأي مبرّر..
كما أنّ هذه المطالبة هي ضرورة وطنية حيوية إذا أردنا -نحن الليبيّين- صلاح أوضاع بلادنا على أسس صحيحة راسخة، ورغبنا في الحيلولة دون تكرار هذه المأساة الكارثة مرّة أخرى في المستقبل.
ولا ينبغي لشعبنا حتى وإن بدا الآن عاجزاً -في ظلّ الظروف الراهنة- عن تحقيق هذا المطلب.. أن يتنازل عنه أو أن يترخّص فيه..
قد يكون لدول وشعوب أخرى حقوق وحسابات كثيرة مع القذافي ونظام حكمه.. ومن حقّ هذه الدول أن تقرّر ما تشاء بشأن هذه الحقوق والحسابات وفقاً لمبادئها ومصالحها وظروفها.. فهذا شأنها وحقّها.. أمّا بالنسبة لما اقترفه القذافي ونظام حكمه بشأن ليبيا وشعبها.. ومحاسبة ومساءلة ومقاضاة ومعاقبة هذا النظام ورموزه عنها.. فهذا شأن ليبيّ محض.. وهو حقّ للشعب الليبي بكامله وحده.. كما أنّه فضلاً عن ذلك واجب تقع أعباؤه على كاهل الشعب الليبي وحده.. ولا ينبغي لشعبنا أن يتوقّع من أيّ أحد أو أيّ جهة غيره أن تضطلع بهذه المسؤولية نيابة عنه.
نعم.. قد يكون من حقّ الشعب الليبي أن يتوقّع من أشقائه وجيرانه وبقية الأسرة الدولية، وبخاصّة تلك التي تظهر حدباً على قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة واهتماماً بمسيرة الديمقراطية في العالم، أن تتعاطف معه وأن تناصر نضاله لرفع هذه المظالم والانتهاكات التي ارتكبها بحقه القذافي ونظامه الانقلابي، وأن تساند جهود شعبنا في ملاحقة ومقاضاة ومعاقبة المسؤولين عنها.. ومع ذلك فإنّ هذه المهمة تبقى شأناً ليبيّاً بالدرجة الأولى والأساسية.
وفي اعتقادي الخاص فإن أي دعوة لإصلاح الأوضاع السياسية القائمة في ليبيا لا تتضمن مطلب تقديم العقيد معمر القذافي إلى القضاء والمحاكمة عن جرائم 34 سنة الماضية، هي دعوة قاصرة ومتجنية ولا تلبي المطالب الحقيقية للشعب الليبي في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخه. وليس لمثل هذه الدعوة من سوى الفشل فضلاً عن طعن مسيرة شعبنا نحو العدل والحرية والتقدم.
القذافي ليس جزءاً من الحل..
النتيجة الثانية المترتّبة على اعتبار القذافي مسؤولاً عن هذه الحالة المأساوية التي بلغتها أوضاع ليبيا.. هي إسقاطه كطرف عند محاولة البحث عن حلّ للواقع الكارثي الذي تحياه ليبيا..
* فالقذافي هو سبب المشكلة القائمة في ليبيا وبالتالي فلا يمكن أن يكون هو، أو مقولاته وأفكاره، أو رموز نظامه المتورطة بمن فيهم أبناؤه، جزءاً من الحلّ لهذه المشكلة.
* كما أنّ القذافي غير جدير بأن يُحاور، وغير مؤهّل بأن تُوجّه إليه أيّة مطالبات ومناشدات بإحداث إصلاحات أو تغييرات في نظام الحكم.
* كما أنّ القذافي استنفد - بعد أربع وثلاثين سنة في الحكم - كلّ الفرص التي يمكن أن تُعطى لأيّ حاكم كي يجرّب على شعبه أفكاره وشطحاته.
وإنّ من واجب الشعب الليبي ومن حقّه أيضاً أن يصرَّ على هذه القناعات وهذه النتائج لمواجهة مستجدّات الوضع الراهن لقضية بلاده.
وإنّ من حقّ الشعب الليبي وواجبه أن يذكّر القذافي ومن يدعو إلى استمرار نظام حكمه أو من يدعو لأن نوُرّث كالأنعام والسائمة لأحد أبنائه.. إنّ من حقّ شعبنا وواجبه أن يذكّر هؤلاء جميعاً..
* أنّ هذا الضابط القذافي لم يكن أحد أبطال استقلال ليبيا.
* ولم يكن حتى نجلاً لأحد أبطال هذا الاستقلال.
وإنّ من حقّ شعبنا ومن واجبه أن يذكّر هؤلاء جميعاً..
* أنّ الضابط القذافي ليس سوى متآمر وسارق سلطة.
* وأنّ هذا الضابط لم يجرؤ يوماً على ترشيح نفسه في انتخابات عامة.. ولم يستند وجوده في الحكم يوماً إلى شرعية دستورية أو رضا شعبي حقيقي. (إذا ما استثنينا بالطبع مؤتمر أبي سليم).
وإنّ من حقّ شعبنا ومن واجبه أن يقول لهؤلاء جميعاً وبأعلى صوته..
* سواء أكان الضابط القذافي مخبراً لدى مخابرات العهد الملكي أم لم يكن..
* وسواء أكان عميلاً صنيعة لتلك الجهة أم لم يكن..
* وسواء أكان (أخواله) كما يقول بعض معارضيه أم لم يكونوا..
* وسواء أكان هو مؤلّف (الكتاب الأخضر) أم لم يكن..
* وسواء أكان أوسم المخلوقات طرّاً.. أو كان أقبحهم خلقة وفعالاً..
- ألا تكفيه أربعة وثلاثين عاماًَ كاملة من إخضاع ليبيا لإرادته وعبثه وتخلفّه..
وإذا كان بمقدوره أن يجلب لليبيا وشعبها أيّ خير، فما الذي منعه حتى الآن من جلبه؟ ولِمَ انتظاره كلّ هذه السنوات؟!
- وإذا كان ما جلبه هذا القذافي على ليبيا حتى الآن ليس سوى الشرور، بكلّ أنواعها وسبلها..
أليس من حقّ أبناء شعبها أن يقولوا له كفانا من شرورك ومن (جنّتك) التي ظللت تزعم أنّك (تريد أن تأخذهم إليها بالسلاسل).
* بقلم: د. محمد يوسف المقريف
رئيس ديوان المحاسبة الأسبق وسفير ليبيا الأسبق لدى الهند
|