* من (الرباط) العاصمة، إلى مدينة (مراكش) التاريخية الرائعة، أربع ساعات ونصف بالقطار.. كنت أجلس بجوار النافذة الزجاجية، أقتنص ب(كامرتي) الصغيرة، مشاهد طبيعية غاية في الجمال، في هذا الفضاء الأخضر الفسيح، الملبد بالسحب والغيوم، وسط زخات مطر هادئة لا تتوقف.
* غيمات سود، تحط على قمم جبلية هناك، وأخرى تلامس رؤوس أشجار الزيتون هنا، وبحيرات ومزارع يانعة على مد النظر على جانبي الطريق، مناظر تملؤك بالبهجة والسرور.
* وصلت مراكش قبل الغروب، وبعد أن بدلت ملابس السفر، سارعت إلىتفقد الأماكن القديمة التي أعرفها. بدأت بساحة جامع الفناء، الوجوه هنا كما عهدتها، وسوق الشيء وضده، يتوسد أرضية مبللة بعد رشات مطر خفيفة..
وجدتها.. وجدتها، إنها (الحريرة) المغربية الشهيرة، هي وحدها التي تجعلني أقاوم لسعات البرد في هذا الهواء الطلق المشبع بما يشبه الضباب. لماذا لا أتبعها، بطبق الطنجية اللذيذ ..!
* عكاظ المراكشي، يستحق أكثر من وقفة.. وهكذا كان في بقية أيامي في مراكش. غير أني كنت أبحث منذ وصولي إلى هنا، عن سبب وراء اسم (مراكش)، فكان لي ما أردت. قالوا: إن لصاً كان اسمه (كُش) في زمن بعيد، وكان مطارداً من رجال الدرك. ذات يوم، راغ منهم في المنعطفات والزنقات، فسألوا بعض من صادفهم: هل رأيتم أحداً مرّ من هنا..؟ قالوا: نعم. (مرّ.. كُش) من هنا..! فكانت (مرّا.. كُش).
* وهناك من قال لي غير ذلك. قال: كان البدو يغيرون على أهل الحضر في هذه البلدة، وكان بعض السكان يوصي بعضاً فيقول: (مُرّ.. كِشّ)، بمعنى اعبر والزم الهدوء والأمان، هذا في لغة البربر كما يقولون.
* في منطلق اليوم الأول لنشاط (المؤتمر الثالث للفكر العربي)، وقف رئيس المؤسسة الأمير، (خالد الفيصل بن عبدالعزيز)، في بهو فندق قصر المؤتمرات الكبير، يستقبل مئات الضيوف، الذين جاءوا من كل حدب وصوب، من عرب وعجم، ووقفنا للسلام والتعارف، لأكثر من ساعتين، قبل حفل الافتتاح الذي رعاه الأمير (مولاي رشيد)، ولي عهد المملكة المغربية، نيابة عن جلالة الملك (محمد السادس)..
* ماذا يجري هنا في مراكش..؟!
* لنقل: ماذا جرى في مراكش تحت خيمة (مؤسسة الفكر العربي)، في مؤتمرها الثالث ..؟
* من المؤكد، أن مؤسسة الفكر العربي هذه، تخوض تجربة (ثقافية حضارية) صعبة، لكنها ليست مستحيلة، وتمارس فعلاً تنويرياً واعياً، في زمن التظليم والتبهيم، لكنه من أفعال الرواد الكبار، الذين يعرفون ماذا يفعلون، لأن النفوس المحظوظة، هي وحدها التي تملك المقدرة على التفكير الصحيح. إن فعلا كهذا، سوف يُقذف بالحجارة لا محالة، أو يرمى بسهام التشكيك والتخوين، والعمالة والتهوين، لكن هذه حالة عربية مألوفة، لا يتوقف عندها عادة، إلا أولئك الذين يحملون في دمائهم فيروس الهزيمة ابتداءً، ولهذا فإن قافلة الفكر هذه، تبدو وكأنها محصنة ضد أمراض جاهلية كثيرة، من شأنها عرقلة المسيرة، والدفع بالجمجمة العربية إلى الوراء، خوفاً من القادم، وبحثاً عن النجاة في بحور التغيير والتجديد..!
* مدار المثاقفة في المؤتمر الثالث في مراكش، كان: (العربي بين ثقافة التغيير، وتغيير الثقافة)، وكان هناك إلحاح واضح منذ الجلسات الأولى على: (ضرورة القيام بدراسة واعية للواقع العربي، تساعد على تصحيح الأخطاء، وإزالة العيوب والشوائب، في إطار مراجعة شاملة، تنبع من قناعات العرب الذاتية، وتتماشى مع ثقافتهم واحتياجاتهم).. ثم يبرز السؤال المهم في هذا السياق: (هل يختار العرب ثقافة التغيير، ويقبلون عليها، ويصنعون مناخها، ويقدمون الإمكانات والطاقات اللازمة لذلك، أم ينتظرون أن يغير الآخرون ثقافتهم بالقوة والفرض)..؟!!
* رأيت جل الدراسات التي سيقت في هذا الملتقى، تعمل في بحث هذه المسألة، انطلاقاً من الحالة العربية المتردية على أكثر من صعيد، وهي حالة تفرز من المعضلات الحياتية للمواطن العربي، ما تثقل به كاهله، حتى يبقى في مؤخرة الركب الحضاري في هذا العالم. لكن إذا أردنا الإنصاف في توصيف الحالة العربية هذه، فلا بد أن نعطي شيئاً من التفريق بين عرب المغرب وعرب المشرق، وبين عرب الشمال وعرب الجنوب.. لا شك أن هناك إضاءات دالة على تغيير ثقافي ملموس، في الدول العربية المغاربية، لم يفهمه بعد إخوانهم المشارقة، لأن عرب المشرق على ما يبدو، ما زالوا مهمومين بجدليات الماضي، فلا بأس أن يخوضوا في فلسفات من مثل: أيهما قبل الآخر: (البيضة أم الدجاجة)، وحتى يستوعبوا الصلة بين الدجاجة وبيضتها، أو البيضة ودجاجتها، تكون الجغرافية الثقافية، قد دارت دورتها في هذا الكون، فهل ثمة بعد ذلك، مكان لمتخلف عن الركب..؟!
* إن ثقافة التغيير - حسب طروحات المؤتمر - تحمل في طياتها، بذور تحسين النسل الثقافي في الأمة، فلا خوف إذن من طغيان ثقافة على أخرى، لأن الثقافة الواثقة من نفسها، تملك القدرة على الأخذ والعطاء معاً، وتعرف كيف تختار، ما يسهم في حركيتها نحو الأفضل، ومن هذا المنطلق، فإن خوف المحافظين أو المتحفظين في هذه المسألة، ربما هو من باب التعصب، أو الجهل حتى بمكونات ومقومات ثقافتهم التي يذودون عنها رياح التغيير.
* يرى الدكتور (شاكر النابلسي)، في بحثه المناقش في هذا الملتقى، أن التغير سنة الحياة، وهو من سمات الرسالات السماوية، فالإسلام مثّل حركة تغييرية كبيرة، (عقدية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وسياسية وعسكرية).
* لماذا إذن يتخذ (بعض) الراديكاليين الإسلاميين اليوم، موقفاً سلبياً من معطيات التغيير، التي هي من سمات دينهم، ومن متطلبات حياتهم وتطورهم وتقدمهم، بل من مستلزمات دخولهم في التاريخ إن أرادوا..؟! فهم غير ممثلين في هذا المحفل الكبير، وهذا موقف يسجل ضدهم بكل تأكيد.
* هناك عوامل كثيرة على ما يبدو، تحول بين أصحاب هذا الموقف، وبين ما يجري من سجال ثقافي. منها: عدم فهمهم لتحديات ومتطلبات العصر، أو جهلهم التام بأمراض مجتمعاتهم، وفي مقدمتها الأمية، والركون إلى الماضوية، والخوف من الآخر. إضافة إلى اطمئنانهم لسياسيات تعليمية شبه محنطة، لا تتواكب مع الحياة الحديثة، ورفضهم التعاطي مع ثقافات الآخرين، وتفضيلهم التقوقع، والعودة إلى حياة العزلة، قبل التغيير الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي.
* في هذا الصدد، يعتقد الدكتور (شاكر النابلسي)، أن العرب في حاجة إلى التغيير في مجالات مثل: (الحريات، والحقوق العامة، والشورى والديمقراطية، والمرأة وخلق المجتمع المدني).
* هذه إذن من التحديات التي تواجه الرغبة في خلق ثقافة تغيير جوهورية، أو تغيير ثقافي إيجابي تقدمي.. فكيف استطاعت الثقافات الأخرى - غير العربية - أن تتغير..؟
* يقول العفيف الأخضر في مقالة منشورة له في جريدة الزمان - لندن - (19- 6-2002م): (إن مهمة المثقف، ليست هجاء أو مدح ما يجري في العالم، أي تقبيحه أو تجميله، لأنهما فعلان عبثيان، بل المطلوب هو تحليل الواقع وفهمه، عسى أن يغدو التدخل الواعي في صيروراته ومساراته ممكناً).
* كانت هذه على ما يبدو مهمة المثقف، في بلورة ثقافة تطمح إلى أن تغادر الجمود إلى عالم من الحركية الفاعلة، لأن روح التفكير المستنير، تنبع من قابلية العقل المفكر، للتعاطي مع الجديد من أجل التغيير، فهذا (شكسبير) الفيلسوف الشاعر المفكر - على سبيل المثال - عبر عن علاقة (نورانية)، بين التفكير الإنساني كفعل، والعقل كموجه، حين قال: (التفكير.. هو عيننا العاقلة) في حين عبر (هتلر) الدموي النازي، عن فكرة مضادة، تجسد معاداته للحراك الثقافي المفضي إلى التغيير، وهو بذلك يضمر خوفه، من الوعي الثقافي المحرك بالضرورة، على دكتاتوريته وتسلطه، قال: (كلما سمعت كلمة ثقافة، تحسست مسدسي)..!
* ماهي آليات التغيير التي ترنو إليها مؤسسة الفكر العربي، وما طبيعة مآلاتها المستشرفة، في خضم الكم الهائل من تجارب العرب وغير العرب؟
* الشباب كان لهم ما يقولون في أروقة المؤتمر، ولعل بعض التساؤلات التي أثارتها الشابة: (هدى أوغيدني)، من جامعة باجي مختار في عنابة بالجزائر، تحدد موقفاً حائراً، أو ترسم صورة مذبذبة، لذلك التعاطي القادم لا محالة، بين شباب العرب، وبين ثقافتهم الجديدة قالت:
* كيف التعامل مع طوفان التغيير..؟
* كيف تكون مشاركتنا إيجابية..؟
* أحينما نتسلح بثقافة القدماء أم المحدثين..؟
* أو حينما نهجر هاته أم تلك..؟
* أحين نستفيد من آراء الآخرين وثقافاتهم..؟
* أحين نحافظ على الذات ونجعلها تتواصل..؟
* أين محلنا من الإعراب..؟
* إنها أسئلة تحمل في طياتها، ألق وقلق الشباب العربي، فهل يدفع الشباب العربي بالحالة العربية الراهنة، إلى خيار ثقافة التغيير، أم يكرهونها على شرب الدواء المر، الذي يراه بعضهم في التغيير الثقافي..؟
* أودع (مراكش)، في ختام المؤتمر، وأنا أسمع صدى الأصوات المتثاقفة يتردد.. إنه التفكير الذي أحدثوه، يتسامى من هنا، بصوت مرتفع على ما يبدو..؟
: 027361552 fax
|