* بقلم - د. محمد يوسف المقريف - رئيس ديوان المحاسبة الأسبق - وسفير ليبيا الأسبق لدى الهند :
هناك مقولة بدهية معروفة، هي موضع اتفاق، ليس بين الليبيِّين جميعهم فحسب، ولكن بين البشر جميعاً.. هذه المقولة مفادها أنّ لكلّ فعل فاعلاً.. وأنّ وراء كلّ جريمة مقترفاً لها أو مرتكباً.. وأنّ لكلّ جريمة عقوبة وقصاصاً. وسوف أتّخذ من هذه المقولة محوراً وأساساً لهذه المقالات.
فما هي الجريمة التي أعنيها؟
ومن هو مقترف هذه الجريمة ومرتكبها؟ أو من هو المسؤول عنها؟ وما هو الموقف من هذا الجاني/ المسؤول عن هذه الجريمة؟ أو ما هو جزاؤه؟ وما نوع القصاص الذي ينبغي أن يلحق به؟
مظاهر وملامح المأساة
خضعت ليبيا حتى الآن للسلطة التي أقامها النظام الانقلابي بقيادة الضابط معمر القذافي نحواً من أربع وثلاثين سنة..
فماذا كان حصاد هذه السنوات؟ وماذا كانت المحصّلة النهائية للسياسات والمواقف والممارسات التي انتهجها هذا النظام على امتداد هذه السنوات؟!
قبل أن ننطلق في البحث عن إجابة لهذا السؤال، نرى ضرورة تنبيه القارئ إلى جملة من الحقائق ذات الصلة وهي:
* أنّ ليبيا لم تتعرّض على امتداد هذه السنوات لأيّة كوارث أو نوازل طبيعية.
*وأنّ عدد سكان ليبيا ظلّ في حالة نموّ طبيعي إلى أن بلغ في نهاية هذه الحقبة نحو (5) ملايين نسمة.
* وأنّ جميع مقدّرات وثروات ليبيا وإمكاناتها ظلّت تحت تصرّف هذا النظام، وكان في مقدّمتها عائداتها النفطية التي جاوزت وحدها ما يربو عن (350) مليار دولار حسب أقلّ التقديرات.
ولنعد بعد هذا إلى السؤال الذي طرحناه..ماذا كان الحصاد النهائي والمحصلة الختامية لنهج النظام الانقلابي ولسياساته؟!
نحسب أنّ هناك إجماعاً بين الليبيّين في الداخل كما في الخارج، بل بين كثير من المحسوبين على النظام الانقلابي، بأنّ الشعب الليبي يعيش الآن وفي ظلّ هذا النظام حالة مأساوية كارثية. وهي حالة بدأت مع السنوات الأولى لهذا النظام وازدادت مع مضيّ السنوات سوءاً وتفاقماً. وهي حالة بلغت غاية البشاعة والزراية، كما أنّها غير مبرّرة بأيّ منطق لا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار ما كانت عليه أوضاع ليبيا من تقدّم وازدهار قبيل مجيء هذا النظام، وأخذنا في الاعتبار الحجم الهائل لثروات وعائدات ليبيا النفطية خلال هذه الحقبة، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أيضاً ما استطاعت دول أخرى أن تنجزه وأن تحقّقه خلال الحقبة ذاتها بإمكانات وثروات أقل وبثقل سكاني وأعباء أكبر.
من مظاهر هذه المأساة الكارثة التي
تعيشها ليبيا:
أولاً: على الصعيد الداخلي
1- ألغى انقلابيو سبتمبر دستور البلاد الصادر في عام 1951 وأبقوها طوال هذه الحقبة بلا دستور ينظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويقدّم الضمانات القانونية التي تكفل وتصون حرّيات المواطنين وحقوقهم الأساسية. وأبقوا البلاد بلا مؤسسات دستورية ثابتة تحدّد اختياراتها وترسم سياساتها وتقرّر مواقفها وفقاً لما يراه شعبها. وأصبحت شؤون البلاد كلّها رهن مزاج وهوى الانقلابيين.
2- ألغى انقلابيو سبتمبر الحياة البرلمانية التي عرفتها ليبيا، دون توقّف أو انقطاع، منذ حصولها على الاستقلال في عام 1951. واستبدل الانقلابيون مجلسي الشيوخ والنواب بهياكل هزيلة جوفاء كانت مهمّتها الأساسية تزييف إرادة الشعب الليبي.
3- اعتدى الانقلابيون على السلطة القضائية وهيمنوا عليها وأفقدوها كافّة مظاهر الاستقلالية والحيدة والنزاهة والعدالة.
4- فرض انقلابيو سبتمبر (الكتاب الأخضر) على الشعب الليبي وقنّنوا مقولاته السقيمة العقيمة. واستصدروا عدداً من القرارات والقوانين التي صادروا بموجبها حرّية العمل السياسي وألغوا كافة منابر التعبير الحر، وأمّموا الصحافة، وأخضعوا حركة المواطن الليبي لهذه المقولات ولجملة من المكبّلات والعوائق في شتى مجالات الحياة، ارتكست به إلى ما دون خطّ الآدمية.
5- أخضع انقلابيو سبتمبر هياكل الدولة ومؤسساتها الإدارية، وأجهزة التخطيط والرقابة والمحاسبة التي ورثوها عن العهد الملكي، لسلسلة متواصلة من التعديل والتبديل والفكّ وإعادة التركيب تحت شتى المسمّيات، الأمر الذي أدّى إلى إرباك عملها بل وشلّه وأدّى في النهاية بأجهزة الدولة كافّة إلى حالة من الفوضى الشاملة المتواصلة. كما أخضع انقلابيو سبتمبر العاملين بالدولة إلى جملة من الإجراءات والقرارات المربكة والمعاملات المذلّة المهينة وليس أقلّها الإبقاء على مرتّباتهم وأجورهم عند المستوى الذي كانت عليه في عام 1981، وتعمّد تأخير صرف هذه المرتبات والأجور (التي يفترض أن تكون شهرية) إلى ما يجاوز الستة أشهر في بعض الأحيان.
6- أخضع الانقلابيون البلاد لعمليات تجريب سياسي متواصلة أسهمت، مع ما تعرّضت له الأجهزة الإدارية من تعديلات مستمرّة، في إرباك مسيرة الدولة وبإهدار جزء كبير من وقت وجهد ثروتها البشرية فضلاً عن المادية.
7- أقام الانقلابيون (منظومة إرهاب داخلي) قوامها اللجان الثورية والأجهزة الأمنية والمحاكم الخاصّة والثورية واستصدروا لها القرارات ووفّروا لها الأموال وكافّة المستلزمات البشرية والمادية. ومارست هذه الأجهزة الإرهاب والقمع والفتك بالمواطنين الليبيين بشكل متواصل ومتعاظم، في الخفاء وفي العلن بعلم وبتعليمات الانقلابيين.
8- مارس انقلابيو سبتمبر عبر الأجهزة واللجان التي أقاموها وبموجب القرارات والقوانين التي استصدروها، استباحة كاملة لحقوق وحريات المواطنين، واعتدوا بشكل متواصل ومبرمج ومتعمّد على حرّياتهم وحتى على حياتهم. ولا بدّ في هذا الصدد من تسجيل وقوع الجرائم والانتهاكات التالية خلال هذه الحقبة:
* تعرّض ما لا يقلّ عن (30) ألف ليبي للاعتقال السياسي بأسلوب تعسّفي وغير قانوني.
* تعرّض عدد كبير من المعتقلين السياسيين لأبشع أنواع التعذيب النفسي والبدني ووفاة أعداد منهم تحت التعذيب.
* قيام النظام بقتل ما يزيد عن (500) مواطن ليبي إمّا عن طريق الاغتيال العلني أو تحت التعذيب أو بالإعدام السرّي أو العلني دون محاكمة أو عقب محاكمات صورية أمام محاكم خاصّة أو ثورية. هذا فضلاً عن ضحايا مجزرة (سجن أبي سليم) في عام 1996 الذين يقدّر عددهم بما يربو عن ألف قتيل. * اختفاء العشرات من المواطنين الليبيّين وغيرهم اختفاءً قسرياً في ليبيا، ومن أبرز حالات الاختفاء القسري من الليبيّين الشيخ أحمد البشتي والدكتور عمرو خليفة النامي وجاب الله حامد مطر وعزّات يوسف المقريف ومنصور رشيد الكيخيا.
9- فرض انقلابيو سبتمبر على البلاد سياسات اقتصادية فاشلة وعقيمة لا صلة لها بمعطيات الواقع الليبي، وتجاهلوا بشأنها أخذ آراء الخبراء والاختصاصيين. كما أقاموا مشروعات صناعية وزراعية فاشلة بتكاليف باهظة استنزفت ثروات البلاد المائية وأسهمت في إفلاس خزانتها، ولم تحقّق أيّ هدف من الأهداف المعلنة لها سواء في مجال تحقيق الاكتفاء الذاتي أو تزويد البلاد بمصادر دخل بديلة للنفط. كما أهمل الانقلابيون الاهتمام بصيانة البنية الاقتصادية التحتية التي ورثوها عن العهد الملكي.
10- تعمّد انقلابيو سبتمبر إهمال الإنفاق على قطاعات التعليم والصحة والإسكان والرعاية الاجتماعية وشؤون البيئة بحجج وذرائع واهية. وقد ترتّب على هذا الإهمال أن أصبحت حياة الليبيّين معرّضة لشتى أنواع الأخطار كما تدنّت مستويات معيشتهم إلى مستويات الشعوب الفقيرة المعدمة التي لا تملك بلادها أيّة ثروات. ولا بدّ من التأكيد على أنّ الانقلابيين قاموا عن عمد بانتهاج سياسة تعليمية فرضت على الناس الجهل وبلغت بالتعليم أحطّ مستوياته.
11- أنفق الانقلابيون ما لا يقلّ عن %40 من عائدات ليبيا النفطية على شراء السلاح وتكديسه وعلى الإنفاق العسكري. وتجمع التقارير على أنّ (العبء العسكري) في ليبيا في ظلّ النظام الانقلابي بلغ خلال الثمانينات ضعف المعدل العالمي. وفضلاً عن أنّ هذا الإنفاق لم يكن مبرّراً بأيّة حسابات أمنية أو استراتيجية وطنية أو حتى قومية، فقد كان على حساب خطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا خلال هذه الحقبة، كما أنّه أغرى الانقلابيين بالإقدام على مغامراتهم وتدخلاتهم العسكرية في شؤون شتى الدول الأفريقية والعربية بكلّ نتائجها المأساوية. ومن المعروف أنّ الجزء الأكبر من هذا السلاح قد أكله الصدأ والبلى.
12- استخدم الانقلابيون جملة من السياسات، ومنذ مرحلة مبكّرة، استهدفت إفساد المؤسسة العسكرية وإلهاءها عن مهامها المعروفة، وفي النهاية تدميرها.
13- شجّعت السياسات التي انتهجها الانقلابيون وبخاصّة فيما يتعلّق بتعطيل دور أجهزة المحاسبة والرقابة المالية والإدارية على استباحة المال العام وانتشار الفساد المالي على أوسع نطاق. وقد مارس انقلابيو سبتمبر وأبناؤهم وأقاربهم عملية سطو ونهب سافرة لأموال الدولة بل ولأموال المواطنين الخاصّة.
14- السياسات التي انتهجها الانقلابيون على انتشار الفاحشة والرذيلة وشيوع التفسّخ الاجتماعي والانحلال الأخلاقي وانتشار الجريمة والمخدرات.
هذه هي أهم ملامح الكارثة التي أصابت ليبيا وشعبها على امتداد الأربع والثلاثين سنة الماضية جرّاء سياسات النظام الانقلابي وممارساته.. ولا نحسب أنّ هناك من يحجم أو يتردّد في وصف هذه الكارثة بالجريمة.. فهي ليست مجرّد أخطاء أو تجاوزات.. إنّها جريمة بل هي رزنامة جرائم.
ماذا كان شعبنا وأمّتنا يتوقعان من النظام الانقلابي أن يقوم به وطنياً وعلى كافة الأصعدة الخارجية عربياً وإسلامياً وعالمياً، أخذاً في الاعتبار إمكانات ليبيا وثرواتها، وفي ضوء الميراث الطيّب من العلاقات الخارجية الحسنة التي خلّفها العهد الملكي؟ العقل والمنطق والمعطيات كلّها؛ المحلية والقومية والدولية، كانت توجب على النظام الانقلابي:
* أن يوظّف إمكانات ليبيا الهائلة ابتداءً من أجل خير شعبها كلّ شعبها، ومن أجل رفاهيته وتطويره وتنميته، ثمّ من أجل خير جيرانها وأمّتها وقارّتها.
* أن يقيم أوثق علاقات التعاون والتبادل والتضامن عربياً وإفريقياً وإسلامياً وعالمياً بما يخدم:
- قضايا التحرّر والوحدة والتكامل والنهضة عربياً.
- قضايا التنمية والتحرّر والتضامن إفريقياً وإسلامياً.
- قضايا السلم والتعاون والتبادل الثقافي والتجاري والتقني عالمياً.
غير أنّ رأس النظام الانقلابي الضابط معمر القذافي فاجأ الليبيّين (بمن فيهم زملاؤه من أعضاء مجلس قيادة الانقلاب) وفاجأ العرب وسواهم بأنّه يعتبر نفسه:
* وريث الناصرية وأمين القومية العربية.
* أنّه مفكّر أممي وصاحب نظرية تملك حلّ كافّة مشاكل البشرية وإنقاذ العالم أجمع.
* أنه الوصيّ على الثورة العالمية، وأنّه يملك الحقّ في تصدير الثورة إلى شتى أنحاء الكرة الأرضية، وأنّه المكلّف بتثوير العالم.
ولم يكتفِ النظام الانقلابي بأقوال الضابط القذافي فسارع إلى اتّخاذ كافّة الإجراءات والخطوات التي من شأنها توظيف ثروات ليبيا وإمكاناتها وعلاقاتها من أجل خدمة هذه الأوهام والادّعاءات.
فتمّ ترجمة (الكتيّب الأخضر) إلى كافّة لغات الدنيا وطبعه وتوزيعه مجاناً على حساب خزانة الشعب الليبي، كما أقيمت عشرات الندوات والملتقيات المدفوعة الثمن من أموال الشعب الليبي، كما جرى فتح كافّة منافذ ليبيا الجوية والبرية لاستقبال شتى أنواع المرتزقة من كلّ مكان، مرتزقة الكلمة ومرتزقة السلاح ومن هم على شاكلتهم، كما تمّت استضافة ورعاية شتى الحركات والجماعات والهيئات التحرّرية وغير التحرّرية من كلّ أصقاع العالم وأجناسه، وفُتحت معسكرات التدريب العسكري لهؤلاء الوافدين في كثير من أرجاء التراب الليبي، تمّ تكديس مختلف أنواع السلاح والذخيرة والألغام من شتى المصادر الغربية والشرقية كما جرى إقامة مصانع لإنتاج المتفجرات والمواد المفخخة بإشراف عملاء المخابرات المركزية السابقين وغيرهم، شرع النظام منذ مرحلة مبكّرة في بذل المساعي من أجل اقتناء قنبلة ذرّية (ولو صغيرة) ثمّ شرع فيما بعد في اتّخاذ الخطوات لاقتناء وإنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
وفضلاً عن ذلك فقد تمّ إعادة تنظيم أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والدبلوماسية وأعيد النظر في أولوياتها وأهدافها بما يخدم هذه الأوهام، كما وضعت الترتيبات التي تكفل تمويل هذه النشاطات من الخزانة الليبية دون تقتير أو تعطيل ودون أيّ رقابة أو محاسبة.
وقد أورد الرائد عبد السلام جلود في خطاب ألقاه بمدينة سرت خلال ما عُرف بعيد الوفاء الذي أقيم في الذكرى العشرين للانقلاب أنّ النظام أنفق منذ قيام الانقلاب وحتى ذلك التاريخ ما نسبته 22% من عائدات ليبيا النفطية (أي نحو 44 مليار دولار) على تمويل ودعم ومساندة حركة الثورة العالمية وحركات التحرر.
غير أن الضابط القذافي لم يكن سعيداً بإنفاق هذا المبلغ فقط على حركات التحرّر. لقد بدا هذا المبلغ الضخم زهيداً في نظره.. فقال وبالحرف الواحد خلال اللقاء الذي أجرته معه إذاعة لندن ال(بي. بي. سي. البريطانية) خلال الذكرى نفسها، ونشرته صحيفة (الزحف الأخضر) الرسمية في عددها الصادر يوم 25-9-1989 ما نصّه:
(إنّنا نتأسف لأننا لم ننفق ثروتنا كما ينبغي.. كان يجب أن ننفق حتى على حساب الصناعة والزراعة الليبية.. على حركات التحرّر في العالم.. إنّني متأسف جداً لأنّني لم أنفق المليارات على حركات التحرّر.. وهذا خطأ.. إذ كان يجب أن ننفق ثروتنا على هذه الحركات حتى يهزم الاستعمار والصهيونية في كل مكان).
لقد انتهج النظام الانقلابي في ظلّ هذه الأوهام التي استبدت برأس الضابط القذافي تجاه جيران ليبيا وأشقائها ومع بقية دول العالم، سياسات عدوانية نزقة، قلقة ومتقلّبة..
* تبدأ بالبذاءة الكلامية التي لا تعرف الحدود.
* وتمرّ بتسفيه الاختيارات السياسية والإيديولوجية لها جميعاً..
* وتصل إلى حدّ العدوان والتآمر السافر على بعضها وبالحروب مع بعضها..
* وتنتهي إلى القطيعة السياسية والدبلوماسية مع معظمها.
أما تأجيج الفتن الداخلية والحروب الأهلية والإقليمية ورعاية وتمويل الإرهاب الدولي وجماعاته فقد ظلت هواية القذافي ولعبته المفضلة. ويتّضح من مطالعة الدراسات والتقارير المتعلقة بسياسات النظام الانقلابي وممارساته وعلاقاته الخارجية (حتى عام 1989):
(أ) أنّ العمليات التخريبية والإرهابية التي قام بها عملاء النظام الانقلابي شملت أكثر من (40) دولة عربية وإفريقية وآسيوية وأوروبية وغيرها.
وقد بلغ عدد هذه العمليات نحو (127) عملية:
- منها (30) محاولة انقلاب فاشلة.
- ومنها (83) حالة تدخّل وتخريب.
- ومنها (14) محاولة اغتيال فردية وجماعية.
(ب) أنّ الدول العربية تليها دول القارّة الإفريقية كانت الأشدّ تضرّراً كمّاً ونوعاً من جرّاء عمليات النظام الإرهابية - التخريبية، فكانت هناك:
- (15) محاولة انقلاب فاشلة.
- (44) حالة تدخّل وتخريب.
- (11) محاولة اغتيال فاشلة.
(ج) أنّ النظام الانقلابي تعاون عبر أجهزته الأمنية وما يعرف بالمثابة العالمية، تعاون مع ومدّ يدّ المساعدة والدعم لأكثر من (30) جماعة وحركة إرهابية في العالم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما مدّ يد الدعم لبعض الجماعات المتناحرة والمتصارعة في البلد الواحد ذاته.
(د) أنّ أجهزة النظام الانقلابي قامت بتجنيد وتدريب وتجهيز وتمويل أكثر من (15) خمسة عشر ألفاً من المرتزقة الأفارقة والعرب والأوروبيين وغيرهم كما أقام النظام لهذا الغرض أكثر من ثلاثين معسكراً انتشرت في شتى أرجاء ليبيا.
وفي حمأة هذا النشاط العدواني الإرهابي التخريبي المتفلّت الذي مارسه النظام الانقلابي وأجهزته وعملاؤه:
- جرى الاتصال والتعاون بينه وبين كارلوس وأضرابه وأبي نضال وجماعته.
- دخل النظام حروبه مع مصر عام 1977 ومع تشاد على امتداد السنوات 1980-1987.
- وتدخّل في الحرب الأوغندية عام 1979 والحرب الأهلية في لبنان منذ العام 1975 وكذلك الحرب الأهلية في جنوب السودان في السبعينات وحرب الخليج الأولى منذ منتصف الثمانينات، كما أسهم في إشعال نار الحرب في الصحراء الغربية منذ منتصف السبعينات وكذلك في الصومال.
- وسعى لاغتيال عدد من الرؤساء والقادة العرب، ياسر عرفات والملك حسين وأنور السادات، كما نفّذ جريمة اختطاف وتغييب الإمام الجليل موسى الصدر ورفيقيه في أغسطس - آب من عام 1978.
- كما نفّذ عملاء النظام العدوان الدموي الغادر على مدينة قفصة التونسية في مطلع عام 1980، كما نفّذوا أكثر من اعتداء على حدود السودان الغربية منذ العام 1976م.
وفي حمأة هذا النشاط العدواني الإرهابي الذي مارسه النظام الانقلابي:
- قام عملاء النظام الانقلابي خلال عام 1984 بزرع ألغام بالبحر الأحمر وخليج السويس الأمر الذي أدّى إلى إعطاب نحو (20) سفينة أثناء مرورها بهذه المنطقة خلال شهري يولية وأغسطس (تموز وآب) من العام نفسه.
- قام عملاء النظام بشحن كمية كبيرة من الأسلحة والمتفجرات على طائرات الحجيج الليبي خلال موسم الحج 1984 وكانت المتفجرات معدَّة للسيطرة على الأماكن المقدسة بالقوة.
- قام عملاء النظام الانقلابي في عام 1985 بإرسال نحو مائة (100) طرد ورسالة ملغومة إلى (34) صحفياً و(70) شخصية سياسية في تونس.
- قام عملاء النظام الانقلابي في أواخر عام 1985 بتنفيذ هجومين إرهابيين على مطاري روما والنمسا أدّيا إلى سقوط عدد من الضحايا قتلى وجرحى.
- قام عملاء النظام الانقلابي في أبريل - نيسان 1986 بتفجير ملهى (لابيل) الليلي ببرلين الغربية ممّا أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وجرح أكثر من (150) شخصاً من روّاد الملهى.
- قام عملاء النظام الانقلابي في 21 ديسمبر - كانون الأول 1988 بتفجير طائرة الركاب الأمريكية (بان آم) فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية ممّا أسفر عن مقتل (259) راكباً وملاحاً و(11) مواطناً اسكتلندياً على الأرض.
- قام عملاء النظام الانقلابي في 19 من سبتمبر 1989 بتفجير طائرة الركاب الفرنسية (يو. تي. أي) الرحلة (722) فوق سماء النيجر ممّا أدّى إلى مقتل جميع ركابها وملاحيها البالغ عددهم (171) شخصاً.
وفضلاً عن الثمن الفادح الذي جرّته سياسات النظام الانقلابي الخارجية على الشعب الليبي وأرواح أبنائه وعلى خزانته وعلى سمعته وشرفه ومستقبل علاقاته وعلى بقية الشعوب الأخرى التي استهدفت بهذه السياسات، فقد كان من نتائجها الوخيمة أيضاً:
1- قيام قرابة (50) دولة عربية وإفريقية وآسيوية وأوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية بقطع أو تجميد علاقاتها الدبلوماسية مع النظام الانقلابي.
2- رفض منظمة الوحدة الإفريقية أكثر من مرّة (في مطلع الثمانينات) الموافقة على استضافة النظام الانقلابي قمّتها السنوية في طرابلس أو أن يترأسّ الضابط القذافي المنظمة.
3- رفض الدول العربية عقد أيّة قمّة عربية في طرابلس رغم استجداء النظام الانقلابي لهذا الأمر أكثر من مرّة (وحتى بعد أن تعرّضت ليبيا للغارة الأمريكية في منتصف أبريل - نيسان 1986).
4- قيام عدد من الدول العربية والإفريقية بتقديم شكاوى رسمية ضدّ النظام الانقلابي وسياساته العدوانية وصدور إدانات بحقّه من قبل عدّة محافل وهيئات إقليمية ودولية.
5- وقوع حروب واشتباكات مسلّحة بين النظام الانقلابي وعدد من دول الجوار (مصر، تشاد) كما وصلت العلاقة بين النظام وبين عدد من دول الجوار الأخرى إلى حدّ التهديد بالحرب والصراع المسلّح (تونس، السودان، النيجر، الجزائر).
6- تعرّض الشعب الليبي لعدد من العمليات العسكرية والغارات من الخارج كردّ فعل لممارسات النظام الإرهابية الخارجية (الغارات الأمريكية على سرت وطرابلس وبنغازي في مارس وأبريل 1986).
7- إخضاع النظام الانقلابي منذ مطلع عام 1986 للمقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية المحدودة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان ومجموعة الدول الأوروبية.
8- فرض عقوبات دولية من قبل الأمم المتحدة على النظام الانقلابي منذ أبريل 1992 بسبب تورّطه في حادثي تفجير طائرتي (بان آم) و(يو. تي. إي).
9- ولعلّ أخطر هذه النتائج الوخيمة على الشعب الليبي ارتهان اقتصاده وثروته لسنوات قادمة لسداد استحقاقات النشاط الإرهابي التخريبي الذي مارسه النظام الانقلابي وعملاؤه عبر السنوات الماضية.
هذه الجرائم.. مسؤولية من؟
لا نحسب عاقلاً يتردّد في القول بأنّ ليبيا اليوم وبعد (34) عاماً من حكم الانقلابيين تعيش وضعاً مأوساوياً كارثياً، حيث تمثّلت المحصّلة النهائية لهذه التوجّهات والسياسات والممارسات:
- في إذلال المواطن الليبي، رجلاً وامرأة، كبيراً وصغيراً، وبقهره وامتهانه وحرمانه حتى من أبسط حقوقه الآدمية والإنسانية فضلاً عن ثروات وخيرات بلاده.
- وفي استنزاف وتبديد ثروة الشعب الليبي النفطية وبقية ثرواته الطبيعية، ونهب أموال خزانته العامة وأرصدتها.
- وفي تشويه صورة المواطن الليبي ودولته، عربياً وإفريقياً وعالمياً، والإساءة البالغة إلى علاقاته بأشقائه وجيرانه وبالمجتمع الدولي بصفة عامّة.
- وفي تفويت فرصة العقود الثلاثة الماضية على الشعب الليبي والحيلولة بينه وبين توظيف كافّة إمكاناته وطاقاته المادية والبشرية من أجل بناء النهضة وتحقيق التقدّم له ولأجياله القادمة.
- وفي ارتهان ثروات ليبيا وخيراتها على امتداد سنوات قادمة لأداء الاستحقاقات ودفع التعويضات عن الجرائم التي ارتكبها النظام الانقلابي إزاء العديد من الأطراف.
إنّنا لا نتصوّر وجود أحد يتردّد في وصف ما ارتكبه النظام الانقلابي بحقّ ليبيا ودولتها ومجتمعها وإنسانها وأجيالها القادمة بالجريمة.. بل برزنامة الجرائم..
إنّ ما وقع خلال هذه السنوات الماضية ليس مجرّد أخطاء عارضة.. أو تجاوزات محدودة.. أو نزوات شاذّة غير متكرّرة.. إنّها جرائم مبرمجة مقصودة مع سبق الإصرار والترصّد.
إنّ ليبيا اليوم وبعد أربعة وثلاثين عاماً من تسلّط النظام الانقلابي على حكمها ومقاليد الأمور فيها:
* أضعف ممّا كانت
* وأعجز ممّا كانت
* وأفقر ممّا كانت..
لقد دفع انقلابيو سبتمبر بليبيا..
- في طريق الأزمات السياسية والعزلة الدولية.
- وفي طريق الهزائم العسكرية.
- وفي طريق الخصومات العنيفة والقطيعة مع جيرانها وأشقائها..
- وفي طريق الإفلاس والفساد المالي والإداري.
- وفي طريق الخراب الاقتصادي المصحوب بانحلال أخلاقي وانهيار اجتماعي سوف تقاسي ليبيا آثاره أجيالاً عديدة.
تلك هي الجريمة أو الجرائم التي اقترفها انقلابيو سبتمبر بحقِّ ليبيا..
ولكن هل يكفي أن نقول بأنّ هذا هو ما حدث في ليبيا منذ الأول من سبتمبر من عام 1969؟ أم ينبغي علينا أن نحدّد المسؤول عن هذه الجرائم؟
في اعتقادي أنّ مسألة تحديد المسؤول عن هذه الجرائم هي من أوجب الواجبات علينا نحن الليبيّين في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ قضيتنا وقضية بلادنا.. وهي المسألة المفصلية الحاسمة لفرز الصفوف الوطنية ولإمكان بلوغ مخرج وحلّ لقضية بلادنا مع هذا النظام يحقّق أماني وتطلّعات شعبنا الحقيقية والعادلة في الحرّية والعدالة وبناء دولة الاستقلال الثانية.
إنّه من السهل أن نجد الكثيرين من الليبيّين، حتى من بين عناصر النظام الانقلابي بل القذافي نفسه وسيفه، يتحدّثون عن الأخطاء والتجاوزات والانتهاكات وبعض جوانب الواقع الأسيف الذي تحياه ليبيا، ولكن قلّة من هؤلاء هي وحدها التي تصرّ على ضرورة تحديد المسؤول الحقيقي عن هذا الواقع وعن المآل الذي آلت إليه أحوال بلادنا..
فمن هو المسؤول عن هذه الجرائم التي ارتكبت في ظلِّ النظام الانقلابي؟!
هذا سؤال يفرض نفسه.. ولا بدّ من الإجابة عليه..
وإنّ عدم البحث عن إجابة له هو نوع من العبث وانعدام شعور بالمسؤولية.. بل هو في حدّ ذاته جريمة..
- من هو المسؤول عن كافّة المظالم والانتهاكات التي وقعت على امتداد الأربعة وثلاثين عاماً الماضية؟
- ومن هو المسؤول عن الإزهاق الذي تعرّضت له أرواح الآلاف من الليبيّين في الحروب وعلى أعواد المشانق وداخل السجون والمعتقلات خلال هذه الحقبة؟
- ومن هو المسؤول عن هذا الإهدار المتعمّد لطاقات الليبيّين وجهودهم وثرواتهم والاستباحة لأعراضهم ودمائهم وكافّة حرماتهم؟
- ومن هو المسؤول عن هذا الإنفاق السفيه لأموال بلادهم وهذا السطو والنهب لأرصدتها وعائداتها؟
- ومن هو المسؤول عن هذا الاستنزاف الجائر لسائر ثروات ليبيا الطبيعة، وعن التلويث المتعمّد لبيئتها؟
- ومن هو المسؤول عن هذا الترويع والإرهاب والعسف والقمع والبطش والفتك الذي تعرّض له الليبيّون دون استثناء على امتداد هذه الحقبة؟
- ومن هو المسؤول عن هذا الحرمان والتجويع والتجهيل والتعريض لسائر الأمراض والأخطار التي مورست بحقّ الإنسان في ليبيا، طفلاً وامرأة ورجلاً، على امتداد هذه الأعوام الأربعة والثلاثين؟.
هذا سؤال ينبغي على كلّ ليبي يؤمن بقضية بلاده أن يطرحه على نفسه وعلى كلّ من يتصدّى للحديث أو البحث في شأن القضية الليبية في هذه الآونة العصيبة من تاريخ بلادنا.. وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الحلقة وفي الحلقة التي تليها.
فمن هو المسؤول؟
لقد تعمّدنا خلال ما سلف من هذه الحلقات استعمال عبارتي (النظام الانقلابي) و(انقلابيو سبتمبر) وذلك من باب الموضوعية وحتى لا نتَّهم من قبل القارئ في تلك المرحلة المبكّرة من البحث باستهداف شخص بعينه من هذا النظام أو من هؤلاء الانقلابيين.
وكما هو معروف فإنّ (النظام الانقلابي) كيان مركّب يضمّ جهات وأجهزة وشخصيات ورموز عديدة.. فهو يضمّ:
* من بقي من مجلس قيادة الثورة ورئيسهم الضابط معمر القذافي.
* وحركة الضباط الوحدويين الأحرار.
* وتنظيم اللجان الثورية.
* وأجهزة الأمن والمخابرات بمسمّياتها المختلفة.
كما يضمّ هذا الكيان المركّب:
* ما يسمَّى بالمؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ومؤتمر الشعب العام وما يعرف بمختلف الفعاليات..
* ومجموعة البيروقراطيين والإداريين الفنيين من وزراء ومن دونهم الذين استعان النظام بهم.
* وأبناء القذافي وأقاربه وعدد من أبناء قبيلته.
* وأيضاً بعض أقارب من بقي من أعضاء مجلس قيادة الثورة وبعض أفراد عائلاتهم وقبائلهم والقبائل الأخرى.
وأحسب أنّه لا يوجد شكّ في أنّ (النظام الانقلابي) الذي أقامه انقلابيو سبتمبر -في عمومه- هو المسؤول عن كلّ المظالم والشرور والجرائم التي أتينا على ذكرها في الحلقات السابقة.
ولكن هل حصّة ودرجة مسؤولية كلّ فئة من هذه الفئات وكلّ فرد داخل كلّ فئة فيها هي واحدة ومتساوية؟!
وإذا كنّا نؤكّد على استهجاننا واستهجان كلّ ليبي بل كلّ إنسان ذي ضمير لأيّ عمل إجرامي سواء أكان صغيراً أم كبيراً بصرف النظر عن مرتكبه، إلا أنّ العدل والإنصاف يوجبان علينا التمييز بين مختلف عناصر هذه الفئات المختلفة من حيث درجة مسؤوليتهم، وحصّتهم ونصيبهم في هذه المسؤولية.. وذلك من منطلق منطقي وقانوني بسيط مفاده أنَّ مسؤولية (المتبوع) أكبر من مسؤولية (التابع) ومسؤولية (الرئيس) أكبر من مسؤولية (المرؤوس) رغم اشتراك الجميع في المسؤولية وخضوعهم للمساءلة.
*****
غداً نواصل كشف التاريخ الأسود لشيطان الإرهاب .. «القذافي»
كيف استفرد القذافي بالسلطة والمراحل التي مهد لها؟!
مسؤولية أزلام النظام الليبي ومشاركتهم في جرائم العقيد
مشاركة الوزراء في مشاريع القذافي رغم علمهم بفسادها
محاكمة القذافي وأعوانه حق مشروع للشعب الليبي
|