لقد جمعتني زيارة لمدير إحدى الجامعات الخليجية، وكان معنا بحكم البروتوكول عميد الكلية المعنية، وتجاذبنا الحديث في مجالات عديدة.. وكان من بينها تنظيم ندوة دولية تدعى لها شخصيات خليجية وعربية ودولية.. وكنا - بحكم ما تعارفنا عليه من العمل البيروقراطي في جامعاتنا - نحاول أن نقنع مدير تلك الجامعة بتبني فكرة هذه الندوة، والبدء في الإجراءات النظامية لأخذ الموافقات.. وكنت أتكلم وزملائي معي في هذا الاتجاه ظناً منا أن مثل هذا الكلام سيزيد من قناعة مدير الجامعة، ونكون بهذا قد قدمنا خدمة لعميد تلك الكلية وهو زميل وصديق.. ولكن المفاجأة كانت حين قال لنا مدير الجامعة: إن هذا.. هو المسؤول عن إقرار الندوة التي تتكلمون عنها.. وكان يشير إلى اتجاه عميد الكلية.. ولكن كنا نتوقع أنه يؤشر إلى مكتب آخر خلف هذا العميد.. فقلنا هل تقصد أن هناك مندوباً من وزارة التعليم العالي لديكم في المكتب المجاور هو الذي يقرر الموافقة على تنظيم الندوات؟! فضحك.. وقال: إنني أؤشر على صديقكم عميد الكلية.. فهو الذي يوافق على تنظيم هذه الندوة، وهو يحيطني علماً فقط بأنه سيقوم بتنظيم هذه الندوة في وقت محدد.. فصعقنا نحن الوفد المكون من زملاء في عدد من جامعاتنا السعودية. ونحن نعلم أن مسيرة إقرار ندوة علمية في إحدى جامعاتنا تحتاج إلى شهور عديدة.. وبالنسبة لزملائنا في الجامعات يدركون معاناة طلب الموافقة على تنظيم مثل هذه الندوة.. ولكن ربما لآخرين، يجب أن نثقفهم في بيروقراطية الجامعة السعودية.. فالبداية هي فكرة، تحتاج إلى أن تعرض على مجلس القسم.. ويقوم القسم بتحويلها إلى لجنة من الزملاء الذي يأخذون بعض الوقت في إقرارها، ثم تعرض على مجلس القسم، وبعد موافقته تتحول إلى مجلس الكلية.. وتندرج ضمن أجندة طويلة حتى يتم إقرارها، ثم تنتقل إلى مدير الجامعة، ولكن بعض الجامعات تحيل الموضوع إلى لجنة خاصة بالمؤتمرات والندوات.. وهذه تأخذ وقتاً في الإجازة والتعديل والتغيير إلى أن يوافق عليها.. وربما يكون هناك مجلس علمي أو مجلس جامعة لإقرار هذه الندوة، ثم تنتقل إلى وزارة التعليم العالي، ثم تنتقل إلى المقام السامي.. وتدور هذه المعاملة في كل أرجاء الدولة.. شرقاً وغرباً.. شمالاً وجنوباً.. حتى تتم الموافقة عليها وتعود المعاملة مرة أخرى عبر كل القنوات الإدارية التي مرت بها.. وفي رأينا أن هذه المسألة تحتاج إلى نقاش مستفيض ومداولات صريحة وشفافة:
1- استقطعت هذه المعاملة وقتاً ثميناً جداً من كثير من الشخصيات الرسمية التي مرت بها، وتنظيم ندوة عن (تفخيخ الراء في اللغة العربية)، أو (تحقيق الوثائق في المكتبة العثمانية)، أو (تاريخ الإعلام المطبوع في منطقة القصيم)، أو (استخدامات الكمبيوتر لدى الأطفال)، أو (العقارات الجديدة لعلاج السكري)، أو (آثار قرية الفاو)، أو (تأثير السواك على فم الصائم).. إلخ كل هذه الندوات وغيرها وأقل منها شأناً وأكبر منها شأنا يجب أن تمر عبر البوابات الحديدية لمختلف المجالس والإدارات والأجهزة وغيرها.. وكل هذه الأمور هي استنزاف مباشر لأعمال ولجان وإدارات وأوقات موظفين.. إلخ.
2- استطيع أن أقول: إن 99.9999% من هذه الحالات تأتي الموافقة عليها.. أي أن المقام السامي يقدر هذه النشاطات ويدعمها, ويدرك أن أفكار هذه الندوات والمؤتمرات قد خرجت من أساتذة مختصين، وأقسام علمية ذات مكانة ريادية، وأن مصلحة الوطن والمجتمع وتطوير الخبرة والمعرفة هي هاجس هذه الأقسام أو الجمعيات العلمية في بلادنا.. ولهذا فإن الموافقة تأتي على شكل إجراء روتيني.
3- في ظني أن من ابتدع هذا الإجراء برفع إقرارات الندوات والمؤتمرات إلى المقام السامي، هم أحد طرفين: إمَّا من بيروقراطيين داخل الجامعات يعشقون الروتين والتعقيد.. وإما من موظفين عاديين أو مستشارين في إدارات تقر أو إدارات تمر من خلالها معاملات الإقرار.. وهدفهم ربما أن تكون لإداراتهم أهمية خاصة، وربما بعض هؤلاء لديه من الوقت الكثير لشغل نفسه بهذا الروتين الطويل.
4- للأسف أن هذه الإجراءات لها سنوات وربما عقود من التطبيق، ولم يسع مديرو الجامعات الحاليون أو الذين سبقوهم إلى تبني جهود اختصار هذا الإجراء الروتيني.. لسبب بسيط جداً، وهو أن فيه حماية لهم.. فلو سار وحدث أن تكلم شخص ما، (نكرة ما) في هذه الندوة أو المؤتمر وسألت جهة ما، فسيكون رده أن لدينا موافقة من جهة كذا.. أو كذا.. إذن ما تقوم به إدارات الجامعات هي عمليات وقائية ليس إلا.. فليس مهماً لديه أن تجتهد وتحاول أن تعيد تنظيم الإجراءات وتذهب وتفاوض وتشرح وتقنع جهات الاختصاص بعدم فائدة هذا الإجراء، وتعطيله لمصالح الجامعات وعملها الأساسي وهو البحث والتدريس وتنظيم الندوات والمؤتمرات التي تصب في تحقيق مثل هذه الأهداف.
5- بمثل هذا الإجراء نحن نحول الوظيفة الرسمية لمديري الجامعات إلى وظيفة (نقل الأوراق والمعاملات) من داخل الجامعة إلى خارجها.. أي وظيفة (مراسل) رسمي، وناقل أمين.. ولم تصل هذه الوظيفة إلى مستوى قيادة العمل الجامعي إلى آفاق جديدة ومنهجيات عمل مبتدعة.. ولكن تتلخص هذه المهمة في تكريس الوضع البيروقراطي القائم وتعميق الفجوة بين الجامعة والمجتمع، وبين الجامعة والمؤسسات الرسمية.. وإضافة أعباء جديدة على أعباء الجهات العليا في الدولة.
6- في ظني وظن كل الزملاء في الجامعات، أن الدور الحقيقي لمدير الجامعة لم تتحدد هويته المطلوبة والمفترضة، وينبغي أن تكون مثلما هي الحالة في الجامعات الخليجية والعربية والعالمية, وهو دور ريادي وقيادي.. وفي نظري أن غياب أي جامعة سعودية في أفضل خمسمائة جامعة في العالم هو نتيجة البيروقراطية التي تستشري في كل ركن وزاوية في جامعاتنا.. وكنت أتمنى أن تكون إحدى جامعاتنا ضمن قائمة أفضل مائة جامعة في العالم.. ولكن..
7- المشكلة البيروقراطية التي يعاني منها مديرو جامعاتنا انسحبت بشكل أكبر على عمداء الكليات، ورؤساء الأقسام, ومديري الإدارات، ورؤساء اللجان.. وغيرهم.. وهذا يعقد المسألة ويعيق أداء العمل الجامعي.. فهل تصدقون أن استضافة شخص ليدشن كتابه في مجال تخصص أحد الأقسام بإحدى الجامعات السعودية، وهو شخصية عامة وأستاذ جامعي سابق، لم يتم إلا باتخاذ إجراء إداري رسمي، مكاتبات بين رئيس القسم، وعميد الكلية، وبين عميد الكلية ومدير الجامعة، وربما يخرج من صلاحيات مدير الجامعة.. خشية المسؤولية.
8- إن مثل هذه الإجراءات سواء للموافقة على الندوات أو حضور المؤتمرات أو غيرها من الأعمال التي تصب في العمل الأساسي للجامعات هي تشجيع ودعم لمركزية القرار الإداري، والمركزية هنا ليست على مستوى الجامعة، بل على مستوى الدولة.. وفي رأيي أن هذه المركزية هي استنزاف هائل للإدارات الاستشارية والوظيفية للمقام السامي.. وهو إنهاك يومي وعلى مدار أربع وعشرين ساعة لإنجاز هذا الكم الهائل من المعاملات التي تأتي من مختلف جامعاتنا، وأجهزتنا الحكومية والخاصة غيرها، وكان من الأولى أن تصرف هذه الجهود على أنواع أخرى من المعاملات التي تحتاج إلى تقصٍ ودراسة غير هذه الأعمال الروتينية.. وعلى الرغم من هذا الكم الكبير من الأوراق التي تنتقل من الجامعات إلى وزارة التعليم العالمي، ومن الوزارة إلى المقام السامي، إلا أن الحقيقة التي يجب أن نشير إليها هنا - وسبق أن أشرت إليها في مقال سابق - هي أن هذا الإجراء من الوزارة والرفع به إلى المقام السامي، وعودته قد لا يأخذ إلا مدة أيام فقط.. وعلى الرغم من ذلك، إلا أننا نرى عدم فائدة على المستوى العملي.. وله انعكاساته من التعقيد البيروقراطي داخل الجامعات. وختاماً.. نسأل.. أين قرار لجنة الإصلاح الوزاري قبل حوالي العامين والمتوج بأمر سامٍ في منح الجامعات الاستقلالية الإدارية.. فلم نر إجراءً تم حتى الآن في هذا الخصوص.. وربما بتطبيق هذا التوجيه السامي نكون قد حللنا مثل هذه المشكلة وغيرها من المشكلات البيروقراطية التي نعاني منها.. ونسيت في قصة مدير الجامعة وعميد الكلية أن أشير إلى أن من اختصاصات عميد الكلية - وليس مدير الجامعة - اعتماد ميزانية تلك الندوة.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|