يهاجم البعض الأدلجة كظاهرة سلبية وكأحد أهم أسباب العنف وعدم الاستقرار على الساحة العربية عندما يحللون الأحداث والصراعات.
والغرض من إطلاق تلك العبارة إدانة المواقف الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي تنطلق من مبادئ أو أصول ثابتة أو متشددة.. والإنسان عادة ينطلق في صراعاته أو آرائه وتوجهاته من أفكار دينية أو مفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية أو فلسفية عند التعبير عن الرأي، أو إبداء وجهات النظر.. لكن الاختلاف يأتي عندما يتم تصنيف الأفكار وعن أيهم يدخل ضمن دائرة الأيدولوجيا أو أي الأفكار يعتبر نقياً وخالياً من داء الأدلجة، ولكن دائماً يتبادر سؤال: هل توجد مواقف إنسانية أو موقف ما ينطلق بدون خلفية مؤدلجة مؤججة للصراع؟ وهل الأدلجة أو الإيمان بأفكار لمواجهة تغيير أو لإحداث تغيير ما سذاجة فكرية أم فطرة إنسانية؟ وإذا كان الأمر كذلك ما هي إذن علامات (النضج) الفكري أو سمات المواقف غير الساذجة؟.. وهل هو الموقف الفكري المجرّد؟..
لذلك عند السؤال عن ماهية الأيدولوجية تثور دائماً أسئلة رئيسة منها: ما هو الدور الذي تلعبه الأفكار والنظريات في الحياة وصراعاتها؟ وما هي طبيعة الأنساق العقدية التي تتطور في إطارها هذه الأفكار لتشكل أطروحات متكاملة؟ وما هو دور التي تؤديه المصالح والطموحات الذاتية في إعادة تشكيلها وتقديمها في قوالب جديدة؟..
لا يوجد إجماع بين المفكرين السياسيين على درجة أهمية وتأثير الأفكار والأيدولوجيات، فالسياسة تبدو في بعض الأحيان محض صراع سافر على السلطة لا شأن له بالفكر والفلسفة، لكن تظهر الأفكار المجردة كشعارات دعائية هدفها الوحيد كَسْب أصوات انتخابية أو الحصول على دعم شعبي في صراع سياسي بحت، وتصبح الأفكار والأيدولوجيات غطاء يستر خفايا الصراع الدائر في الحياة السياسية.. لكن هناك من يذهب إلى أن الذي يحكم العالم اجتهادات علماء الدين وتنظير الفلاسفة السياسيين وأطروحات المفكرين الاقتصاديين التي يستند إليها رجال السياسة والسلطة في ممارساتهم..
لم يكتسب مفهوم الأيدولوجيا طبيعة موضوعية ومحايدة في تحليل الأفكار إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مع هذه المحاولة لضبطه وإكسابه طبيعة تحليلية رصينة، فقد استمر الخلاف حول الأهمية الاجتماعية والدور السياسي للأيدولوجيا، لكن تُعَدُّ أكثر التعريفات شيوعاً للأيدولوجيا أنها.. نسق عقيدي سياسي أو مجموعة من الأفكار السياسية ذات توجه عملي تطبيقي. أو أفكار الطبقة الحاكمة، أو رؤية فئة اجتماعية أو طبقة للعالم، أو أفكار سياسية تعبِّر عن مصالح اجتماعية وطبقية، أو أفكار دعائية توظف لتزييف الوعي بين المستغلين والمضطهدين، وأفكار تضع الفرد في سياقه الاجتماعي وتدعم الشعور بالانتماء والهوية الجمعية، أو مجموعة من الأفكار يدعمها النظام السياسي بشكل رسمي ويستمد منها شرعيته، أم مذهب سياسي شامل يدعي احتكار الحقيقة. أو منظومة نظرية مجردة ومتماسكة من الأفكار السياسية..يمكن اختزال الأيدولوجية وتعريفاتها الواسعة على أنها مجموعة من الأفكار المتجانسة بدرجة أو أخرى والتي تمثل الأساس لحركة سياسية منظمة، سواء أكان هدفها المحافظة على نظام القوى السائد، أو تعديله، أو الإطاحة به.
الرأسمالية الحديثة نبعت من الأفكار الاقتصادية الأولى لآدم سميث وديفيد ريكادرو، وآلة الشيوعية السوفييتية هي ثمرة لأفكار كارل ماركس ولينين، وتاريخ النازية في ألمانيا لا يمكن فهمه إلا في ضوء الأفكار التي نقرؤها في كتاب (كفاحي) لأدولف هتلر الذي كتبه قبل توليه السلطة، وتاريخ الحراك الإسلامي السياسي الحديث لا يمكن تفكيكه وفهم أسبابه بدون دراسة موضوعية للأحداث في التاريخ العربي الحديث..
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتهام أولئك الذين يحاربون من اجل مقاومة التغيير سواء كان إيجابياً او سلبياً، أو من أجل إحداثه في شتى بقاع الأرض من خلال استغلال أفكار مجرّدة بالسذج، فالأمر يبدو أكثر تعقيداً من استخدام مصطلحات لا تمت بصلة لما يحدث على أرض الواقع.. كان من الأجدر تناول تطور الأحداث وازدياد وتيرة الصراعات بشفافية وموضوعية تكشف أسباب تغيير أو تطور مقاصد وتفسيرات الأفكار المجردة بدلاً من الهروب من المواجهة و الاكتفاء بإدانة اعتناق اجتهاد ديني جديد أو التضييق على مصطلحات إنسانية وافدة..
من خلال نظرة مبسطة وخالية من تعقيد وغموض مصطلح الأيدولوجيا.. الأمر لا يغدو أكثر من صراع بين محافظين وراديكاليين .. نجح الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، في وصفه عندما تحدث بمفاهيم مبسطة لمدار العلاقة بين السلطة المؤدلجة بقيم المحافظة وبين موقفه من الراديكاليين المؤدلجين بقيم التغيير والثورة، فقال يصف منهجه في الصراع في تلك الفترة: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. كان الخليفة الأموي الشهير يحدد أطر المحافظة بقيمها المعاصرة، بينما كان الخوارج وغيرهم يمثلون القيم الراديكالية المتشددة في مطالبها السياسية على مر العصور.. كان موقف الخليفة الأموي أقل أدلجة عندما لمح باستعداده للتخفيف من محافظته في سبيل الاستقرار وان المحافظ يجب أن يتحلى بقدر أقل أيدولوجيةً من الراديكالي وأن يكون مستعد للالتزام بقيم المحافظة البراغماتية وعدم التفريط بالمكتسبات الوطنية..
من قيم المحافظين احترام السلطة والاهتمام بالدور الحيوي للقيادة والحس الوطني. وهي قيم مرتبطة بمحبة ما هو مألوف، بما في ذلك الأسرة والموطن، فحب الوطن يشبه حب الأسرة ويتوجب أن يكون لدينا شعور مماثل بالمسؤولية تجاههما معاً والعمل على المحافظة عليهما..
كما تتضمن قيم المحافظين الرغبة في الاستقرار والميل إلى مقاومة التغيير لتعذر التنبؤ بما ينطوي عليه من آثار، لكن حين يظهر أن لا مفر من التغيير، أو عندما يكون التغيير قد وقع بالفعل، فإن المحافظين أو الراغبين في الاستقرار لا بد أن يعلموا من أجل تلطيفه والتكيف مع المتغيرات بأقل قدر ممكن من الاضطراب، لكن تكمن الصعوبة في القدرة على رصد مظاهر التغيير القادم ثم العمل من أجل التخفيف من آثاره السلبية، لكن ليس فقط من خلال الأيدولوجيا أو صراع الأفكار المجردة إنما من خلال مقاومته بأساليب واقعية وعملية..
الأدلجة أو الصراع من خلال أفكار محددة سمة إنسانية منذ القدم، ولا يمكن وصفها بالبدائية أو السذاجة أو وضعها في كفة على حساب الأخرى، إنما العاقل من يستطيع الحديث مباشرة بأقل قدر ممكن من أغلالها التي تقيد أي حركة إيجابية في اتجاه الغد..
|