إن السياسة الحكيمة التي تنتهجها المملكة العربية السعودية في مسعاها المتواصل لتأمين المياه الصالحة للشرب والزراعة والصناعة والتصنيع الغذائي والدوائي كحاجة استراتيجية ذات أهمية قصوى لا يمكن تجاهلها، وذلك إلى جانب الاهتمام بالشؤون الكثيرة الأخرى التي تهم المواطن في حياته اليومية إنما ينبع من شعور عميق بعظم المسؤولية والحاجة الدائمة للماء التي لا يمكن الاستغناء عنه، فهو العنصر الأول والأهم في استمرار الحياة ليس للإنسان فقط ولكن لكل شيء حي.. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَي} صدق الله العظيم..
يقول السيد حسين أميري، وهو عالم جغرافي وخبير مياه في مدرسة كلورادو في مانيس: إن المخاطر الأمنية في (منطقتنا العربية) كبيرة، ولكن المخاطر المائية أكبر بلا شك.
وتقول السيدة ساندرا بوستل، وهي مديرة مشروع السياسة المائية العالمية في (أميرست ماس) : إن قضية المياه تمس وتراً حساساً في سياسيات منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وذلك لأن الشرق الأوسط يقع تحت أكبر ضغط مائي في العالم.
ولا بد أن ندرك أن أطماع بعض الدول العنصرية والكبرى الصناعية التي تملك قوة اقتصادية وعسكرية، تضع في أبعاد غزوها للبلدان الضعيفة استراتيجية بعيدة المدى لا بد تعتمد بشكل أساس على تأمين مصادر مائية إضافية كمخزونات استراتيجية، وكسلاح ضغط له التأثير الفعال في مسألة سلب الأمم خيراتها، ولنا في تاريخنا الحديث شواهد قد يكون أقربها إلينا ما يمارسه الكيان الصهيوني في مسألة المياه، فقد كان الهدف الأول من احتلال جنوب لبنان وهضبة الجولان السورية والضفة الغربية لنهر الأردن هو السيطرة على مصادر الماء الغنية نسبيا في تلك الدول، ولو لم يكن الماء هو المطمع الأكبر من احتلال هضبة الجولان وبحيرة طبرية الواقعة جنوب سوريا لما فشلت مفاوضات السلام بين سوريا والكيان الصهيوني؟ وتقول الدراسات بأن ثلثي ما تستهلكه إسرائيل من المياه مصدره بحيرة طبرية..!
إن معدل استهلاك الفرد الصهيوني الذي يعيش محتلا لفلسطين من المياه يصل إلى أربعة أضعاف ما يستهلكه الفلسطيني صاحب الحق والأرض والفرد العربي بشكل عام، وإن المستوطنين من اليهود في الضفة الغربية الذين لا يزيد عددهم عن 180 ألف صهيوني يستهلكون ويضخون من المياه الجوفية نصف الكمية التي يسمح بها لما يزيد عن 2 مليون فلسطيني والذين يفقدون جزءاً كبيراً من هذه المياه بسبب شبكة النقل والخدمات السيئة.
ولولا قوة المقاومة في جنوب لبنان لما تراجعت إسرائيل مكرهة أمام ضربات المقاومة مع احتفاظها أيضاً أو بشكل أصدق سرقتها لمياه نهر الليطاني؟
وليست مشكلة تحويل مجرى نهر الأردن ببعيدة عن ذاكرتنا..!
كل هذه المؤشرات أسوقها للدلالة على الأهمية القصوى للماء، وان البعد الاستراتيجي للدول الغازية يكمن - دون أن يعلن - في السيطرة على مصادر المياه الشحيحة أصلا في منطقتنا.
ومن المعلوم أن المملكة العربية السعودية وما يجاورها من دول عربية تقع في منطقة جافة يسودها مناخ شديد الجفاف، وارتفاع شديد في درجات الحرارة، وهي منطقة شبه صحراوية، وحتى في المناطق الساحلية والمرتفعات والجبال فإنها تتسم بقلة المطار بما لا يتجاوز 70 إلى 150 مم سنوياً إلى جانب ارتفاع نسبة التبخر وسط درجات حرارة تتراوح بين 5 إلى 46 درجة مئوية، ونسبة الرطوبة تتراوح بين 60 إلى 90% وهذا أدى بطبيعة الحال إلى تفتت التربة وفقدان وجود مياه سطحية يمكن الاعتماد عليها.
هي إذن منطقة ذات طقس قاسٍ وشحيح الأمطار وندرة في مصادر المياه، ومع التكاثر الطبيعي للسكان، والتطور الحضاري الصناعي والزراعي الذي يستدعي اعتماداً أكثر على المياه، كان على الدولة أن تلتفت التفاتة جادة إلى تأمين الحاجة آنياً ومستقبلياً.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن هدر المياه المتصاعد سواء بفعل عدم الاستخدام الحكيم من قبل المستهلكين، أو في سوء التمديدات وشبكات التوزيع يتسبب يومياً بخسائر كبيرة مادية ومعنوية فقد دلت الإحصائيات على أن ما يعادل 40 إلى 60% من الماء يذهب هدراً.
فكيف يمكن والحال هذه أن يتحقق الوفر المائي لتغطية حاجة المملكة الآن وفي المستقبل وسط كل تلك الظروف الصعبة؟
لقد قامت الدولة بجهد هائل في هذا المجال، وعلى سبيل الاستشهاد نقول بأن المملكة بسياستها الحكيمة والواعية كانت الأكثر حرصاً على تأمين مصادر إضافية للمياه وعلى المدى البعيد، وغالباً ما نلمس الاهتمام البالغ من قبل ولاة أمورنا الأوفياء بمتابعة كل ما يتعلق بهذه المسألة وعلى أعلى المستويات، على أرض علوم مدروسة ومحسوبة تفي حاجات المملكة، آخذين في الاعتبار المشاريع التي تتطور وتتسع بشكل يومي في كافة أرجاء المملكة، كالمشروع الحيوي بجلب المياه من الربع الخالي لمنطقة نجران الذي بدأ العمل فيه مؤخراً بتكلفة تقدر بمائتي مليون ريال، ومن المعروف أن منطقة نجران كانت عبارة عن واحة خضراء غنية بالمياه، وهي واحدة من المناطق ذات الإنتاج الزراعي الوفير، وكان حوالي 60% من أهلها يعملون بالزراعة ويعتمدون اعتماداً كلياً في ري مزروعاتهم على مصادر المياه التي كانت تنعم بها نجران، لكن بتوالي السنين ونتيجة للتوسع الزراعي والزيادة الكبيرة في عدد السكان والقطاعات الأخرى التي تحتاج إلى استهلاك كميات إضافية من المياه، وبسبب الهدر أيضاً، فقد أدى ذلك كله إلى شبه جفاف وفقدان مصادر المياه.
لقد بلغ عدد محطات تحلية المياه في المملكة العربية السعودية 28 محطة موزعة على السواحل الشرقية والغربية، بلغت كلفتها ما يتجاوز 17.3 مليار دولار، وهي محطات قادرة على إنتاج أكثر من 2.5 مليون متر مكعب من المياه المحلاة يوميا، ومن المعروف أن أكبر وأهم محطة تحلية للمياه في العالم وهي محطة الجبيل التي تقع على الساحل الشرقي وتبلغ طاقتها الإنتاجية من المياه المحلاة 800 ألف متر مكعب يومياً.. كما قامت المملكة بإنشاء 197 سدا في مختلف المناطق بطاقة تخزينية تبلغ 810 ملايين متر مكعب سنويا، بتكلفة 7.2 ملايين دولار، وقد تتضاعف هذه الكمية في حالة السيول المتكررة.
إن مسألة العمل الجاد من كافة فئات الشعب وبحس عالٍ بالمسؤولية المتوجبة علينا جميعاً أصبحت ضرورة وطنية لتأمين حياة كريمة أمينة لنا وللأجيال القادمة، ولتحقيق منعة الوطن وذلك بأن نكون جميعاً نمثل رديفا أمينا وواعياً للجهود الهائلة التي تقوم بها المملكة برجالاتها المخلصين، ومن ناحية أخرى علينا أن نلتزم باستعمال المياه بحكمة ودون هدر كي نحافظ على ثروتنا المائية.
لقد تابعنا الاهتمام الكبير الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله لمسألة المياه، ورعايته وتدشينه للعديد من المشاريع الكبيرة، كما تابعنا نشاط صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني الذي رعى العديد من المؤتمرات المتخصصة في دراسة مسألة المياه داخل وخارج المملكة بما يتعلق بمناقشات استراتيجية وسياسات المياه المتكاملة؛ المياه السطحية والجوفية والمياه المحلاة ومياه الصرف الصحي المنزلية، والأدوات والوسائل المثالية للمحافظة على الثروة المائية.
وكذلك اهتمام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام ومتابعته الدؤوبة لهذه المسألة الحيوية الهامة، وفي هذا المنحى تابعنا مؤخرا حفل جائزة حملت اسم سموه بما يتعلق بالمياه وهي جائزة دولية تهتم بدراسة خمسة فروع يتم منحها للبحوث التطبيقية.
وقد لاقت الجائزة اهتماماً وتقديراً محلياً وإقليمياً ودولياً، وحققت حضوراً عالمياً أبدى الكثير من علماء العالم إعجابهم بمبادرة الأمير سلطان بن عبدالعزيز بتخصيص جائزة عالمية للمياه بما تحمله من القيم والأهداف الإنسانية السامية لخدمة البشرية جمعاء، حيث اختيرت بعناية فائقة لبحث موضوعات متخصصة تعبر عن هاجس الدول من مشكلات واقعية، ظلت تؤرق الكثيرين، تحتاج إلى حلول.
والجائزة بفروعها الخمسة، تغطي الجوانب المختلفة لأشكال المياه وتوفيرها والمحافظة عليها، وإدارة مواردها بفعالية وكفاءة عالية وحمايتها من التلوث، والبحث عن حلول فعالة لمعالجة ندرتها، وهي الجائزة الأكبر في حقلها من حيث قيمتها المعنوية والمادية وهي مدعومة بشكل كامل من الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران.
إن اهتمام ولاة الأمور بمسألة المياه يفرض علينا أن نقف وقفة احترام وتقدير واعتزاز، نشيد بأعمالهم العظيمة لتحقيق الأمن المائي الأهم في الحياة على الإطلاق، وتفرض علينا أن نكون على مستوى الشعور بالمسؤولية ومساعدة الدولة بتنفيذ مشاريعها الضخمة وذلك بالحرص في استعمال المياه للتخفيف من الهدر غير المشروع الذي سيعود علينا وعلى أجيالنا بالخسارة المعنوية والمادية.
نسأل الله العلي القدير أن يسدد خطانا ويهدينا هداية تنفعنا في حياتنا، وتحفظ نعمه، وتهب الصحة والسعادة إلى كل من يعمل بإخلاص للمحافظة على نعمة الله الكبرى، ونسأله تعالى أن يبارك لنا في أعمال ولاة الأمور منا وان يمنحهم القوة ويمدهم بجنود من عنده ليحققوا لنا أمننا وأماننا، إنه سميع وعلى كل شيء قدير.
الرياض - فاكس 014803452
* ملاحظة: المراجع الإحصائية منقولة عن المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية |