Friday 24th December,200411775العددالجمعة 12 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق اسلامية"

الصبر وثمراته الصبر وثمراته
عبدالعزيز بن محمد الحمدان ( * )

إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق، وطال ليلها، وعظمت المصائب، واشتد خطبها فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ولا بد أن يبني عليها أعماله، وآماله، وإلا كان ضعيفا هازلا.
وقد أكد الله جل ذكره أن ابتلاء الناس لا محيص عنه حتى يأخذوا استعدادهم للنوازل المتوقعة، فلا تذهلهم المفاجآت، ولا يضعفوا أمامها والله تعالى يقول:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} والصبر يعتمد على حقيقتين هامتين:
أما الأولى: فتتعلق بالحياة الدنيا فإن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل جعلها دار تمحيص وامتحان قال جل ذكره: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} وليس أمام المسلم إلا أن يستقبل البلاء الوافد بالصبر والتسليم.
وأما الحقيقة الأخرى: فهي قوة الإيمان في النفس فالإيمان صلة بين الإنسان وبين ربه، فبالإيمان تتوطن النفس على احتمال المكاره دون ضجر وتواجه البلاء مهما ثقل بقلب لم تتعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كربة، وعلى هاتين الحقيقتين يقوم الصبر ومن أجلها يطالب الدين به، والصبر سبب عظيم للنجاح في كل الأمور والشؤون وهو سبب السعادة والفلاح، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما أعطى أحد عطاء خيرا أوسع من الصبر) أخرجه البخاري.
الصبر هو حبس النفس عن المكروه وتوطينها على احتمال الشدة والمصيبة والأذى والمكروه دون أن تندفع في التأثر والانفعال، الصبر هو الثبات على العمل لاسيما فيما يجب شرعا أو الانتهاء عنه إن كان معصية أو شراً.
وهو ثلاثة أقسام:
صبر على طاعة الله حتى يؤديها، وصبر عن معصية الله فلا يرتكبها، وصبر على بلاء الله فلا يتسخط منه، وكلها تؤدي إلى الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة.
ولا يتصف بالصبر إلا العاقل الحازم الذي يدرك مقادير الأمور ونتائجها، وما تؤدي إليه، والصبر على طاعة الله له شأن عظيم وحال خطير به بلغت الرسل رسالات ربهم تحت الأذى والمضايقة، فمنهم من هاجر ومنهم من قتل {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
فالأنبياء عليهم السلام أوذوا كثيرا واضطهدوا فصبروا ونشروا دين الله والله تعالى يأمر نبيه محمدا أن يصبر كما صبر أولوا العزم قال سبحانه:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} فمضى في دعوته لا يبالي بما يلحقه من أذى، وكلما اشتد الأذى عليه أمره الله بالصبر
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} حتى بلغ دعوته وأتم رسالته {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}.
وبالصبر على طاعة الله انتصر المسلمون على أعدائهم، وتغلبوا عليهم فإن الله أمرهم بالصبر والمصابرة عند اشتداد الحرب وحمي وطيسها فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وطلب منهم سبحانه الاستعانة على قضاء المصالح ومقارعة الخطوب بالصبر والصلاة فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
والصبر عن معصية الله جليل المقام عظيم الأثر، جزيل الثواب فإنه يمنع صاحبه من ارتكاب الذنوب والآثام، ومن مخافة الملك العلام مهما توافرت الأسباب الداعية، وتكاثرت عليه المرغبات والمشوقات، فيتذكر الصابر عاقبتها السيئة ونتيجتها الوخيمة، وعظيم السؤال بين يدي الله ويتذكر فضيحتها الكبرى على رؤوس الأشهاد.
ويتذكر أن لذتها سريعة التقضي فإذا صبر عنها وعن الوقوع في شراكها حفظ نفسه، ونقى صحيفته من التلوث بقبيحة أو التدمس بنقيصة والصبر عن المعصية هو عنصر المقاومة للمغريات التي بثت في طريق الناس وزينت لهم اقتراف المآثم المحظورة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) أخرجه مسلم.
والإقبال على المكاره والإدبار عن الشهوات لا يتأتى إلا لصبور، والصبر هنا أثر اليقين الحازم والاتجاه الحاسم إلى ما يرضي الله، وهو روح العفاف الذي يحمي المؤمن من أوضار الدنايا ومكر السيئات.
وأما الصبر على بلاء الله فنعم الصابر به فهو يدل على قوة الإيمان بقضاء الله والاستسلام لأمر الله والرضا بما قدر وقضى وهو يدعو إلى الرضا بالواقع الذي لا محيد عنه، فإنه مهما يكن من صبر الإنسان أو جزعه ورضاه، فإنه كائن لا محالة فإن صبر وأراح نفسه بالاستسلام لقضاء الله، ووطن نفسه على احتمال المصائب حينئذ تكون السكينة والاطمئنان، فلا يتأثر بهم شديد، ولا حزن مرير، وليس الصبر أن يكون الإنسان أمام حوادث الزمان صلدا لا تتحرك عاطفته ولا تجود عيناه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة الحسنة بكى ودمعت عيناه لما أخذ بين يديه ابنه الوحيد إبراهيم وحشرجة الموت في صدره تضيق عليه أنفاسه الأخيرة وهول الموت وسكراته تهز بدنه فقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - قال:
دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال له عبدالرحمن بن عوف:
وأنت يا رسول الله؟ فقال يا ابن عوف (إنها رحمة) ثم اتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلى ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
والصبر الذي أمر به المسلم في المصيبة يكون عند الصدمة الأولى، فمن ثبت في هذا الوقت وقال مستعينا بما أمره الله به: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} كان حقيقا بأن يجد من رحمة الله بردا وسلاما وخلفا عن المصيبة خيراً.
وعندما يصل المؤمن إلى هذا الحد من الإيمان العميق، ويعترف بأنه لا حول له ولا قوة في تصرفات الحياة والموت يلتجئ إلى سعة رحمة الله في الضيق الخانق، ويدعو ربه ألا يحرمه أجره على صبره عما أصابه، وعن إيمانه الثابت.
هذا الإيمان هو الذي يحبس النفس عن الطيش ويحميها من التسخط، فيطلب من الله أن يخلف له خيرا وأن يعوضه تعويضا أفضل مما ذهب منه، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال ابن عباس - رضى الله عنهما -:
أفضل الصبر عند الشدة.
فما أحوجنا عباد الله إلى الصبر في الصحة والغنى والسعادة والرضا، نسأل الله أن يجعلنا من الصابرين وأن يرزقنا الثبات واليقين إنه رؤوف رحيم.

( * ) الرياض


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved