* الجزيرة - خاص:
حذر معالي الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى أفراد المجتمع المسلم
من أن تضييق فرص الزواج علة خراب الديار وبه يُقتل العفاف، وتُوأد الفضيلة، وهو طريق الفساد، وهتك حجاب الستر والصيانة، وإنها سوءات وخبائث، لا تظهر إلا إذا افتعلت الحواجز، وتنوعت العوائق أمام الراغبين من البنات والبنين.
وشدد معاليه - في حديث له - على أنه جدير بذوي الرأي وأولياء أمور النشء، وحق على العلماء والمربين أن يولوا الأمر عنايتهم الجادة، سواء كانت المشكلة في المهور، أم في التعلم والترقي في سلم التعليم لنيل الشهادات العليا، مؤكداً أن الأمر فيما يبدو أكبر من ذلك وأوسع، لأن الناظر في أحوال المجتمعات، والمراقب لمتغيراتها في هذا العصر يحس بأشياء كثيرة وكبيرة، ويدرك أموراً مخفية ومهولة.
وقال معالي رئيس مجلس الشورى:
إن هذه المشكلات وهذه العوائق راجعة إلى خلل في التصور، وزعزعة في الفكر، ولا مبالغة إذا قيل إنها راجعة إلى ضعف في العقيدة، وخلل في تطبيق الشريعة، إنه التفكير المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مسوغ له. ثم ما يرتبط بهذا التخوف من الاعتماد على الشهادات، والتعلق بالوظائف، وتأمين فرص العمل، والاشتغال بالترقي في سلم التعليم، حتى يفوت الجميع قطار الزواج.
وأوضح معاليه - في السياق نفسه - أن مشاركة الوالدين في هذا التخوف، وقبول المجتمع له، والرضا عن هذا المسلك يؤكد هذا الخلل في التفكير، والانقلاب في الموازين، وتزعزع الثقة بالله، وضعف النظر المتعلق، قال الله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وقال سبحانه وتعالى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، منبهاً معاليه إلى أن المقاييس اضطربت، وطاشت الموازين، فأصبح المستقبل مادة، والتخطيط مادة، وشريكة الحياة وزوج المستقبل يقومان بالمادة وشبه المادة، وصارت الوظيفة، والشهادة، والمرتب، والوجاهة هي السوق الرائجة، يستوي في ذلك الشاب وأهله، والشابة وأهلها، إلا من رحم ربي.
وأكد معالي رئيس مجلس الشورى ان ما يتلقفه الناس والشباب من معلومات وأخلاقيات في المقالات والمسلسلات والصحف والإذاعات بطريق مباشر أو غير مباشر، له أثره البين في اختلال النظرة إلى الحياة، وقال: إن هذا الزخم من الثقافات، وهذا الطرح من التصورات قلب المفاهيم وأفسد الأمزجة، وجعل علاقات الناس وروابطها منافع ذاتية ومادية بحتة.
كما حذر معاليه - في السياق نفسه - أولياء أمور الأبناء والبنات إلى أن الناس إذا انحدروا في هذه المقاييس، وحكموها في علاقاتهم فمعناه أن الزمان قد فسد، وبطل دليل العقل، وتعطل أمر الشرع، ويعيرون بالفقر، ويكلفون ما يخرج عن الطوق، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، مبينا أنه قد انبنى على فساد التصور هذا ان ساءت الأفكار، وارتفعت المروءات في كثير من البيئات، فاشتط الناس في النفقات، وسرت بينهم في الحطام المنافسات، وتوجهوا نحو الدراهم والمراكز واللذائذ الحسية والجسدية، حتى ولو تعارضت مع العفة وحفظ الأعراض والتمسك بالخلق العالي. فزادت الحواجز ارتفاعاً، وامتدت السدود طولاً، فتطلع النساء إلى صنوف الملابس والمساكن، وألوان الفرش والمآكل. والمفتش عن الزواج من الفضلاء والصالحين يخشى أن يبتلى بأصهار وأنساب يتجاوزون في مطالبهم حدود المعروف فيكلفونه في حياته عسراً، ويزيدونه من أمره رهقا.
واستنكر معاليه من هذه المظاهر غير السوية من الناس، مؤكداً أن جميل الخلق أبقى من جمال الخلق، وغنى النفس مقدم على غنى المال، والعبرة كل العبرة في كريم الخصال، لا في زين الأجسام، وكثرة الأموال، سئل سعيد بن المسيب - رحمه الله - عن حديث: (خير النساء أيسرهن مهوراً) كيف تكون حسناء ورخيصة المهر؟ فقال سعيد: يا هذا، انظر كيف قلت؟ أهم يساومون في بهيمة لا تعقل؟ أتراها بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إنه إنسان مع إنسانة، وليس متاعاً يطلب مبتاعاً.
ولفت معالي الشيخ صالح بن حميد إلى أن الحمقاء وأهل الحمقاء يتمسكون بالجمال والمنصب، والمال والمركز، ليزايدوا في الثمن، متسائلاً:
أترى هؤلاء من الشرار أم من الخيار؟ إن المرأة للرجل نفس لنفس، وليست بضاعة لتاجر، إن ميزان الرجال ليس بمال، ولكن المهر يوزن بالمعاملة، وحسن التبعل، ورعاية المسؤولية، وإن صاحب الجمال والجاه قليل الدين والخلق من الرجال والنساء لا يغني عنه كثرة المال شيئاً، كما تساءل قائلاً: أرأيت لو كان مع الجبان مائة سيف، أكان ذلك يغني عن ضعفه وجبنه وخوره؟ فاستكثار المال وموازين المادة لا تستر خيبة الزوجين، وصفاقتهما وسوء خلقهما، ولو كان ذلك قناطير الذهب والفضة.
وأبرز معالي الشيخ صالح بن حميد أن نسب الطلاق والفراق، وأسباب الانفصال والشقاق متقدمة في هذا العصر أعلى منها في مجتمعات سلمت من رياح هذا التقدم البائس وغباره الخانق، وكلما دخلت أمة في هذا النوع من المعاصرة والمقاييس ارتفعت فيها نسب الطلاق والشقاق، مشيراً إلى أن الجدل حول الماديات، وتكاليف الزواج، ونفقات البيت، لا ينقطع، ومتطلبات الأسرة لا تنقضي والإسلام يكره أن تكون أمور النفقة، وحوائج الدنيا سبباً في تعريض الأسرة للمتاعب، وتهديد مستقبلها بالأخطار والمصاعب قال الله تعالى:
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.
وأبان معالي الشيخ صالح بن حميد أن مسالك العقل والحكمة تقتضي التوجه إلى حسن المعاشرة، وفقه إدارة المنزل، وما يوثق العلاقة بين الزوجين الجديدين واسمعوا إلى حكماء العرب وهم يخاطبون المرأة حين تزف إلى زوجها، وهي وصايا ينبغي أن يتحلى بها الرجال والنساء، كل حسب طبيعته وموقعه، مشيراً إلى أن الحكماء قالوا: كوني له أرضاً ذليلة يكن لك سماء ظليلة، وكوني مهاداً يكن لك عماداً، وإن كنت له أمة كان لك عبداً، ولا تكثري من الإلحاح فيقلاك، ولا تتباعدي عنه فينساك، فإن من بعد عن العين بعد عن القلب. احفظي أنفه وسمعه وبصره، فلا يشم إلا طيباً، ولا يسمع إلا حسناً، ولا يرى إلا زيناً، طول الصحبة بالقناعة، وجميل العشرة بحسن الطاعة. والمحافظة على المال حسن التقدير، ورعاية البنين حسن التدبير. ولا تفشي سراً، ولا تعصي أمراً، فإن من أفشى سراً لم يأمن غدراً، ومن عصى أمراً فقد أوغر صدراً. وليس من الأدب الفرح وقت الحزن، ولا الاكتئاب في حال السرور، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، ومن كان أشد احتراماً فإنه لا يلقى إلا محبة وإكراماً. واعلمي أن طول المرافقة تكون بكثرة الموافقة.
وخلص معالي رئيس مجلس الشورى إلى القول: لقد اقتضت حكمة ربنا جل وتبارك بقاء النسل البشري وحفظ النوع الإنساني، من أجل إعمار الكون، وإصلاح الأرض، وإقامة الشرع، والقيام بشؤون الحياة، فشرع بحكمته ما ينظم العلاقة بين الجنسين الذكر والأنثى من بني آدم سن الزواج بأحكامه آدابه، علاقة شرعية تدعو إليها الفطرة السليمة، وتنظمها أحكام الشرع القويم. بقيامه تنتظم الحياة، ويحفظ الحياء، وينعم البال، ويستقيم الحال. بالزواج المشروع يتحقق العفاف والحصان، الذي يضمن وفاق العلاقات وأمن البيوتات، النسل الصالح والجيل الخير لا ينبت ولا يتربى إلا في أحضان زوجية شرعية، بين أبوة كادحة، وأمومة حانية، لأن في الذرية الصالحة، والاستكثار منها في الأمة العز والفخار للدين والأسرة والمجتمع قال الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}، وقال جل وعلا: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}.
وأبان معاليه أن نعيم الحياة ومتعتها لا تكون إلا في بيت سعيد، وسعادة البيت لا يحققها إلا دين صحيح، وخلق سمح، وأدب رفيع ينضم إلى ذلك صفاء الود، والحفظ المتبادل بين القرينين في الحضور والغيبة بيت سعيد ظاهره الحشمة والمهابة، وباطنه العفاف والصيانة، والزواج السعيد تتجاوز السعادة فيه حدود الزوجين، لتمتد إلى أسرتيهما، فتكون حلقة واسعة من المودات والصلات بين الأقارب والأصهار، تتأكد بين الآل والأرحام وشائج القربى وعلائق المصاهرة.
وناشد معالي الشيخ صالح بن حميد أصحاب القدوة من الأمراء، والوجهاء، والعلماء، والأغنياء، وشيوخ القبائل، والعشائر أن ينشروا في الناس خلق القناعة بما يسر الله ورزق، ويرسموا ذلك بأفعالهم قبل اقوالهم، ولا يكون الاغتباط إلا بالدين، وحسن الخلق، والاهتمام بغرس المودة ونعمة البال، غير ناظرين إلى ما تعجز عنه أيدي الشباب، ولا مالاً تبلغه طاقاتهم، مؤكداً أنه يجب أن يكون التوجيه وصرف الهم والهمة إلى الفتى المهذب والفتاة المهذبة من أجل أن تستجلب راحة الضمير والإعانة على نوائب الحياة، والتهيئة لكسب شريف وسعي كريم، الصلاح، والتقى، والعفة، والأمانة، وكرم العنصر وطيب الأرومة، كل أولئك تورث حسن الطباع، وعزة النفس، واحترام البعل، والعرق دساس، والطبع غالب. وقد قال أكثم بن صيفي لبنيه:
يا بني لا يحملنكم جمال النساء عن صراحة النسب، وكرم العنصر فإن المناكح الكريمة مدرجة الشرف.
ونبّه معاليه إلى أن الجمال ونضارة الشباب تزيلهما السنون، وأن المال غاد ورائح، ولا يبقى إلا الدين والخلق الكريم. فاظفر بذات الدين تربت يداك، حامداً الله تعالى وشكره على إنعامه وأفضاله، وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الزلفى لديه يوم العرض الأكبر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر.
|