Friday 24th December,200411775العددالجمعة 12 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

العدل في الإسلام العدل في الإسلام
د. محمد بن سعد الشويعر

كان معاذ بن جبل رضي الله عنه إذا جلس يحدّث الناس يبدأ بقوله: الله حكم عدل. فالله سبحانه يحب العدل، وحرّم الظلم على نفسه، ويأمر عباده بالعدل في قولهم وحكمهم، ولو كان على ذوي القربى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء 58). وفي سورة النحل يقول سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (آية 90).
ولذا نرى تعاليم الإسلام قد تأسست على العدل، أحكاماً شرعية من الله سبحانه، سواء بين الأبوين وأولادهما، أو بين الراعي والرعية، فقد جاء رجل من الصحابة ليشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حديقة منحها لابنه، فسأله: ألك ولد غيره؟ قال: نعم. قال: هل أعطيتهم مثله؟ قال: لا. قال: (أتُشْهدني على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). وقال في موطن (لا وصية لوارث)، لأن الوصية فيها تفضيل بعض على بعض، والله سبحانه حدد انصبة الورثة في سورة النساء بالعدل، كما هي حكمة الله وعدله، في الأمور المالية التي هي مظنّة الايعاز والشّحّ، حدّدها سبحانه في كتابه الكريم بعدله ومواساته، حتى لا يترتب على ذلك شحناء أو قطيعة بين الأقارب والأرحام.
فالمواريث حددت بعدل الله في سورة النساء والمغانم وضّحها الله سبحانه في سورة الأنفال، وأهل الزكاة المستحقون لها جاء ذكرهم وهم ثمانية في سورة التوبة، وحذّر سبحانه من تعدي الغني على الفقير في آيات البيع والحفظ بالكتابة بكاتب بالعدل، وحرّم الربا وأحلّ البيع في سورة البقرة وغيرها من الكتاب العظيم، وأمر سبحانه بكتابة الوصايا عند الموت، وعند المداينة، بكاتب عدل وشاهدي عدل، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء.
وبين الراعي والرعية، أو الحاكم والمحكوم حدّد المسؤولية بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الكريم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع ومسؤول عن رعيته - وهم أهله وولده - والمرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها في بيت زوجها لتحفظ نفسها وماله وولده).
والقضاء في الإسلام يتمثل فيه العدل: بعلم القاضي وفراسته واجتهاده في الحكم على شرع الله، وقد شدّد الفقهاء في الشروط المطلوبة من القاضي لأنه حاكم شرعي، حتى انهم عقدوا له كتاباً مستقلاً سموّه: كتاب القضاء. وجاء في الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة: فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل، فهو في النار) أخرجه أبو داود عن بريدة.
كما جاء التحذير والوعيد الشديد من الكذب في الادعاء، ومن شهادة الزّور التي يترتب عليها أخذ حقّ ليس لمن أخذه، وجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من كبائر الذنوب، واليمين على ذلك باليمين الغموس، لأنها تغمس صاحبها في النار. والقاضي الذي حمّله الله الأمانة بأن يحكم بالعدل، وأن يتبين ويتروّى هو حاكم شرعي بحكمه يفصل في الدماء، وتُنْتَزَع الحقوق، لِتُؤْخَذَ بحكم الله، وحكم رسوله، ويجب عدم الشفاعة عنده، لأن الشفاعة قد تنجذب معها العاطفة، فيحصل الميلان في القضية، وقد شدّد في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حكاية المخزومية التي سرقت، فأهمّ عشيرتها أمرها، وأرادوا تفادي قطع يدها، ووصل أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما لنا بدّ من الشفاعة لديه، ووقع اختيارهم على أسامة بن زيد: حبّ رسول الله، فجاؤوا إليه وطلبوا منه أن يكلِّم رسول الله بشأنها..
فلما كلمه غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أسامة أتشفع في حدّ من حدود الله، وشدد عليه في ذلك، فقال أسامة: أتوب إلى الله وإلى رسوله.. ولما جاء العشيّ، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وكان مما قال: والله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.. فأمر بالمخزومية التي سرقت أن تقطع يدها فقطعت. لأن هذا هو حكم الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} (المائدة 38).
فالله سبحانه الذي شرع الأحكام وحدّ الحدود هو أرحم بعباده، وحكمه عدل، وتنفيذه عدل، وحماية للمجتمع من الفساد، وطغيان القادر على الآمن، وحماية للحقوق والأموال وعصمة للدماء، وتأميناً للمجتمع، فبالعدل قامت السموات والأرض، والحكم بالعدل خير من أن تمطر الأرض كذا خريفاً.
والمسلمون في تاريخهم لم يمنعهم الانصاف من أن يراعوا العدل إذا كان أحد المتخاصمين غير مسلم ولا يجوروا عليه أو يظلموه، فإذا كان الحقّ له انصفوه على خصمه المسلم وفق عدالة الإسلام، التي رفع الله بها الظلم عن اليهوديّ، كما قال سبحانه: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (النساء 107 - 108).
أورد السيوطي في سبب نزولها أقوالاً منها: ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي واتهمه بسرقتها، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طُرِحَتْ عليّ، وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويَطرحونَه على اليهودي، ويقولون: يا رسول الله ان هذا اليهودي خبيث، يكفر بالله وبما جئت به، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول.
فعاتبه الله في ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ} بما قلت لهذا اليهودي {إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} ثم أقبل على جيرانه فقال: (ها أنتم جادلتم عنهم) فبيّن الله سبحانه أن اليهودي بريء.. فرفع عنه الظلم رغم أنه لم يكن على دين الإسلام.. وهذا العدل وعدم الظلم أو الجور على الآخرين من مناقب دين الله الحق وهو الإسلام الذي لا يقبل سبحانه ديناً سواه.
وبمثل هذا دخل كثير من اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل في دين الإسلام عن رغبة وبطواعية، لأن عدالة هذا الدين التي هي حكم الله: تحقّ الحق وتدفع الظلم وتمنع أن يتعدّى أحد على أحد سواء بقدرته الكلامية، وذرابة لسانه، وكونه أقدر على الحجة من الآخر، أو بأي وسيلة ارتكبها لغمط الناس وأخذ ما لديهم مما هو ليس حقاً له، مما يموّه به على القاضي في حكمه، فإن كان برشوة فإن الله لعن فيها ثلاثة: الراشي والمرتشي والرائش، يعني الآخذ والمعطي والوسيط.
وعبدالله بن رواحة رضي الله عنه عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على توزيع الحقوق في خيبر قسمها بالعدل، فعرف اليهود -لما أخبرهم بأن هذه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عرفوا أنها عدل وقالوا: على هذا قامت السموات والأرض. وهذه هي عدالة الإسلام وحكم الله الذي ترتاح معها النفوس للعدل والقسط ومن أحسن من الله حكماً.
تأمين الخائف
ذكر علي الهذلي المتوفى في آخر القرن الثامن الهجري في كتابه مقالات الأدباء أن الخلافة لما أفضت إلى بني العباس اختفى رجال عنهم من بني أميّة، فكان ممن اختفى ابراهيم بن سليمان بن عبدالملك، حتى أخذ له داود بن علي أماناً من أبي العباس. فقال له أبو العباس يوماً: حدّثني عما مر بك في اختفائك. فقال: كنت يا أمير المؤمنين مختفياً بالحيرة في منزل مفض إلى الصحراء، فبينما أنا ذات يوم على سطح البيت نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكراً، حتى دخلت الكوفة، ولا أعرف بها أحداً أختفي عنده، فدخلت متخوّفاً، فإذا أنا بباب كبير ورحبة واسعة، فدخلت الرحبة فجلست فيها، فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة، ومعه جماعة من أصحابه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟. فقلت: رجل مخيف، يخاف على دمه، واستجار بمنزلك، فأدخلني منزله، ثم صيّرني في حجرة تلي منزله، فمكثت عنده حولاً في كل ما أحبّ من مطعم ومشرب وملبس لا يسألني عن شيء من حالي. ويركب كل يوم ركبة، فقلت له يوماً: أراك تركب كل يوم، ففيم ذلك؟
قال: إن ابراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا - يعني حبسه حتى مات - وقد بلغني أنه مختفٍ، فأنا أطلبه لأدرك ثأري؟ فكثر تعجّبي من إدبارنا، إذْ ساقني القدر إلى الاختفاء بمنزل من يطلب دمي، فكرهت الحياة.
فسألته عن اسمه واسم أبيه، فخبّرني بهما، فعلمت أني قد قتلت أباه، فقلت: يا هذا، قد وجب حقك علي، ومن حقّك أن أُقِرّب لك الخطوة؟ فقال: وما ذاك؟ قلت: أنا ابراهيم بن سليمان (قاتل أبيك) فخذ بثأرك، فقال: أحسب أنك رجل قد أمضّه الاختفاء، فأحبّ الموت، قلت: بلى إن الحق ما قلت لك. قتلت أباك في يوم كذا، بسبب كذا، فلما علم أني صادق تربد وجهه، واحمرت عيناه، وأطرق ملياً ثم قال: أما أنت فستلقى أبي فيأخذ بحقِّه منك، وأمّا أنا فغير مخفر بذمتي، فاخرج عني فلست آمن نفسي عليك، وأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها منه، وخرجت من عنده فكان أكرم رجل رأيت (ص242 - 243).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved