إلى : هيلة بنت أحمد
لا يزال رقم والدي ورقم أخي وأرقام الأحباب، تحتل في مفكرة الهاتف مكانها وبحبرها الذي لم يبهت حتى الآن قررت شطب هذه الأرقام.. ها أنا امتشق القلم، ها هو لعابه يكاد يسيل، لكن رجفة مفاجئة اجتاحت يدي وخفق قلبي، وجه أبي يحتل الأحرف الدالة على اسمه، وجه أخي يطل من كل حرف من حروف اسمه، الأصدقاء الذين عبروا إلى الضفة الأخرى متحدون لأول مرة وإذا بي أمامهم وجهاً لوجه.
كان الجو شديد الحرارة في الرياض شديد البرودة في أبها وأنا في الأتون، أطبقت بيدي اليمنى على غطاء القلم الذي ابتلع سائله وسط ظلام هائل.
حينما مررت بالمقبرة، اشحت النظر بعيداً وقررت أن أسلك في المرات القادمة طرقاً أخرى، وربما تكون أطول قليلاً إلا انها تقصر علي طول الحزن.
الطريق إلى بيت عمي لا يسلك سوى هذا الطريق الذي تفرضه أمي، وبرغبة صارمة لا يمكن عصيانها، اشحت بنظري عن رؤية المقبرة رفعته إلى المرآة الأمامية في العربة التي تنقلنا، فإذا بوجه أمي يعود بحركة بطيئة بعد أن غابت المقبرة خلفنا وإذا بالدمعة الصامتة تفرد جناحيها، وترفرف على الجميع، والعربة مكتظة بصمت أخاذ، يد أخي تجهز على صوت المغني الذي ينبعث من مذياع العربة، قررت أن أخرج ذات يوم على قدمي كنت مصمماً في البدء على القيام بالتريض لعل وهج النحول الذي فقدته منذ زمن بعيد يعود.
حيث وقفت أمام الاشارة الضوئية، التفت يساراً فإذا بمسجد الملك فيصل، مر علي زمن طويل حيث أضاءت الاشارة أكثر من مرة وأنا مصاب بالذهول الغائم، طيف ابتسامة ساخرة تعبر ملامحي، حيث ان من المفترض أن نعطف يميناً دون الحاجة للوقوف أمام الاشارة الحمراء أدركت أن هناك سبباً غريباً يدفعني للاتجاه قدما، سوف يكون النادي الأدبي على يساري حيث كان يملأ حضوره الطاغي وجوه الأعضاء، لا أدري لماذا راودني شعور غريب بأنني على موعد معه، ها هو الحلاق التركي الذي يأنس له يحدثه عن أبها قديماً وكيف كان الأتراك يطلقون عليها (اسطنبول الصغيرة) تجاوزت ذلك استيقظت قليلا حدثت نفسي خوفا من الجنون: لقد مات كما يموت الجميع كما نموت، ولا إله إلا الله.. الحي الذي لا يموت.
في منتصف المسافة، التفت يسارا فإذا ببيت العم عبد الله بن الياس وتلك الفسحة أمام البيت تستعد لخروج المرأة السمراء في مثل هذا الوقت، لتفرش الأرض أمام الباب بالسجاد وترتب المساند هنا وهناك لتصبح تلك الفسحة مجلسا مفتوحا على الشارع الذي لا تهدأ حركته.
انتظرت طويلا.. طويلا.. لم تخرج المرأة السمراء، ولم يخرج العم عبدالله ولم يحضر أبي ورفاقه.. دققت النظر فإذا بنوافذ البيت قد فقدت ألوانها المبهجة آنذاك وإذا بها مغلقة إلى الأبد وأوراق الأشجار المتساقطة تغطي مجلس العصرية بديلا عن السجاد والمساند.. صعدت عيني حيث تتأرجح لوحة كتب عليها للايجار اليومي، الأسبوعي، الشهري السنوي.
غالبت الدمع.. ها أنا أندفع إلى المقبرة التي كنت أشيح النظر عنها مرات عديدة، ها أنا وبكل قصد أسير كالمذهول نحوها حينما قاربت أسوارها.
وجدت الباب العريض والذي يسمح لعربة الموت بالدخول لانزال ركابها الذين لا يمكن أن يعودوا على متنها مقفلا ولون الحديد يقول: قف.
وقفت، فرت الدمعة من محجر العين عندما استوى المشهد أمامي وبعد أن فارق الدمع عيني.
وإذا بي أمام كابينة عمومية للهاتف ودليل الهاتف يتدلى كجثة.
استجمعت قواي.. دخلت الكابينة..
حين تصفحت دليل الهاتف لم أجد رقم أبي
ورقم أخي وأرقام الأحباب الذين عبروا
هذا الباب الحديدي المغلق.
|