Thursday 23rd December,200411774العددالخميس 11 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

حب وطن كهذا.. من الإسلام حب وطن كهذا.. من الإسلام
عبدالله بن ثاني*

تعجب وأنت تسمع من يقرر أن حب الوطن يتعارض مع الإسلام، وتعجب أيضا ممن يصنف التيارات، فيضع الوطنية مع التيارات الليبرالية في اتجاه معاكس للتيارات الإسلامية في صورة تصادر الشعور الإنساني، وتخالف الفطرة في قلب الإنسان والحيوان والنبات، فكم من حيوان قطع الفيافي مهاجراً ثم يعود لمسكنه، وكم من طائر يحلق بعيداً في القارات ثم يعود لوكره، وكم من نبات لا ينبت إلا في أرضه، إذن ما معنى أن يضع هؤلاء الوطن في سباق مع كل شيء، حتى صار حبه ذنباً لا يغتفر، وربما كان ذلك نتيجة ما غرسه الفكر الوافد في ذاكرة هؤلاء، قال الأصمعي (دخلت البادية، فنزلت على بعض الأعراب، فقلت أفدني: فقال إذا شئت أن تعرف وفاء الرجل، وحسن عهده، وكرم أخلاقه، وطهارة مولده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه) وقال الجاحظ في سبب تأليف رسالة في الحنين إلى الأوطان: (إني فاوضت بعض من انتقل من الملوك، في ذكر الديار، والنزاع على الأوطان، فسمعته يذكر: أنه اغترب من بلده إلى بلد آخر، أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وخصب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها وشجعانها، يقود الجيوش، ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه فكان إذا ذكر التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها) وأفرد الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد باباً سماه (الحنين إلى الوطن)، وهذا الشعور لم يغفله الإسلام إذ وعد المهاجرين عن الوطن بأجر كبير لأنه يقر بحب الوطن فطرة ويدرك صعوبة فراقه قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، ووعدهم بتكفير سيئاتهم ودخول الجنة في قوله تعالى أيضاً: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} ولذلك جعل الدفاع عنه جهاداً يجب شرعاً إذا اقتحم الأعداء ترابه، وجعل الخروج منه كجريمة القتل فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ...}، بل إن الطرد من الوطن مسوغ للقتال في سبيل الله قال تعالى: {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا...} وهذا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا الحب، فتدمع عيناه الطاهرتان شوقاً لمكة وكانت بلاد كفر وشرك، بأبي هو وأمي في أدلة كثيرة منها أن أبان قدم على رسول الله في المدينة فقال له يا أبان كيف تركت مكة؟ قال تركتهم وقد حيدوا وتركت الأذخر وقد أغدق، وتركت الثمام وقد خاض، فاغرورقت عينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء عائشة رضي الله عنها فسألته عن مكة فقال عهدتها قد أخصب جنابها وأبيضت بطحاؤها وأغدق أذخرها، وأسلت ثمامها، وامش سلمها قالت أقم حتى يأتي الرسول فلما جاء سأله عنها فأجابه بما تقدم فقال صلى الله عليه وسلم حسبك يا أصيل، لا تحزنا وقوله في الهجرة (إني لأعلم ما وضع الله عز وجل في الأرض بيتاً أحب إليه منك - يريد البيت الحرام - وما في الأرض بلد أحب إلي منك وما خرجت عنك رغبة ولكن الذين كفروا هم أخرجوني). وقرر ذلك الصحابة الكرام فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، وتقول عائشة رضي الله عنها في أخبار مكة (لولا الهجرة لسكنت مكة، إني لم أر السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمئن بمكة، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة)، وسئل أعرابي أيشتاق إلى وطنه؟ فقال كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، وقال آخر عن السعادة هي الكفاية في الأهل ولزوم الأوطان والجلوس مع الأخوان، وقال عن الذل هو التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان...
والرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كان حنينهم إلى مكة وهي بلد شرك وأوثان، ولم ينكر عاقل هذا الحنين ولم يعده ذنباً فما بالك بالحنين إلى بلاد الإسلام والحرمين الشريفين التي تقام فيها الحدود وتطبق فيها الشريعة ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، بلاد ترعى السنة وتدعو إلى وحدانية الله جل وعلا في مشارق الأرض ومغاربها، بلاد قامت على المنهج وتبنت محاربة البدع والخرافة، حتى تحقق التوحيد في نفوس العباد والبلاد، ورعت الحرمين الشريفين بما لم يشهد التاريخ مثل تلك الرعاية، ووصل بفضلها القرآن الكريم المطبوع في مجمع الملك فهد إلى كل مسلم في الدنيا ليتلى أناء الليل وأطراف النهار، فالله الله أيها المسلمون بربكم ألا تستحق أن تحب هذه البلاد تدينا لرعايتها الإسلام والمسلمين ابتداء من تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود برعايته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتهاء بهذه الدولة التي قامت على ركائز شرعية لا يشكك فيها منصف فحققت الأمن والأمان، بعدما مل إنسان الجزيرة الفوضى والخوف والتشتت والاختلاف، ولقد مرت بظروف أثبتت أن السهام طائشة وكل متربص مهزوم بحول الله وقوته، ولو كنا نقرأ ونسمع لاستطعنا تجاوز كثير من المحن والفتن التي عصفت بنا فقضايانا تتكرر ونحن عنها غافلون، ولا أدل على ذلك من وصية الملك عبد العزيز صاحب النظرة الثاقبة والرؤية الصحيحة بعد ظروف مرت بها هذه الدولة عام 1347هـ تشابه الظروف والأسباب التي نمر بها الآن، قال الدكتور فهد السماري في مقال له حول تلك الوصية: فلقد نشرت جريدة أم القرى في 2 ذي القعدة 1347هـ موقفاً تاريخياً للملك عبد العزيز حدث في العشرين من شهر شوال 1347هـ الموافق 1929م عندما خطب في جمع كبير من العلماء والمشايخ ورجال الإدارة وزعماء القبائل والحاضرة الذين وصل عددهم إلى ألفي رجل وذلك بعد الانتهاء من أزمة داخلية مؤسفة أصبحت في ذمة التاريخ. وبالنظر في ذلك الموقف التاريخي نجد أن ما تحدث به الملك عبد العزيز يدل على تقديره - رحمه الله - للأمور ونظرته الثاقبة التي تتجاوز التباهي بالانتصار او البطولية الجوفاء، وذكرت الجريدة أنه تحدث في وصيته لأمته عن أربع نقاط:
1 - أن جميع أمر يتعلق بالدين من فتوى وتحليل وتحريم وأمر ونهي لا يعمل شيء من هذا بالرأي وإنما مرده لكتاب الله وسنة رسوله تسألون عنه علماءكم فما أفتوكم به وأمروكم به فاتبعوه وما نهوكم عنه فاجتنبوه.
يقرر الملك في هذه النقطة أهمية الفتوى وحرمتها وعدم غمصها وإهانتها في نفوس الناس، فهي ما اختص الله به ولي الأمر الذي ينيب من شاء في القضاء والفتوى، وهذا من إعطاء ذوي الاختصاص حقهم حماية للمجتمع من شر بعض القصاص والمفتين والمجتهدين، وأما إذا أوكل الأمر إلى غير أهله فتلك الكارثة ولازلنا ندفع ثمن الفتاوى والبيانات غير المنضبطة شرعاً وعرفاً مما أحرجنا وأحرج غيرنا بفتاوى تعد من المشاع والمستباح، تتناول قضايا لو كانت على عهد الصحابة والسلف لتدافعوها، فالله المستعان.
2 - إن الولاية لها عليكم حق السمع والطاعة في دقيق الأمور وجليلها والنصح في الباطن والظهر، وألا يكون لكم تصرف بغير أمر ولايتكم مما نقضي به الشريعة، يقرر الملك في هذه النقطة أهمية السمع والطاعة، لأنهما مما أوجبه الله على الرعية تجاه ولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، لأن المجتمع لا يجني خيراً من الفرقة التي تشغله وتشغل مسؤوليه عن القيام بواجبهم مع تأكيده على أهمية النصح في السر والعلن بشرط الرفق فيها وحسن عرضها بما يحفظ الكرامة وحق الولاية الشرعية والصدق فيها حتى تكون مقبولة بدون تهييج للعامة من على المنابر والأشرطة والمحاضرات.
3 - أن تمنعوا وتمتنعوا من اجتماع الأفراد والجماعات لعقد أي أمر من الأمور الدينية والدنيوية من دون الولاية لأن هذا هو الباب الذي دخل عليكم الفساد منه بتزويق الجاهلين الغلاة المفسدين.
وهذا بانت نتيجته على رؤوس الأشهاد، لان تلك الاجتماعات غير المنضبطة وفق المسار الصحيح تؤدي إلى الفوضى التي قد تستغل ممن في قلوبهم مرض لتحقيق مصالح ذاتية ومشروعات خاصة على حساب وحدة المجتمع واستقراره ممن يتصيدون الأخطاء ويحملون الأمور ما لا تحتمل. وفي الظروف التي قال فيها جلالة الملك هذه الوصايا كان الناس عامة وقد يعذر من لم يقف على كل هذه الأدلة التي تبين حرمة الخروج وتفريق المسلمين وتمزيق وحدتهم وتشتيت صفهم ولكن هؤلاء الذين تربصوا بنا اليوم ممن يهيجون الناس غير معذورين لأنهم يعلمون حرمة ذلك وشره على الأفراد والمجتمع.
4- أن تحترموا المسلمين ومن في ذمة المسلمين في أعراضهم وأنفسهم وأموالهم كما أوجب ذلك الله عليكم. وهذا ما وصى به الإسلام في نصوصه وبينه علماؤه السلف والخلف، ولقد كان مدركاً أهمية فهم هذا المبدأ وهذا المعتقد وفق ما بينته الشريعة، بعيداً عن الخلط في معرفة عقيدة الولاء والبراء تجاه الآخر وقراءة النصوص قراءة صحيحة تتفق مع فهم السلف الصالح لها وعدم ترك المجال للعقل والعاطفة والهوى تحديد مسار ذلك من خلال الاعتماد على بيان نصوص فسرها المغرضون على غير هدى فتسببت في كل هذا الخلاف من أمثال نصوص تأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب ونصوص تتعلق بالجهاد وتنزيلها على الواقع تنزيلاً يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة. رحم الله الملك عبد العزيز فلقد كان ملماً بقراءة موفقة لمستقبل أمته التي وحدها في هذا الوطن الذي نحبه تديناً وقربة إلى الله تعالى للأسباب التي ذكرناها آنفاً، والله من وراء القصد.

*الإمارات العربية المتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved