تمر الشرعية الدولية بأزمة لم تعهدها من قبل، ولا أحسب أن لها سابقة مماثلة في التاريخ الحديث، صعّد هذا التأزيم، أو ساق إليه استهلال الولايات المتحدة الأمريكية أعراس قطبيتها وأحلام إمبراطوريتها بالاحتلال العسكري لدولتين إسلاميتين، وإسقاط السلطة فيهما، وتعريضهما لفراغ دستوري خطير، هيأ الأجواء لاختلاط الإرهاب بالمقاومة، وكان الاحتلال مداوة بالتي كانت هي الداء. ولقد سوغت اجتياحها البغيض بحجة المكافحة المشروعة للإرهاب، أو الحيلولة دون إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وإذ تكون مثل هذه الأنظمة المسقطة أنظمة مستفزة، ومغرية بالتدخل، ومفتقرة إلى أدنى حد من مقومات البقاء؛ فإن معالجة أوضاعها بهذا الأسلوب كمن يصب الزيت في النار. وهذا الإسقاط التعسفي الذي تعدى السلطة إلى مؤسساتها، أدى إلى فراغات دستورية، هيأت الأجواء لهدم وحرق وقتل عشوائي. وأغرت الأقليات: الطائفية والعرقية والإقليمية بتصفية حساباتها، وحملتها على التفكير الجاد في الانفصال، مما سيؤدي إلى تمزيق الكيان الواحد، والعودة به إلى الكفر الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ضرب بعض الأمة رقاب بعض. والخطورة ليست في نفاذ الإرادة القوية، وليست في الضربات الخاطفة التأديبية، وليست في استمرار الصراع العالمي، فكل ذلك من سنن التدافع والتداول والابتلاء، ولكنها في أشياء كثيرة، يتجرع مرارتها مبتغو الفتنة والساقطون فيها، ومن يفضلون الجنوح إلى السلام العادل، وإنما هي في اختلاف المغلوبين على أمرهم فيما بينهم حول الموقف من الغالب وأسلوب التعامل معه تعاملاً حضارياً، يكرهه على مراجعة حساباته، والتخلي عن خلط الأوراق. وأمريكا التي فتحت شهيتها بالقنبلتين النوويتين، حين أرادت تخطي عزلتها، والتحول من دولة محايدة إلى دولة متحكمة، وأتبعت ذلك بأكثر من مائة وعشرين ممارسة عسكرية خاطفة أو طويلة الأجل، طالت كل أرجاء العالم، أغرت نفسها بغزو سافر خلّف الدمار الحسي والمعنوي. وأخطر من كل هذا وذاك: شرعنة هذا التدخل وتبريره من ضحاياه أو من المكتوين بناره، وإيهام المؤسسات الدولية بأنه حق مشروع. واضطراب المواقف السياسية والفكرية حول حدث لا يحتمل إلا رؤية واحدة مؤذن باستخفاف المعتدي وركونه إلى المعذرين. والمتابعون لملفوظ القانون الدولي وملحوظه، يشهدون تركيزه على (مبدأ عدم التدخل) وتأكيده على منع استخدام القوة فيما يمكن حله بالطرق السلمية. وميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأه وسانده المخالفون له في وضح النهار، تنص مواده على احترام سيادة الدول. واللافت للنظر أن الخطاب الممهد للاعتداء عكَس المادة، وقلبها رأساً على عقب. إذ طرح المحتلون مبدأ (حق التدخل) .
وخطورة الفعل أنه لم يكن دبلوماسياً، ولا حرباً باردة، ولا تسليحاً للفصائل المتناحرة، وليس تأديبياً خاطفاً، مقتصراً على ضربة جوية أو صاروخية، وإنما هو غزو عسكري، ومصادرة للحرية، واحتلال للأرض، وانتزاع للسلطة، وإلغاء للسيادة، واستخدام لأفتك الأسلحة من دولة قوية مهيمنة، ينظر إليها العالم على أنها راعية للحرية والعدل والمساواة. وما كان اعتداؤها لإنقاذ مظلوم، ولا لإزالة خطر عالمي، وإنما هو لفرض إرادتها، وإشاعة حضارتها، وتأمين مصالحها، واستغلال خيرات البلاد، وضمان تفوق ركيزتها في المنطقة. وهذه السابقة الخطيرة التي يستخف بها البعض، ويراها حدثاً طبيعياً، يؤدي الاختلاف حولها إلى شرعنة ممارسات مماثلة، مع أنها عمل غير صالح، لمناقضته لأبسط القوانين العالمية. وكيف يحق لدولة تتقدم العالم في إمكانياتها ومبادئها، أن تستخدم القوة في مواجهة شعوب ترفض التدخل في شؤونها، شعوب لم تطلب المساعدة ولا المساندة بهذا الشكل.
وإذا كانت السلطة العراقية البائدة قد نفذت أقذر اللعب وأخطرها، ومسّ شعبها الضر الذي لا يُحتمل، وشكل وجودها خطراً على أمن المنطقة واستقرارها؛ فإن التعامل مع إرادة شعبها وحريته لا يكون بهذا الأسلوب. لقد أشار (جاك شيراك) قبل زيارته (لبريطانيا) إلى أن إسقاط (صدام) عمل إيجابي، ولكن تصعيد المواجهة مؤذن باستفحال الإرهاب الذي تتذرع أمريكا بمواجهته، الأمر الذي حمل أمريكا على الرد الساخر، والتأكيد بأن الإرهاب قائم قبل التدخل، وهذا صحيح، ولكن (شيراك) لم يقل بعدمه، وإنما قال باستفحاله.
والمجازفة العسكرية جاءت بمبادرة فردية من دولة قوية، يفترض أن تكون صمام أمان، وقوة ردع لكل من ينتهك الشرعية الدولية، أو يعتدي على سيادة الدول الصغيرة. لقد كان مقبولاً منها قيادة الحملة العسكرية العالمية لتحرير (الكويت) وقبول ذلك، لا لمجرد الفعل، ولكن للتوقف عند انتهاء المهمة، كما رسمتها قرارات هيئة الأمم المتحدة، وللانسحاب الفوري بعد تحرير (الكويت) .
وبمثل هذه الأحوال يكون هناك مسوغ لتدخل محدود، وفي أضيق نطاق، ومثل هذا التدخل تضمّنه ميثاق الأمم المتحدة. وقد حاولت أمريكا التقنع به، حين أعادت الكرّة، ولكن شتان بين إجماع دولي واستبداد فردي.
فميثاق الأمم المتحدة يجيز التدخل متى هُدد السلام العالمي، أو كان هناك اعتداء مُجْمَع على عدوانيته من دولة على أخرى. ولا يتم التدخل المباشر إلا بعد أن تستنزف المؤسسات العالمية كل الوسائل السلمية. ولو ضربنا مثلا بقضية (العراق) لوجدنا الولايات المتحدة قد مارست التدخل العسكري أكثر من مرة، تمثل بالضربات التأديبية والاستباقية. وتحرير (الكويت) خاضته أمريكا مع خمس وثلاثين دولة، ولقي فعلها ارتياحاً عالمياً، ولم يتحفظ عليه إلا طائفة قليلة، رأت أن معالجة الوضع يجب أن يكون عربياً، فيما ذهب المتعرضون للخطر إلى أن الأمة العربية غير قادرة على حسم الموقف، لضعفها أمام القوة العراقية، ولاختلافها حول الغزو، كما أن العرب من خلال جامعتهم لم يفلحوا في حل أي قضية، ولم يحققوا فض أي نزاع، ولا فك أي اشتباك. ومع هذا فإن الغزو والإخراج ألحقا أفدح الضرر بالأمة العربية، على حد (وقع السهام ونزعهن أليم) ، وليس ببعيد أن يكون الفعل ورد الفعل لعبة موجعة للأمة، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
وبعيداً عن الشرعية يأتي التدخل العسكري الأمريكي البريطاني في العراق وإسقاط النظام، فمثل هذا الفعل يهدد أمن العالم، كما أنه تعويل ساذج على مواد (الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) .
ولقد أضافت أمريكا إلى هذا المسوغ (ضعف الأمم المتحدة) . وأياً ما كان الأمر فإن تلك بادرة خطيرة، سيتجرع العالم العربي مرارتها لعقود طويلة، ولا يمكن قبولها، وإن ضلت فيها أفهام، وزلّت فيها أقلام، واحتدمت حولها الرؤى والتصورات. ولو كانت لهذه الممارسة الخطرة أقل نسبة من المبررات، لقيل بأن أمريكا تسرعت في استرداد كرامتها بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) ، وكان عليها التحري، وتحديد المعتدي الذي مارس الإرهاب ضدها وضد غيرها. لقد اهتاجت كما الأسد الجريح، واتخذت من شرعية محاربة الإرهاب سبيلاً لفرض إرادتها، ومن ثم انفردت بالرأي وبالتصرف، ولا عبرة بالمشاركات الرمزية من بعض الدول المغلوبة على أمرها. ومؤشرات الأحداث تشي بأن أمريكا ستقف أمام نفسها، وتقر بخطئها في إسقاط مؤسسات النظام وإعلان الاحتلال واجتياح المدن، ولكن بعد فوات الأوان وخراب العراق ومن حوله. إن حرباً ضارية بهذا المستوى لا تكون إلا إذا هدد أمنها واستقرارها، والعالم العربي أضعف من أن يهدد أمن (إسرائيل) فضلاً عن أمريكا. والحق أن المسألة كلها لتحقيق التفوق الصهيوني، الذي لا يريد للدول المحيطة به قوة ولا أمناً ولا استقراراً ولا وحدة. وفي هذا السياق جاءت الحرب (العراقية الإيرانية) مضعفة الدولتين المتحاربتين، ومعمقة الأضغان، ومستنزفة أموال الدول الخليجية التي ما فتئت تمد القضايا العربية المشروعة بالمال، وتدعم الأقليات الإسلامية في العالم، وتبادر في إقامة الجمعيات والمراكز الدعوية. وقد سبق هذه الحرب المدمرة حروب: أهلية وحدودية وطائفية، من أخطرها (أيلول الأسود) و (اجتياح لبنان) و (صبرا وشاتيلا) ودعك من (نكسة حزيران) وما لا حصر له من اللعب المصمية التي أتت على مقدرات الأمة العربية. وكل هذه اللعب المدمرة التي مارسها البعض بالتغرير أو بالاستدراج أو بالمواطأة، تصب في صالح إسرائيل. والأغبياء الإعلاميون ناضلوا بأقلامهم لتصنيم المغامرين والمقامرين، والأكثر غباء منهم من جاؤوا يعذرون للمحتل، ويبررون غزوه، ويرقبون معسول الوعود. وما فتئ الواقع العربي والإسلامي قابلين لمزيد من اللُّعَب التي مهدت لها ثورات دامية، وحروب أهلية وحدودية عنيفة، وصراعات فكرية وطائفية وعرقية، واختلاف مستحرّ حول الأسلمة والعلمنة والعولمة والمركسة والغربنة والحدثنة، ولقد استغلت لذلك عواطف متعددة من أهمها العاطفة الدينية، إبان الحرب في (أفغانستان) ، وفيما انسلخ من قوميات من الاتحاد السوفييتي. وكانت المخابرات الشرقية والغربية وراء ذلك التحريض والتجييش. والدول الصغيرة أو الضعيفة المتناحرة مع جيرانها، أو التي تتعرض لحروب أهلية، مهيأة لهيمنة الدول الكبرى، فالنزعة الاستعمارية كالجراثيم، لا تستفحل إلا في الأجسام الضعيفة. وفي ظل هذه الظروف الشاذة يعود الاستعمار البغيض الذي أخرجته الشعوب بالدماء والتضحيات. وقيام الحكومات المتسلطة على شعوبها، واستفحال الأزمات، وتتابع الإحباطات، وغياب المنظمات، وخفوت الأصوات المنصفة، مُؤْذِن بانهيارات أمنية، تصيب الفاعل والمعتزل، وتعمق المآسي، وتشيع الفقر والجوع والخوف. والمنظمات العالمية من واجبها أن ترمي بثقلها في مثل هذه الظروف العصيبة لإيقاف التدهور، ورد المعتدي، واستنهاض همم الصامتين عن قول الحق. وكيف لا تنهض بواجبها، وهي تشهد القتل الهمجي والتدمير الوحشي. وإذ لا يكون باستطاعتها أن تثني المعتدي، فإن عليها - على الأقل - أن تضعه أمام نفسه، وأن تحمله المسؤولية التاريخية، وأن تستثير إنسانية الصامتين المعتزلين للفتنة، ليمارسوا واجبهم للتخفيف من حدة الانتهاكات.
وإذا كان المتداول في أروقة الأمم المتحدة عدم التدخل، وعدم اللجوء إلى القوة، وعدم التعرض لسيادة الدول وسيادة القانون الدولي، فإن ذلك كلام لا تحميه قوة، ولا تترجمه إرادة عالمية. ولم يفسد الهيئات والمؤسسات العالمية إلا ما يمارسه الصهاينة والمتصهينون من ضغوط في أروقة الأمم، ومؤسسات التشريع الأمريكي، وما تقترفه (إسرائيل) على الأراضي الفلسطينية ذات السيادة من قتل وهدم وتشريد، وما تمارسه الدول الكبرى من صمت مُدان أو تبرير كاذب، وما تنهض به وسائل الإعلام من تناول متمارض، واختلاف بيزنطي. كل ذلك جعل القطعيات احتماليات، رققت المصائب، وجعلت بينها وبين المنكوبين إلفاً، حتى لا تجد من يتمعّر وجهه غضباً للحق. وما يقترفه الكتَّاب من تردد واختلاف حول قضايا قطعية الدلالة والثبوت، إنْ هو إلا ناتج الهوان:
(ومن يهن يسهل الهوان عليه...
ما لجرح بميت إيلام) .
وإذا فقدت المؤسسات العالمية المصداقية، قلّت هيبتها، وضعف احترامها، وسقطت من حساب المتسلط والمستضعف، الأمر الذي يلجئ المقهورين إلى المقاومة الممكنة والإيمان بمبدأ ( عليَّ وعلى أعدائي)، وقد يستغل الغضب، لتنفيذ لعب كونية، أو لتصفية حسابات قديمة، وذلك ما نشهده الآن في بقاع كثيرة من العالم. ولما كانت الحياة فلسفة، وليست مجرد وجود، تحول المقهورون إلى عبوات ناسفة من السهل استغلالهم، وتوظيفهم لتنفيذ أقذر العمليات. إن اليأس والإحباط مُؤْذنان بانفجارات مدمرة. والمواجهة غير المتكافئة مؤذنة بكسر العظام وإحراق الأرض. والخضوع والاستسلام مدعاة لمزيد من الإهانة. وحفظ التوازن بين اليأس والمواجهة والخنوع محك الاقتدار. وعلى الذين يملكون فك الاختناقات، أن يحذروا مواصلة الضغط على المستضعفين، إن ما نشاهده في العراق من تمرد وحقد وانتحار وقتل بشع للمخطوفين دليل على أن الفوضى لا تحكمها القوة، وأن انفلات الأمن فوق قدرة البشر بكل ما أوتوا من قوة. ولو أن القوة تحسم المشاكل، لَمَا كانت العراق مستنقعاً يتسع ويتعمق، ولَمَا كانت (فيتنام) من قبل مصيدة أذلت أمريكا. لقد جُرت قدم أمريكا ل (فيتنام) فزلّت، وجرت قدم الاتحاد السوفييتي (لأفغانستان) فسقط، واندفعت أمريكا بعنف في (العراق) فتورطت.
إن عمليات الاغتيال والخطف والتفجير ترجمة للإحباط والفوضى، وقد تكون خليطاً من الإرهاب والمقاومة وتصفية الحسابات بين دول لا تملك القدرة على المواجهة العسكرية. إنها لعب قاتلة أو بقايا لعب كونية، رضي العالم العربي أن يكون مسرحاً لها. والمتابعون لا يفرقون بين (الإرهاب) و (المقاومة) و (المواجهة) الخلفية بين الخصوم الألداء. وليس أدل على ذلك من القول بأن (شارون) رجل سلام، وأن الصراع مع الصهيونية صراع حضاري، وأن منظمات التحرير الفلسطيني منظمات إرهابية، وأن مقاومة العالم الثالث رفض للحضارة والمدنية والحرية، ومباركة منح جائزة نوبل مناصفة بين المقاومة والاحتلال. والمؤلم أن يستمرئ بعض الكتبة جَلْد الذات والتعذير للغزاة، وانتظار ما لا يأتي من وعود طوباوية، هذا الاضطراب في المفاهيم والمواقف سوغ أعمالاً لا تحتمل إلا تأويلاً واحداً. وبهذه الظواهر يكون العالم كله مداناً، ومعرضاً لغضبة ربانية، لا تقل عما أصاب قوم (نوح) أو قوم (صالح) أو آل (فرعون) أو أصحاب (الفيل) ، فالله حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، ولو تكلم الصامتون، وكف اللاعبون، لعرف الناس طريقهم إلى السلام العادل، وعرفوا الإرهاب، وأسبابه، ومصادره، وطرائق مواجهته.
|