Monday 20th December,200411771العددالأثنين 8 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

التربية وتحديات العصر التربية وتحديات العصر
إطلالات على النظام التربوي في المملكة العربية السعودية
د.عبدالعزيز بن عبدالله الجلال ( * )

التربية هي الوسيلة المنظمة لكل المجتمعات في التنشئة الاجتماعية ثقافة وتمكينا من القدرة على التعامل مع الحياة بشكل شمولي، ولكل مجتمع وكل عصر متطلباته وتحدياته، ولا بد من النظر إلى الجانبين معاً تكاملياً، حتى لا يغرق النظام التربوي في المتطلبات الآنية العاجلة، أو يضيع في إمكانية أوهام المؤامرات والتخيلات التي كثيراً ما يقترن الحديث عن التحديات بها.
وهناك متطلبات وتحديات محلية (وطنية) وإقليمية وعربية ودولية، وكل هذه لابد من أخذها بالاعتبار (تكاملياً مرة أخرى) في توجيه النظام التربوي.
تحديات العصر واحتياجاته
ومتطلبات تلك التحديات:
فما هي متطلبات وتحديات العصر في وقتنا الحاضر في العالم وفي الاقليم، وفي المملكة ذاتها، القائمة لا تكاد تنتهي بهذا الخصوص، ولكن الأبرز بين هذه المتطلبات والتحديات الآن هي التالية:
- الثورة التقنية والعلمية، وهي الحالة العامة في الدول المتقدمة وبالأخص أمريكا وبعض أوروبا واليابان، حيث أصبحت الإنجازات العلمية والتقنية تتضاعف بمتواليات هندسية تصعب الاحاطة بها فضلا عن ملاحقتها والوصول إليه إلا بجهود تفوق الاستثنائية.
- ثورة الاتصالات ونظم المعلومات التي ربطت العالم وسارعت وتيرة إمكانية تطور المعرفة (إلى حد ما للجميع) مع استفادة مؤكدة للمبادرين والمثابرين ومزيداً من التخلف للكسالى والخائفين.
- العولمة الاقتصادية والثقافية، وما تتضمنه من تجاوز للحدود والقيود السيادية التقليدية للدول طوعًا أو كرها، وما تحمله من بذور للعدالة والمساواة وإتاحة الفرص للتنافس السلمي إداريا وقانونيا بين الدول بدلا من الممارسات التقليدية لفرض العولمة تاريخيا بواسطة الحروب والإخضاع والعنف، ومثلها مثل سابقتيها الثورة العلمية والتقنية، وثورة الاتصالات، فالفائز فيها هو القادر على التنافس والمثابرة والمحاورة، والخاسر فيها هو المنكفئ على نفسه الخائف من الجديد القادم لا محالة بالرغم من التقوقع الذي لن يضر إلا بصاحبه.
- التدهور البيئي ونقص الموارد، وهو الظاهرة التي تهدد كامل الكرة الأرضية بسبب جور الإنسان وظلمه وأنانيته التي لا تقدر إعطاء فرصة لحماية البيئة وتجدد الموارد الطبيعية، والملاحظ أن الدول الصناعية، وهي التي دمرت البيئة واستنفدت مواردها أكثر من غيرها، أدركت هذا الخطر إلى حد ما وبدأت خطة وقائية ضد ذلك، بينما الدول النامية، ومنها المملكة ما زالت تراوح مكانها معترفة بالمشكلة وقاصرة عن التصدي لها والوقاية منها.
- التدهور الصحي والمخدرات والمسكرات، وما يشهده العالم من انتشار أمراض قديمة ومستجدة ساهمت في جلبها أنماط الإنتاج الزراعية والصناعية غير السليمة، ووتيرة الحياة الاجتماعية المتسارعة والمنافسة الشرسة التي عصفت بالاستقرار النفسي والاجتماعي للكثيرين ودفعت بهم إلى عالم المخدرات والمسكرات، وهذه ظاهرة عالمية لم تسلم منها أي بلد وما زالت الجهود المضادة لها عالميا وإقليميا ومحليا دون المطلوب.
- تزايد التغابن الاجتماعي وتناقص فرص العدالة الاجتماعية، المتمثلة في التفاوت المروع بين الفئات الاقتصادية والاجتماعية في الدخل، وفرص العمل والكسب، وفرص التعليم واكتساب المعرفة المتقدمة، والاستفادة من الخدمات الصحية وغيرها، والملاحظ أن الدول المتقدمة والنامية تعاني من كل هذه المظاهر وبدرجات متفاوتة، وإن كان هناك استثناء تجدر الإشارة إليه عالميا فهي الدول الاسكندنافية، وبينما تعمل الدول المتقدمة بواسطة النظم والتشريعات المالية والبرامج الموجهة للتخفيف من ذلك، فإن مجمل الدول النامية وبالأخص ذات النظم السياسية المغلقة لا تقلقها تلك المسألة، ولذا تستمر المشكلة تنخر في أسس الدولة وكيانها وتحدث المزيد من المشكلات الاجتماعية والسياسية والأمنية فيها.
- تفاقم الصراعات الأيديولوجية والثقافية والفكرية عالميا وإقليميا وعلى مستوى الدولة الواحدة، واختلاط الديني المقدس بالديني البشري، وتعارض الوجهتين منفردتين أو مجتمعتين بالتيارات الأيديولوجية والفكرية الدنيوية، وما ينجم عن هذه المواجهات من صراعات واحتقانات وشحن فيما بين دول العالم وحضاراته المختلفة وعلى مستوى الإقليم الواحد وصولا إلى الدولة الواحدة، وما ينتج عن تلك الصراعات من تفكك وفرقة تنذر بالاستمرار الدائم للخلافات العرقية والدينية والطائفية على كل المستويات (العالم - الاقليم - الوطن أي الدولة الواحدة)، وكل هذه تقود إلى الظاهرة التالية ظاهرة الإرهاب والعنف وتهديد السلام على كل المستويات (الدولة الواحدة وتهديد وحدتها الوطنية - الإقليم - العالم).
- الإرهاب والسلام الاجتماعي والعالمي المرتبط بالظاهرة السابقة، وهي ظاهرة معقدة لا يسهل الحديث عنها لتداخل الدفاع المشروع بالارهاب وبالعدوان عالميا وإقليميا، ولكن في نفس الوقت لا يجوز تبسيطها واستسهالها وإصدار الأحكام فيها عن الخطأ والصواب، لأن التبسيط في هذه الأمور يقود الى المزيد من تفاقم العنف والصراعات وتهديد الأمن والاستقرار في كل مناطق العالم، والموقف المطلوب من مثل هذه الظواهر هو النظر الى كل قضية بعينها وتفكيكها والتعرف على أسبابها، وعن أنجع السبل لحلها بالأقل من الضرر على كل الأطراف ذات العلاقة، أخذا بالاعتبار عناصر توازن القوى والمصالح أو المفاسد المترتبة على القوة والعنف التي أثبتت التجربة أنها أي القوة والمجابهة ليست في صالح الدول الأضعف.
مواجهة التحديات وتلبية المتطلبات:
الدور التربوي
تمثل التحديات والظواهر البارزة أعلاه وغيرها جملة من المتطلبات والإجراءات المجتمعية لمواجهتها وتلبية متطلباتها، ووضع الحلول للمشكلات الناجمة عنها، فالمجتمع بكافة مؤسساته ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية يتحمل المسؤولية المشتركة في مواجهة التحديات وتلبية المتطلبات، ويقتصر الحديث هنا على الدول المأمول للنظام التربوي في ذلك، كما سيقتصر على المملكة العربية السعودية ابتعاداً عن التعميم والإطالة، وابتغاء للفائدة العملية المباشرة، وهي المطلوبة من كل طرح فكري بدلا من الجدل والاستعراض التحاججي أو الاعتذاري التبريري، وسنأخذ التحديات واحداً فآخر مستعرضين متطلباتها من النظام التربوي، ولا يغيب عن البال أن هناك تداخلا وتكاملا بين هذه التحديات ومتطلباتها، ولكن لابد من التصنيف فقط تسهيلا للتناول وليس لوضع حدود جامعة مانعة.
- الثورة العلمية والتقنية: تتطلب الاستفادة من هذه الثورة والمشاركة فيها أن يكون النظام التربوي مهيأ لثروة الأمم من البشر للقدرة على الاستفادة والمشاركة، وسبل التهيئة متعددة نذكر منها: إعطاء قدر أكبر في محتوى المناهج للعلوم والرياضيات وتطبيقاتهما، وتوفير المدرسين القادرين في ميدان التخصص، وفي تفجير قدرات البشر في المعرفة والتفكير والإبداع والبحث العلمي التجريبي، وتهيئة الجو التربوي المساعد على الارتياد والاكتشاف وتحكيم العقل والتحليل والتركيب وغيرها من القدرات المؤدية إلى التمكن والاستفادة والمساهمة في إنجازات الثورة العلمية والتقنية.
وأمام هذا المتطلب أتوجه بالسؤال لكم عن مدى استجابة النظام التربوي في المملكة له، وأرجو أن تجيب المداخلات والحوار في هذا اللقاء عن التساؤل.
- ثورة الاتصالات ونظم المعلومات، وما تتطلبه في محتوى المناهج وعلى مستوى التجهيزات وتوفير القيادة التعليمية المهيأ لذلك، ومن الواضح ارتباط هذا التحدي والمطلب بسابقه (الثورة العلمية والتقنية) ويعتبر الأول وسيلة للأخير وتطبيقا له ومتكاملا معه في كيفية استجابة النظام التربوي له.
كيف استجاب النظام التربوي لذلك؟ أين وصل مشروع وطني للحاسب الآلي؟ وهل هناك بدائل له في الطريق؟ أعتقد أنكم في موقعكم القريب من الوزارة، ومناهج إعداد المعلمين وتدريبهم وتحفيز نموهم المهني المستمر، تستطيعون طرح المزيد من الضوء على هذا الواقع.
- العولمة الاقتصادية والثقافية ومتطلباتها من النظام التربوي، ومن أبرزها التعرف على طبيعة هذه العولمة والقدرة على التعامل معها والاستفادة من إيجابياتها، والحد من سلبياتها ودور التعليم في تكوين القدرات العلمية والمهارات السلوكية المهيئة للتنافس في سوق العمل المحلي والعالمي، وفي ميدان الإنتاج والتسويق للبضائع والخدمات، وكل هذه من متضمنات العولمة التي تعتبر العالم كله سوقا واحداً للعمل والتجارة، الرابح فيه هو القادر والمتميز والخاسر هو الفاشل والمنكفئ.
إن تحديات العولمة ومتطلباتها من النظام التربوي ومن المجتمعات ككل مسألة يكتنفها الجدل والغموض والخوف والمبادرة والتردد، وما حال المملكة تجاه منظمة التجارة العلمية وقبلها (اتفاقيات الجات) إلا دليل على هذا الغموض والتردد.
ومن الواقع أن دور النظام التربوي في المملكة في هذه المسألة محدود، ويمكن إبراز معالمه وترجمته عندما تتضح نتائج جهود الدولة تجاهه التي ما زالت ملتبسة بالكثير من العراقيل الداخلية والإقليمية والدولية.
- التدهور البيئي ونقص الموارد، والدور التربوي تجاهها من خلال مادة منهجية مناسبة متضمنة في مناهج العلوم والمواد الاجتماعية مثل الجغرافيا والاقتصاد، ومن خلال التوعية والمشاركة والسلوك البيئي السليم في الحفاظ على الموارد والتوفير والحد من النزعة الاستهلاكية والتلويث البيئي.
ومن الواضح هنا أن مسؤولية الحد من هذا التدهور والنقص هو مسؤولية الدولة ككل، ويبقى دور النظام التربوي توعويا وسلوكيا، حيث يتطلب الأمر على مستوى المجتمع نظاما واضحا للمراقبة والمحاسبة والتطبيق، وهو ما يكثر الحديث عنه، ولكن النتائج التطبيقية لا تبشر بالخير حيث وصل الامر الى تهديد صحة الانسان بالنفايات والإشعاعات واستخدام الكيماويات والمبيدات وتلويث المصادر الطبيعية للمياه والهواء فضلا عن نضوب الموارد الطبيعية وأهمها المياه في هذه المنطقة.
- التدهور الصحي والمخدرات والمسكرات، وهي ظواهر لمشكلات بيئية ومشكلات اجتماعية واقتصادية معقدة ومتداخلة، والدور التربوي في مواجهتها يتمثل في المعرفة والتحليل للأسباب والظواهر وعلاجها من خلال المواد الاجتماعية والتربية الصحية المناسبة في المناهج والتوعية بالسلوك السليم عن طريق الارشاد الاجتماعي والنفسي والتعامل الانساني القائم على تعديد السلوك الضار بدلا من معاقبته وقمعه فيزداد الأمر سوءا.
وبدون شك فإن الظاهرة إفراز للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المتداخلة، والاسلوب الشامل للمعالجة يقوم على النظر اليها من مختلف الزوايا، ومما يظهر للملاحظ في المملكة أن المؤسسة التعليمية تلامس هذه القضايا بحذر شديد نتيجة لتداخل المعتقدات والسلوكيات الدينية مع ظواهر واقعة في المجتمع مناقضة لتلك المعتقدات والسلوكيات.
ولعل المداخلات والنقاش في هذا اللقاء يلقي الضوء على بعض منها بأسلوب إيجابي يعترف بالمشكلة، ويبحث عن المداخل الانسانية والعملية للتعامل معها، وما هو دور التربية في ذلك.
- التغابن الاجتماعي وتناقص فرص العدالة الاجتماعية، وهي من التحديات المعقدة يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالثقافي، والتصدي لها مسؤولية كل مؤسسات المجتمع بدءا بالقرار السياسي وانتهاء بالقرارات التنفيذية التفصيلية، ودور التربية في المواجهة دور مكمل يتمثل بالدرجة الأولى في التعرف على الواقع والتعامل معه بواقعية وتطلع الى الافضل في نفس الوقت، والمسؤولية الثانية للنظام التربوي تتمثل بالاعداد المعرفي والفكري والسلوكي للمتعلم للتمكن من التكيف مع الواقع والعمل على تحقيق الأفضل بالطرق السلمية المشروعة مثل المنافسة في سوق العمل بالمهارة والقدرة والسلوك المنتج، والتمكين من إيجاد فرص العمل الفردية الذاتية والتعرف على الفرص المتوفرة في الاستثمار وأساليب التوفير والمنافسة القائمة على الجودة والصدق في التعامل.
وأعتقد أن الحوار عن هذه القضايا مسؤولية مجتمعية لا يمكن تركها ساكنة حتى لا تتفاقم المشكلات، ويتهدد السلم الاجتماعي والاستقرار في أي مجتمع، وإن كنت أخشى أن يدخلنا النقاش في هذه المسألة في بحر من الغموض يصعب الخروج منه باعتبارها قضية معقدة مركبة تهم القرار السياسي بالدرجة الأولى ويتبعها بطبيعة الحال بقية القرارات التنفيذية.
- ويبقى التحديان الأخيران اللذان استأثرا بالاهتمام العالمي والوطني خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص، تفاقم الصراعات الأيديولوجية والثقافية، والإرهاب والسلام الاجتماعي والعالمي: يتداخل هذان التحديان ويعززان بعضهما بعضا بشكل يخلط الأوراق ويحير العقول ويصعب فيه التمييز واتخاذ المواقف التي يمكن الدفاع عنها بعقلانية وحياد عاطفي، فطبيعة هذه الصراعات وإفرازاتها العنيفة والارهابية يختلط فيها الديني المقدس بالديني البشري، وتتصارع فيها الأفكار المؤدلجة بشريا بالأفكار المؤدلجة دينيا، وتبلغ حدة المواقف والالتزام العاطفي بها إلى حد تعطيل العقل والتفكير الانساني القادر على التمييز وعدم الانسياق الانتحاري.
وقد شهد العالم في العقدين الأخيرين المزيد من تفاقم الصراعات الفكرية من هذا النوع وشمل جميع مناطق العالم ودياناته وثقافاته، وقد سبق لكثير من مناطق العالم وبالذات أوروبا التعرض لمثل هذا الصراع والاحتراب الفكري المدفوع بالصراع الاقتصادي والسيطرة السياسية خلال القرن التاسع عشر الميلادي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية مما أودى بها الى مزالق الحروب وتراكم خسائرها البشرية والاقتصادية، وقد أدركت أوروبا بعد كل هذه الخسائر البشرية والمادية الفادحة أن استمرار الصراعات لن يقود إلا الى المزيد من الدمار، فكان ان هدأت حدة الصراعات مفسحة المجال للتعاون وإدارة الصراع على المصالح بالوسائل السليمة، وبلغ هذا التعاون ذروته بقيام الاتحاد الأوروبي، وزاد مداه بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.
وبكل أسف فبدلا من أن يمتد التأثير الايجابي لهذا التفاهم الاوروبي الى مناطق أخرى من العالم، شاهدنا تفاقم الصراع والحروب والعنف وآثارها المدمرة في دول العالم النامي، وقد نال العالم الاسلامي والعربي منه النصيب الأوفر.
والناظر إلى هذا الصراع الآن يجد تجسيده الواضح بين المناطق الاسلامية والعربية والغرب، كما يجد تجسيده داخل المجتمعات العربية والاسلامية نفسها حيث تموج بالتطاحن والاحتراب الداخلي الفكري والعنفي معا منتظمة الفروق الدينية والمذهبية داخل الدين الواحد، ممتدة الى الفروق العرقية والقبلية والمناطقية داخل الدولة الواحدة مما أصبح تهديداً لكيان الدولة ووجودها نفسها بالنسبة لبعض الدول العربية والاسلامية، وتلحق بها بعض الدول الافريقية غير المسلمة.
لن نتطرق إلى أسباب هذه الصراعات ومبرراتها والدفاع عن مواقف معينة حيث يطول الشرح وتتعدد الأسباب والمبررات المعقولة وغير المعقولة، ونكتفي بالدور المأمول من التربية تجاه هذين التحديين.
إن إحدى الرسائل المهمة للتربية هي تريبة العقول والافكار المنطقية، والتمكين من قدرات النقد والتمييز، واتخاذ المواقف على أسس من المحاكمة الموضوعية والاعتبار للرأي الآخر ومصالح مختلف الأطراف.
وحيث إن طبيعة الصراعات الفكرية تتغذى على الفرقة والفكر الاقصائي المستبعد للآخر، فإن من مسؤولية النظام التربوي تمكين الانسان من تقبل النقاش والتحاور وتحمل الاختلاف حتى في المسائل الدينية القابلة للاختلاف، وأن تركز على التصدي للاحتراب المادي العنفي الذي لن يقود إلا الى المزيد من العنف والدمار المحلي والعالمي.
يطول النقاش في هذا الموضوع ويتشعب، وغاية القول: إن عالم اليوم وخلافاته وصراعاته تحتاج الى تحكيم العقل وإدراك الواقع وامكانات تحقيق المصالح ودفع المضار قبل اتخاذ أي موقف فكري سواء برر بمفهوم بشري للدين أو بأيديولوجيات أخرى، وما نشهده اليوم من تصنيف وتفرقة داخل الدولة الواحدة أو بين العالم العربي والاسلامي كطرف، والغرب كطرف آخر بشكل اجمالي من غير دراسة للتفاصيل وتمييز للمصالح والمضار، من شأنه أن يزيد من الصراعات والتطاحن ويلحق الأذى بالأضعف وهو الدول العربية والاسلامية وغيرها من الدول النامية، وعالم اليوم قائم على المؤسسات والتنظيمات الاقليمية والدولية، والصراع داخله يجب أن يتوجه من خلال تلك المؤسسات والتنظيمات ومن خلال تحكيم العقل وتحمل الاختلاف وإدارة الصراعات واختلاف المصالح الداخلية والخارجية إدارة سلمية، وأن يحجم اللجوء للعنف طموحا لمنعه نهائيا داخل الدولة الواحدة، وفيما بين الدول من غير تنازل عن الحقوق والمصالح المشروعة لأي طرف، بل الاستمرار بطلبها والدفاع عنها بالطرق الأكثر أمنا وضمانا لتحقيقها، وأنهي هذه الفقرة بالتساؤل معكم هل أن مؤسساتنا التربوية في المملكة العربية السعودية تؤدي هذا الدور بالشكل المطلوب، أم تساهم أحيانا وبشكل غير مقصود في تأجيج الصراع والاحترابات الداخلية والخارجية؟
أيها الاخوة الحضور:
ونحن في كلية المعلمين، اختم محاضرتي ببعض الأفكار عن دور المعلم في تطوير النظام التربوي ومواجهة مستجدات العصر وتحدياته، وهي الفقرة الأخيرة التي طلب مني المنظمون التطرق لها.
إن المعلم هو المحفز والناظم لنجاحات أو إخفاق التعليم في كل الجوانب، فحسب تكوين ذلك المعلم قدرة وسلوكا ومعرفة ومهارات وقيما وتوجهات يكون أدؤه وتأديته لدوره، واعتقادي الجازم أن المعلم الواعي بالتحديات والمستجدات التي جرى عرض بعضها هنا، والملتزم بالطرق الاسلم لمواجهتها هو المعلم الناجح الذي تطمحون الى إعداده في هذه المؤسسة الموقرة.
لن أتحدث عن إعداد المعلم وتدريبه فهي مسائل معروفة لكم جميعا، وأعتقد أن المملكة حققت فيها الكثير من الإنجازات مع بعض القصور في تخصصات مهمة مثل العلوم والرياضيات ونظم المعلومات والحواسيب ووسائل الاتصال والتقنيات واللغات الأجنبية واللغة العربية نفسها.
ولكن الشيء الذي يجب ايلاؤه المزيد من الاهتمام هو النمو المهني المستمر للمعلم، والتوازن النفسي والعدل في التعامل مع طلابه، ومن خبرتي معلما ومعدا للمعلمين وباحثا وخبيراً واستشارياً وفوق ذلك كله أبا وولي أمر، يتضح لي أن النمو المهني لا يحظى بنصيب كاف من قبل المعلم ذاته (النمو الذاتي المهني) ولا من قبل مؤسسات الاشراف، كما أن التوازن النفسي والعدل في التعامل مع الطلاب لا يحظى بعناية واضحة من قبل الادارة وجهات الإشراف ويجب الا يفهم من كلامي ان عدم التوازن النفسي، وعدم العدل هو السائد، فالعكس هو الصحيح، ولكن الاثر السلبي للعدد القليل لانعدام أو ضعف التوازن النفسي والعدل لا يحده حد على العديد من الطلاب وأولياء أمورهم وبقية المعلمين.
وأعتقد أن هذه الجوانب تحتاج لنظرة شمولية من قبل جهات الإشراف لتحقيق المستهدف منها، والحد من تداعياتها السلبية، ومن الوسائل التي جربها من سبقنا في الميدان، تأتي إجراءات الترخيص ووسائل التقويم السلوكي والنفسي والمعرفي الدورية للمعلمين، ولا يغيب عن البالغ ان سوء استخدام هذه الوسائل نفسها بقلة العدل أو غيابه مثلا ستنتج لنا المزيد من الكوارث.
الأفكار لا تنتهي وتسابق الكلام، ولكن عندما تتسع النظرة تضيق العبارة، ولذلك أختم محاضرتي بشكركم على حسن الاستماع وعلى حسن ظنكم لاختياري متحدثا إليكم، وآمل أن تكون الموضوعية وحسن الظن في الآخر وقبول الاختلاف في الرأي هي الناظم لحوارنا هذه الليلة.

* محاضرة ألقاها الكاتب في كلية المعلمين بالرياض.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved