Monday 20th December,200411771العددالأثنين 8 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

ما بعد الإنسان ما بعد الإنسان
عبدالرحمن الحبيب

في كتابه الجديد ( OUR POSTHUMAN FUTURE)، (مستقبلنا ما بعد الإنسان)، مع عنوان فرعي (عواقب الثورة التكنوحيوية)، يعدِّل فرانسيس فوكوياما أطروحته المشهورة والمثيرة للجدل عن نهاية التاريخ التي طرحها في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) (The End of History and the Last Man) )، والتي أثّرت في التفكير الغربي طوال عقد التسعينات، حيث افترض أن نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي (الاشتراكية) توازي نهاية التاريخ، لأن الخيارات الرئيسية البديلة للديموقراطية اللبرالية قد استنزفت نفسها وفشلت، مما نتج عنه نصر نهائي للنهج الغربي في الديموقراطية اللبرالية كأنموذج لكل الأمم، وأن تهديد الحروب العالمية الكبرى قد زال بالعولمة والتنافس السلمي! هنا يتراجع فوكوياما عن فرضيته مقترحاً أن التاريخ لم يصل لنهايته بعد، لأننا لم نصل إلى نهاية العلم. مجادلاً بأن التقدم الأعظم سيأتي من علوم الحياة. ويطرح تساؤلات حول قدرة هذه العلوم في تعديل السلوك البشري ومدى تأثيرها على الديموقراطية اللبرالية.
أول إنسان مستنسخ ربما ولد أو أنتج في الولايات المتحدة، فإذا اخترنا ما نستنسخه أو ما نخلقه، ماذا سيحدث للمبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك الإنساني؟ هل ذلك يعني نهاية الطبيعية البشرية؟ نهاية الإنسان كنمط سلوك؟
يحاول فوكوياما إقناعنا بأن المحصلة النهائية لثورة التكنولوجيا الحيوية (البيوتكنولوجي)، خاصة مع القدرة على معالجة الدي إن أي (D N A) للأجيال، سوف يعمق ويعقد صعوبة العواقب في ترتيب خياراتنا السياسية وسلوكنا البشري.
في مقدمة كتابه يوضح فوكوياما أن الكتابة عن العلوم التكنوحيوية لشخص مهتم بالاقتصاد والسياسية قد يكون مفاجئاً، ولكن هناك مسوغ لهذه الحماقة! إننا الآن قريبون من نهاية العلم مغمورون بفترة تقدم هائل لعلوم الحياة، وذلك يدعو للتفكير في الصدمة التي تقوم بها هذه العلوم على السياسة، مما يؤثر في طبيعة البشر وقواعد سلوكهم، ويؤثر في فهمنا عبر المعلومات التجريبية الجديدة في حقول علوم الأعراق ونظرية التطور البيولوجي وعلوم الأعصاب.
ويقول المؤلف: ( إن هجمات 11 سبتمبر ألقت بظلال الشك على نظرية نهاية التاريخ، حيث أصبحنا شهوداً على (صراع الحضارات) لهنتجتون، بين الإسلام والغرب. ولكنني مقتنع أن هذه الأحداث لا تفرز شيئا مهما، وأن الراديكالية الإسلامية التي قادت تلك العمليات تقوم بعمل يائس لكنها مع الوقت ستغرق في سعة التحديث ورحابته... هذه الأحداث تشير إلى أن العلوم والتكنولوجيا التي انبثقت من العالم المعاصر تمثل حضارة قابلة للتجريح، مثلما يحصل عبر استخدام الأسلحة البيولوجية، مما يستدعي مزيداً من السياسيات الحكيمة لتوجه هذه العلومi).
يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء. الأول يتناول التقدم العلمي التكنوحيوي وإمكانية تحديد الإنسان جينياً، وعلاقة ذلك بالبيئة. ويتطرق للجوانب الرئيسة في تعديل الحياة من خلال فحص الجينات وانتقاء غير المرغوب منها والعثور على جينات معينة.. وتنامي التطور في تبديل الأعضاء.. وتحكم الأدوية في النفسياتiالخ، كل ذلك سيؤثر على السلوك البشري والأخلاق. وفي حمى هذا التطور التكنوحيوي، أظهر الفحص الجيني معلومات هامة لإمكانية أن يختار الوالدان بعض الصفات التي يرغبان فيها كتحديد جنس الجنين، مما يشكل خطراً على التوزيع الديموغرافي، والتي بدأت تظهر في بعض البلدان.. مما يؤثر على الأوضاع السياسية والاجتماعية. فالعلم يؤثر في الحياة ككل أكثر كثيرا مما يؤثر على حياة الأفراد فقط.
تطور علوم العقاقير له أيضا تأثير كبير، خاصة في مجال الأعصاب. ويفضل الناس هذه العقاقير رغم أنها قد لا تكون مناسبة لهم، فالأدوية التي تحفز المخ وتريح الأعصاب كانت دائما تحظى بشعبية كبيرة. ويبدو، لفوكوياما، أن البشر لديهم ميل غير مستقر لتخدير أو إنعاش أنفسهم بطريقة بلهاء. وسيكون للأدوية مستقبلاً وظيفة أكبر مما هي عليه الآن مثل إعطائهم ليس فقط الشعور الذي يريدون بل كيف يريدون أن يشعروا، وهذه ليست بالفكرة الجيدة، حسب فوكوياما.
الجزء الثاني من الكتاب ذو بُعد فلسفي يقتبس فيه فوكوياما أقوال كثير من الفلاسفة والمفكرين ويناقشها طارحاً فلسفته المثيرة للجدل، حيث يخوض في معنى الطبيعة البشرية، شاملا حقوق الإنسان وضرورتها، وطبيعة الإنسان والسلوك البشري والكرامة الإنسانية؛ موضحا خصوصية أن تكون إنساناً، وكيف أن التطورات التكنوحيوية قد لا تكون لصالح البشر.
وتحت عنوان (ما العمل؟) يحاول فوكوياما في الجزء الأخير طرح بعض الحلول؛ وفي المقام الأول يقترح تنظيم العمليات التكنوحيوية؛ مع حذره من مسألة التنظيم نفسه رغم أنه ضروري وعملي. فلديه شكوك حول العلماء والمحترفين، لأن جل اهتمامهم ينصب على المعلومات العلمية وعلى ما يحرزه العالِم من تقدم في مكانته العلمية، وبالمقابل لدى المؤلف بعض الثقة في أصحاب القرار المنتخبين شعبياً، وهو يأخذ في الاعتبار خطورة تجاوز المحظورات والأنظمة، لكن رغم ذلك فإن مجرد وجود الأنظمة سيكون له تأثير على أرض الواقع.
وفوكوياما لديه ثقة بأن العملية الديموقراطية سينتج عنها أنظمة متشددة وعقلانية في هذا الشأن. فالديموقراطية سيكون لها تأثير في مسألة سن القوانين وتنظيم التقدم التكنوحيوي. مثلاً، الأوربيون حذرون من الأطعمة والمنتجات المعدلة وراثيا مما أثر في إنتاج ومبيعات هذه المنتجات.
ويحذر فوكوياما من خطورة ما يلوح في أفق المستقبل، ولكنه بالمقابل يعرض بعض الأمل؛ موضحاً ضرورة بدء العمل، قبل تفاقم الأزمة، فما زال الوقت مناسباً ومهيئا للتحرك، قبل أن يصعب الحل أو ربما يستحيل!!
ويؤكد ضرورة تنبيه عموم الناس من العواقب الناجمة عن التقنية الحيوية إذا ما أسيء استخدامها، رغم أن طبيعة البشر - حسب فوكوياما - قد لا تكون مشجعة في توخي الحذر نتيجة التلقائية والتلهف لتعديل الأجسام أو النفسيات لهم أو لأجيالهم القادمة. لذا يعتقد فوكوياما أن القرارات التنظيمية التي تنظم التقنية الحيوية ينبغي أن تتخذ من المجتمع عبر ممثليه وليس من خلال رغبات الأفراد. فلا يمكن الوثوق بالأفراد لأن رغبات الفرد تهيمن على أفكار المجتمع، ولكنها تنظر على مستوى المدى القصير، والشيء ذاته ينطبق على الممثلين السياسيين.
يظل فوكوياما مفكراً من النوع الذي يفاجئك بأفكاره ذات النظرة الواسعة للأحداث. وكتابه يضم أبعاداً بيولوجية وسياسية وفلسفية وأخلاقية مع خلفية ثقافية للهندسة الوراثية.. وسأتعرض في الأسبوع القادم، بإذنه تعالى، للنقاشات العديدة التي دارت حول هذا الكتاب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved