تعدُّ البرديات من المصادر المهمة في كتابة التاريخ بشكل عام، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص. ولم تقتصر أهمية هذا المصدر كونها تحمل أخباراً سياسية أو بعض الجوانب السياسية فقط، بل تعدُّ هذه البرديات من المصادر التي يمكن أن يستفيد منها الباحث في مجمل جوانب التاريخ الإسلامي الحضاري والإنساني لا السياسي فحسب. لهذا كانت هذه البرديات، وما تحمله من معلومات جد مهمة، من المصادر التي غفل عنها كثير من الباحثين العرب والمسلمين، وانحصر الاهتمام بها لدى المستشرقين الغربيين، وكان اهتمامهم بها منذ زمن ليس بالقصير، ومع ذلك فقد أخذ الباحثون العرب بالالتفات إلى هذه المصادر المهمة وتلك المعلومات التي وجدوها مدبَّجة على ظهر تلك الأوراق الصغيرة، مما حدا ببعض الباحثين إلى أن يصرف جل وقته إلى الاهتمام بهذا النوع من أوعية المعلومات.
وقد كانت مكتبة الملك فهد الوطنية من أوائل الجهات الرسمية التي أَوْلَتْ هذا النوع من المصادر اهتمامها، فسعى سعادة أمينها السابق إلى البحث عن هذه البرديات عن طريق الشراء إما للأصول أو للصور المهمة لها، فأصبحت المكتبة تحتفظ بعدد غير كثير منها، وإن كان من أهمها بردية تعود إلى النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وهي بردية مؤرَّخة، إضافة إلى قطعتين أخريين من البرديات. ولا يخفى على كل باحث أن هذه الأوعية من المعلومات تحتاج إلى وسائل حفظ راقية ومأمونة، وهو ما يتمثل في المكتبة على وجه الخصوص.
ولقد لفت نظري عند دراسة لخطوط وكتابات القرون الثلاثة الأولى مدى أهمية هذه البرديات في التعرف إلى جملة مما يتعلق بالخط وفنونه وآدابه، فمن خلال استعراض البرديات يظهر لدارس الخطوط العربية أنواع الخطوط المبكرة وتباينها بين أقاليم العالم الإسلامي المختلفة، إضافة إلى أن هذه البرديات واحدة من أهم قطعها المحفوظة حتى الآن قدمت لنا معلومة مهمة تدحض مَن يقول: إن الإعجام؛ أي إعجام الحروف ونقطها، خرج متأخراً عن الحروف العربية؛ حيث إن هذه البردية تُعرف ببردية أهناسية، ومؤرَّخة في عام 22هـ، وورد فيها الإعجام لبعض الحروف بشكل واضح، إضافة إلى أن الإعجام عرفه الخط النبطي الذي هو أصل الخط العربي.
وقد كنتُ قد درستُ البرديات المخطوطة في المكتبة، إلا أنني لم أنشرها؛ لوجود تاريخ يوناني لم أستطع أن أفك طلاسمه؛ مما أخَّر نشرها، ولعل الله سبحانه وتعالى ييسِّر ذلك.
وقد اطلعت على الدراسة العربية التي تناولت البرديات وحلَّلتُ مضامينها، فلم أجد أشهر من الأستاذ الدكتور جاسر بن خليل أبو صفية الذي يعدُّ بحق من روَّاد دراسة البرديات العربية، وهذه الريادة اكتسبها من خلال اهتمامه بمضمون الرسالة ومحتواها، وليس بشكلها وتوصيفها خارجياً. لهذا فقد حُمد لهذا العالم هذه الدراسة التي تعرض لها هنا، وهي دراسة مهمة استطاع من خلالها أن ينصف والياً من ولاة مصر كثر حوله الجدل وظُلم في المصادر العربية المبكرة والمتأخرة، ولم ينصفه إلا المستشرقون القريبون حينما اطلعوا على ما خلفه هذا الوالي من إرث ثقافي اكتشفوا من خلاله أن هذه الشخصية مختلفة عما وجدوه في المصادر التي تناولت سيرته. ثم جاء هذا العالم العربي المسلم ليخرج لنا عملاً مهماً جعل عنوانه (برديات قرة بن شريك العبسي)، وقام على نشر الكتاب المركز السعودي الرائد في نشر الدراسات الجادة، وهو مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، تحت سلسلة تحقيق التراث، ويقع هذا العمل في 390 صفحة تضمن دراسة عن هذه الشخصية المعنية بالبحث في المصادر المختلفة من عربية ويونانية وإنجليزية، ثم استعرض ما نُشر عن هذه الشخصية من برديات، وقسمها بحسب مواضيعها، وظهر من خلال تلك المواضيع جوانب حضارية مهمة؛ مثل العناية ببناء السفن وإصلاح الموانئ، والاهتمام بالبريد والخيل، وكذلك العناية بالمساجد وعمارتها، إضافة إلى اهتمام الدولة الأموية المبكر بسكان مصر من الناحية الاجتماعية والاهتمام بالجانب المالي والزراعي، وأخيراً الاهتمام بالمجال العسكري من بناء للقلاع والسفن وصرف الرواتب للجند والمقاتلة.
ولم يكتفِ الباحث بذلك، بل تناول محتوى هذه البرديات ومضامينها، وتكلم عن خطِّها وإعجامها.
ثم قسم في آخر الدراسة نصوص البرديات بحسب مضامينها ولغتها، فتناول أولاً الرسائل العربية المالية والإدارية؛ حيث ظهر فيها مدى تقدم الناحية الإدارية والمالية لدى قرة بن شريك والدولة الأموية في ذلك الوقت، ثم الرسائل القضائية ومدى اهتمام المسلمين بجميع طوائف سكان الأقاليم، ثم ثانياً تناول مضامين البرديات اليونانية.
وقد حفلت هذه البرديات بأخبار طويلة، منها خطر تعذيب المساجين بغبار الجير والخل، وبعض الغرامات التي رُتِّبت على بعض المخالفين للقوانين في مصر؛ مما يدلُّ على نهج إداري ومالي لدى المسلمين في القرن الهجري الأول.
كتب: عبد الله بن محمد المنيف
|