طلب مني صديق عزيز ينشر مجلة اقتصادية محترمة منذ مدة أن أكتب لمجلته، فكان جوابي أن مزاجي لا يساعدني على ذلك لأنه يرتبط ارتباطا طرديا بحالة الاقتصاد السعودي والتي كانت ليست على ما يرام آنذاك. والآن فإنني مفعم بالنشوة من جميع أوجه الحياة وخاصة تلك الاقتصادية بالسعودية ولهذا بدأت أكتب بعد أن انقطعت عنها لمدة خمس سنوات تقريباً. ولِمَ لا أكون مفعما بالتفاؤل والنشوة! حيث إننا كقيادة وكمجتمع بدأنا نشخص تشخيصاً دقيقاً الأمراض الاجتماعية التي تواجهنا والتشوهات الاقتصادية التي نعيشها والتي كنا في الماضي نتجنب الخوض بها. وتشخيص المرض في أكثر الأحيان، هو نصف الطريق إلى الشفاء بعون الله:
1 - فتحت الأبواب لمناقشة كل ما يمس حياتنا، فالحوارات الوطنية تناقش بعمق وشفافية مواضيع كنا نحلم بمناقشتها حتى في الخفاء خوفا من جرح شعور أولئك الذين احتكروا لأنفسهم قول الحق والتظلل بظلال الفضيلة، لأولئك الذين نصبوا أنفسهم مؤتمنين على تصرفاتنا الاجتماعية خاصة وغيرها. أولئك الذين لم يعطوا الرأي الآخر المخالف لآرائهم، حتى الفرصة لشرحه بكل أمان. وها هم الآن مكشوفون أمام الملأ بعد أن دفع المجتمع السعودي وما زال الثمن باهظاً مادياً ومعنوياً نتيجة تصرفاتهم. إذن هذا تطور خير وإيجابي بإذن الله.
2 - وها هي نصف المجتمع (المرأة) تشارك جهاراً في مناقشة أمورها وغيرها من أمور بعد أن كان بعضنا يهمس في الخفاء، أكثر الأحيان، للدفاع عن حقوقها المشروعة. ها هي تقف أمامنا مسلحة بسلاح العلم والإيمان، فيا أختي أمرك بيدك ونحن واقتصادنا بالذات في حاجة ماسة مستعجلة لإنتاجك لزيادة قدرات هذا الاقتصاد، إذ إنه ليس من العدل ولا الحكمة الاقتصادية أن تبقي خارج دائرة الإنتاج المثمر لأن صيانة مجتمع واقتصاد دولة الرفاه يتطلب المزيد من العطاء.
3 - وها هي أسعار البترول عالية نسبياً وإنتاج المملكة في ذروته.
4 - ويعلن سمو ولي عهدنا الخير، رجل الإمساك بالفرص المتاحة، أنه سيوظف فائض الدخل من زيادة أسعار البترول وإنتاجه لتخفيض مستوى الدَّيْن العام، والأهم من ذلك الاستثمار في تكوين رأسمال ثابت وخاصة في التجهيزات الأساسية الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والطرق والإسكان والمياه .....ألخ. وما أحوجنا لمثل هذه الاستثمارات حاليا وخاصة تكوين رأس المال الفاعل.
5 - وسوق الأسهم السعودي يسجل مستويات جديدة نظراً في أكثر الأحيان لزيادة ربحية الشركات كمؤشر حسن للحالة الاقتصادية العامة.
.. ولا يضيره أن يكبو بين الحين والآخر نظراً لخطأ إداري أو غيره فالعبرة في الاتجاه العام والاتجاه هو إيجابي الصفة قطعاً.
6 - والسعودية، التي كانت في الماضي تدافع عن مصالحها من وراء الكواليس وعلى استحياء في أكثر الأحيان نظراً لطبيعتها الدبلوماسية، تدافع اليوم علناً عن مصالحها لا يهمها كثيراً قول الحاقدين أو الحاسدين لأنها لا تحتاج لتزكية من أحد حول تصرفاتها. هذا الوضع السعودي الجديد هو مؤشر ثقة بالنفس .. الثقة المنبثقة والمعتمدة على تماسك الشعب مع قيادته في ظل ظروف دولية صعبة، وأفعال محلية بعضها مريض يخجل منه كل إنسان شريف يتقي الله.
ولهذا، يا قارئي، للأسباب المذكورة أعلاه وغيرها تجدني في مزاج متفائل. إنني، أكتب، أحياناً حباً بالكتابة لأنها علاج للنفس وكذلك من أجل المشاركة في مناقشة الوضع العام عسى نستفيد جميعاً من ذلك النقاش. إن الحياة ملأى بالمتناقضات، ولست من الذين لا يرى إلا الجانب المظلم أو المضيء منها. إنني أعتقد أن الحياة حلوة بظلامها أحياناً مهما قسا وطبعاً بنورها الذي يبهر العيون.
وللمعلومية فإن لي ارتباطاً مباشراً وغير مباشر بالمجلس الاقتصادي الأعلى والذي يرأسه ولي العهد المفدى، وكتاباتي ليست لها علاقة بذلك الارتباط بل هي تمثل رأيي الشخصي وما يخص ذلك المجلس المذكور فمكان نقاشه، طبعاً، ليس على صفحات الجرائد .. ولرئيسه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز سلمه الله كل الشكر والتقدير، إذ إنه عادة يسمح لي ولغيري بمناقشة ما يعرض بكل شفافية وصراحة.
وبعد هذه المقدمة إليك ما عندي من تأملات عن الميزانية العامة للمملكة، علماً بأن هذه التأملات تمّت كتابتها قبل صدور الميزانية الأخيرة في الأسبوع قبل الماضي.
تأملات في الميزانية العامة
للمملكة العربية السعودية
من المفترض أن تكون ميزانية الدولة هي خطة الدولة السنوية، تلك الخطة أو البرنامج الذي يحتوي، عادة، على المصروفات الجارية مثل الرواتب والأجور وبند الصيانة والمصروفات الرأسمالية (الاستثمار). وفي بلد مثل السعودية والتي تصدر خطة خمسية، يجب أن تكون الخطة السنوية (الميزانية) هي إحدى سنوات الخطة المحددة. ويجب أن يكون الاختلاف بين الخطة السنوية (الميزانية) وما يذكر في الخطة الخمسية إما معدوماً، أو أن يكون قليلاً جداً. وفي عالم مثالي يجب أن تختفي هذه الفوارق سواء بين الميزانية والخطة أو بين إيرادات الميزانية ومصروفاتها (الميزانية في توازن) السنوية .. إذ من المفترض أن يكون المشرِّع والمخطِّط ومعدّ الميزانية على بيِّنة من أمر موارده وكيف يصرفها بين البرامج والرغبات المتنافسة والتي لا حدود لها مهما كثر الدخل. وهذا يتوجب اختيار الأولويات الضرورية لخدمة البلد على الوجه الأكمل. وحيث إننا نعيش في عالم غير مثالي اقتصادياً وغير اقتصادي، فالإيرادات متغيرة، وذكرنا أن المصروفات كذلك متغيرة، نظراً لأن حاجات البلاد والعباد ليس لها حدود، إذن كانت المسؤولية عظيمة على المشرِّع والمخطِّط ومعدّ الميزانية، ويزيد صعوبة إعداد وتنفيذ برامج الميزانية حين يكون دخل الدولة تقرره عوامل اقتصادية خارجية ليس للدولة (مثل السعودية) قدرة على التحكم في مسارها، وفي علم الاقتصاد وخاصة الكمي منه أثناء إعداد النماذج الاقتصادية الرياضية تقسّم العوامل المؤثرة على مؤشر اقتصادي إلى عوامل خارجية وداخلية. فالعوامل الخارجية، مثل سعر البترول والكمية المنتجة منه في السعودية، تؤخذ كما هي مقررة من الخارج، والعوامل الداخلية مثل كمية الاستهلاك بالنسبة للدولة هي داخلية ومعتمدة اعتماداً مباشرا بالنسبة لدولة مثل السعودية على كمية الإيرادات، أي أن للدولة القدرة للتحكم بها إلى حد كبير. من هذا التعريف البسيط للعوامل الخارجية والداخلية عامة، ومعرفة طبيعة الاقتصاد السعودي ومصدر إيرادات الدولة خاصة يتضح للقارئ صعوبة الدقة في إعداد الميزانية وخاصة في جانب الإيرادات، إذ إن الإحصاءات السنوية للميزانية العامة منذ زمن بعيد تقودنا إلى أنه من 80 - 90% من دخل الدولة يأتي من قطاع البترول الذي يتحكم في نموه من عدمه عوامل خارجية تعتمد كلية على الاستهلاك العالمي للبترول والذي بدوره يعتمد على الدخل العالمي .. ودعنا نذكر للقارئ هنا أنه مهما تعددت الأسباب المؤثرة في استهلاك البترول العالمي، وما يذكر أحياناً بأننا في قرن جديد من الزمن جديد في كل شيء حتى انه يوصف أحياناً بزمن الاقتصاد الجديد، أقول إنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وأساسيات الاقتصاد والتي درسها العالم منذ زمن بعيد هي المتحكمة في استهلاك أي سلعة بغض النظر عن بعض العوامل غير الاقتصادية وخاصة الطارئة منها، ذات التأثير في المدى القصير، إذ إنه في المدى المتوسط والطويل ستسيطر العوامل الاقتصادية الأساسية .. أي أن لا استهلاك أو زيادة فيه أو الاثنين معاً بدون دخل أو زيادة فيه أو الاثنين معاً. من هذا المنطلق، ألا وهو طبيعة مصدر دخل الحكومة السعودية، تتضح لنا الصعوبة التي تواجه الدولة في إعداد الميزانية رقمياً .. وإليكم بعض الأمثلة عن الاختلافات التي حدثت على ميزانية الدولة من جانب الإيرادات بين المقدَّر والفعلي بملايين الريالات:
ولي ملاحظات على الجدول رقم (1) وهي:
- لم أذكر السنوات قبل 1988 نظراً لأن الدولة كانت أقر على تقدير الإيرادات نظراً لوجود احتياطيات لديها والتي أعطتها حرية أوسع مقارنة فيما بعد بالنسبة للميزانية.
- انتقلت من 1988 إلى 1992 نظراً لما حدث في 90 - 91 و 91 - 1992 للميزانية من دمج بسبب الظروف الاستثنائية والتي منها احتلال النظام العراقي لدولة الكويت.
يظهر من الجدول ما يلي:
1 - صعوبة الاستقرار على اتجاه معيّن من ناحية المقدَّر والفعلي لا بل إن هناك اختلافاً بينهما حتى في الاتجاه بين إيجابي وسلبي .. ارتفع المقدَّر والفعلي من عام 1988 و 1992 في حين اختلفا من 1992 إلى 1993 (ارتفع المقدَّر وانخفض الفعلي).
2 - ومع مرور الزمن وزيادة خبرة مقدري الإيرادات بدأ الاتجاه يستقر صعودا إلى حد ما، غير أن الفرق بين المقدَّر والفعلي أصبح واضحا للعيان وخاصة منذ 1996 ولا أحد يشك في أن الإيراد الفعلي لعام 2004 يزيد كثيراً عن تقديره لنفس العام (البعض يقدر الفرق بحوالي 130 بليون ريال). وحين يصل الفرق إلى 24 أو 39 أو 42 بالمائة تصبح تمارين تقدير الايرادات أشبه بالتخيل وأحياناً أقرب إلى الأماني.
ما ذُكر أعلاه هو برهان صادق على أن اعتماد إيرادات الدولة على دخل البترول المقرر خارجيا أوجد صعوبة كبيرة للتحكم بتقدير الإيرادات والتي نتج عنها هذه الفروقات التي تظهر عادة بين المقدَّر والفعلي وخاصة ان الإيرادات غير البترولية بقيت كمياً في نطاق شبه مستقر ما عدا 1998 و2003 من الناحية الفعلية .. هل هذا يعني أن نغض النظر عن تمارين تقدير إيرادات الدولة لإعداد الميزانية؟
أبداً، كل ما أرغبه هو أن يكون القارئ على علم بأن المسألة صعبة وهذا ما أرعب معدِّي الميزانية وألجأهم إلى السير دائماً في الخط المحافظ جدا مع فكاهية موقفهم أحياناً.
ولأن ميزانية الدولة هي الحافظة لدخل البترول وعن طريق مصروفاتها يتحدد مسار الاقتصاد السعودي ورفاهية المجتمع مع كل احترامي لما يذكر ايجابيا أحياناً عن القطاع الخاص (سنناقش وضعه في مقالة قادمة بمشيئة الله)، فتذبذب الإيرادات الكبير وعدم القدرة على التحكم بها أثر بشكل مباشر على الجانب الآخر من الميزانية (المصروفات السنوية) وخلق للمشرِّع والمحقِّق ومعدّ الميزانية صورة طبق الأصل تقريبا من المشاكل التي يواجهها في تقدير الإيرادات، نظراً لأن حكومة المملكة اتخذت قرارا من زمن بعيد بربط المصروفات السنوية ربطاً مباشرا بالإيرادات لا لأن دخل البترول (وهو تقريباً كل دخل الدولة) يفرض عليها ذلك بل لأنها قررت ان تصرف تقريبا كل دخلها من أجل رفع كفاءة الأداء الاقتصادي وغيره بالسرعة القصوى من أجل الوصول إلى مجتمع الرفاهية .. مجتمع حفظ كرامة الإنسان وصيانتها.
إنني أعذر الدولة حين تجد صعوبة في تقدير الإيرادات علمياً وعملياً غير أنني لا أستطيع أن أعذرها بنفس القدر حين يخص الأمر تقدير المصروفات.
من الجدول رقم (2) نرى ما يلي:
1 - ما عدا أعوام (1988، 1993، و1998) زادت المصروفات الفعلية عن التقديرية وهذه الظاهرة كذلك حددت الاتجاه العام (الإشارات السلبية) وأصبح شبه مستقر.
2 - إن التذبذب بالفرق نسبياً هو أقل من ذلك الذي يخص الإيرادات (أنظر جدول رقم (1) أعلاه) إذ إنه لم يتجاوز 21% بالنسبة للمصروفات في حين وصل إلى 42% بالنسبة للإيرادات .. وهذا متوقع إذ إن وزارة المالية تستطيع تقريباً أن تحد من المصروفات الفعلية حين ترى أن الوضع المالي أثناء السنة يختلف عن الذي توقعته أثناء إعلان الميزانية .. وما تعاميم وزارة المالية الشهيرة للحد من الصرف على بعض البنود وتقييد الصرف عامة إلا مؤشر على قدرة الوزارة بالتحكم بالمصروفات مقارنة بالإيرادات.
3 - أسمي الإشارات السلبية (الفرق بين المقدَّر والفعلي)، والتي هي اقتصاديا مكروهة في أكثر الأحيان وتدل على عدم الكفاءة أحياناً في الإدارة المالية للدولة عامة وإعداد الميزانية خاصة، إشارات وعلامات تمثل تلك الرغبة النبيلة والتي تتصف بها قيادة هذه البلاد. فهي، أي القيادة، كانت وما زالت تحاول جهدها بأن تحمي مجتمع الرفاهية من الأذى من منطلق أن تخفيف العبء المادي (عدم سن ضرائب وغيره) على المواطن هو أنبل الوسائل لدعم كرامته وصيانتها وشحن هممه للمشاركة في خيرات المملكة (العدالة الاقتصادية والاجتماعية).
يقودنا التحليل أعلاه، منطقياً، إلى ضرورة بناء جدول ثالث يحتوي على أرقام الإيرادات والمصروفات الفعلية للميزانية من أجل الحصول على مقدار العجز والفائض الفعلي في الميزانية في كل سنة. ومن هذا العجز نستطيع أن نحصل، كمؤشر جيد، على مقدار الدَّيْن العام إن شمل التحليل السنوات التي لم تذكر في هذا الجدول. وشكراً لمؤسسة النقد العربي السعودي وتقريرها السنوي القيم والذي يحتوي على إحصاءات مفصلة وحيوية عن الاقتصاد السعودي ومنها بالذات هذا الجدول.
من الجدول رقم (3) يظهر بوضوح عدم قدرة الدولة بالتحكم بإيراداتها للأسباب المقنعة التي ذكرت سابقا وهي كذلك لم تستطع لأسباب كثيرة ومنها خاصة رغبتها النبيلة التي ذُكرت أعلاه بالتحكم بالمصروفات والتي لا تبرئها من اللوم بالكامل .. إذ إن الارتقاء بكفاءة الإدارة المالية بالذات يعطي الدولة المرونة والقدرة لحماية النشاطات الاقتصادية من التذبذبات الحادة بين المقدَّر والفعلي بالنسبة للمصروفات خاصة تلك التذبذبات التي تخلق عادة بيئة استثمارية غير مرحبة وغير مشجعة للتخطيط المتوسط وطويل الأمد واللذين هما عماد خلق القاعدة الاقتصادية الإنتاجية .. تلك القاعدة التي عادة تقود إلى تنويع مصادر الدخل وتخفف بذلك ذاتيا من التقلبات الحادة في النشاطات الاقتصادية عامة وتخفف من الاعتماد على عوامل خارجية تتحكم بإيرادات الدولة بالذات وكذلك ميزان المدفوعات السعودي وكلاهما من أهم عوامل زيادة الدخل الوطني والذي نسعى إليه جميعا. ويا قارئي كما ترى، فإن دخل البترول نعمة من الله أنعم به علينا ووظفته قيادتنا الحكيمة من خلال مصروفات الميزانية لخلق هذه التنيمة الإنسانية الشاملة والتي نزهو ونفتخر بها بين الأمم رغم بعض الصعوبات التي نواجهها أحياناً. غير أن أرقام دخل البترول بالنسبة للاقتصاديين وتذبذبه بالذات عدو لدود لأنه يؤثر على جمال واستمرارية السلسلة الزمنية لمؤشرات الاقتصاد السعودية والتي عادة تستعمل لبناء النماذج الاقتصادية الرياضية لتحليل الاقتصاد.
يتضح من الجدول (3) اعلاه الورطة التي تواجهنا .. فكل سنة من عام 1988 وحتى 2002 هي سنين عجاف أدت إلى عجز هائل في الميزانية ما عدا سنة 2000 ذلك العجز الذي أدى إلى تراكم الدَّيْن العام. وللمعلومية، وبالرجوع إلى السنين قبل 1988، يظهر انه منذ عام 1983 وحتى عام 2003 كانت الميزانية العامة في عجز ما عدا عام 2000 و 2003 أضف إلى ذلك ان العجز في الميزانية في السنتين الماليتين اللتين دمجتا (1410 - 1411 - 1411 - 1412هـ) بلغ 140.838 مليار (بليون) ريال نظراً للظروف السائدة في المنطقة في ذلك الوقت وخاصة ما نتج عن احتلال النظام العراقي للكويت. في الحقيقة لا يسع المرء إلا ان يقول كان الله في عون المشرع والمخطط ومعد الميزانية في ظل بيئة أرقامها تتصف بهذا التذبذب الرهيب والذي كله عجز تقريبا في الميزانية مما أدى إلى ديْن عام بلغ 660.206 مليار (بليون) ريال (ص 175 تقرير ساما الأربعون).
من الأرقام في الجدول (3) كذلك يبدو بديهيا ان حكومة المملكة لم تمد أرجلها على قدر حجم لحافها (إن صح هذا التعبير) وما تصرّفها هذا إلا أشبه بتصرف الفرد الذي اعتاد على مستوى معيشي معين ويرفض ان يغيره حتى حين ينخفض دخله (نظرية الدخل الدائم). وما أجبرها على هذا التصرف في اعتقادي، إلا قناعتها أنها ما زالت المحرك الحقيقي للنمو الاقتصادي في المملكة وليس من المنطق ولا الحكمة الاقتصادية بالذات ان تتخلى الدولة عن هذا الواجب النبيل، لهذا نتج الدَّيْن العام .. إذن هو قدر حكومة المملكة العربية السعودية وقدرنا معها بأن نجد أنفسنا نواجه هذه المشكلة الاقتصادية. هذه المشكلة التي هي نتاج نظام اقتصادي يهيمن فيه القطاع العام على أهم مصدر للدخل والذي بدوره، من مفارقات القدر، يحدد حجمه من قبل عوامل خارجية من أهمها الدخل العالمي وخاصة ذلك الذي يخص الدول المستهلكة والمستوردة للبترول السعودي، فعجز الميزانية وتكلفة خدمة الدَّيْن العام سنة بعد أخرى أوصلنا لهذا المستوى من الدَّيْن العام والذي هو نتيجة تراكمات أفعال حكومة كريمة تحملت المسؤولية بكل أمانة لخيرنا جميعا مهما شكك بعض الناس، أحياناً، بذلك، ومهما لمنا الحكومة بأنها لم تدر المالية العامة بكفاءة تبقى الحقيقة واضحة أمامنا، الآن، أنه من الصعب إن لم يكن مستحيلا التخلي عن كثير من هذه المسؤوليات في المدى القصير والمتوسط ونحن نعلم ان القطاع العام (الحكومة) يوظف مباشرة حوالي ثلث العمالة الوطنية المتاحة وهو المصدر الرئيسي للاستثمار في التجهيزات الأساسية والتي تحتاجها النشاطات الاقتصادية المنتجة مباشرة للسلع والخدمات.
إذن ما هو الحل؟
المقترحات:
إن أكثر دول العالم مدينة وتواجه عجزا في ميزانياتها سنة بعد أخرى فكون الدولة مدينة ليس عيباً وليس برهاناً بحد ذاته على سوء إدارة المالية العامة وكم من الدول التي استدانت من أجل أن تحرك اقتصادها الراكد او المنكمش وكم من الدول أوجدت اعمالا وهمية لا فائدة واضحة منها في الأزمات الاقتصادية الحادة من أجل توظيف العاطلين، فالدولة بكل صدق ونزاهة وشجاعة أدبية هي المسؤولة في النهاية عن معيشة البشر عن طريق خلق فرص العمل للراغب في رفع مستواه المعيشي وصيانته ومن لم يساعده الحظ لأسباب مشروعة، فالدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تأمين ضروريات الحياة له مهما حاول من فهم نظام الاقتصاد الحر خطأ إبعاد القطاع العام (الدولة) من التدخل في الاقتصاد (ولي مقالة حول هذا الموضوع في القريب العاجل).
دأبت حكومة المملكة ان تكون المصروفات تابعة دائماً للإيرادات السنوية أي أنها تعلن المصروفات في الميزانية ونظراً لصعوبة تقدير الايرادات فهي تنحو منحنى التحفظ في التقدير فيما يخص الايرادات خاصة وحين تتغير الظروف وتصبح المؤشرات واضحة بأن الإيرادات الفعلية ستفوق ما قدر لها تغير المصروفات كذلك. وهذا يعني ان لا ثبات في المصروفات وان مقدارها الفعلي يتحدد كرد فعل للتغير الذي يحدث في الإيرادات.
إننا لا نستطيع ان نستمر بهذه الطريقة لأن نتائجها في الماضي أثبتت ان العجز سيتراكم ونتيجة له سيتراكم الدَّيْن العام وسيأتي اليوم، لا سمح الله، الذي يصعب فيه الافتراض حتى محليا، أما ان كان خارجيا فشروطه ستكون قاسية جدا .. عند ذلك سنواجه الحقيقة المرة ونكون قد أضعنا وقتا طويلا وأهدرنا فرصا. هذه النتيجة لا تحتاج لعقل ثاقب وعبقرية خلاّقة للتوصل لها فهي بديهية ونتيجة حتمية لمن يعيش سواء كان فردا أو حكومة بمستوى لا يؤهله دخله له. ولنعلم جميعاً أنه مهما زاد دخل الفرد أوالحكومة فإن الحاجات والمتطلبات والرغبات الضرورية وغير الضرروية ستكون اكثر بكثير من الدخل الزائد .. إذن دعنا نمسك بزمام المبادرة الآن ونثق ان الطريق للإصلاح طريق شاق وخاصة في البداية، ويحتاج إلى الصبر والمثابرة والاستمرارية في تنفيذ المتفق عليه بكل أمانة. وما اقترحه فهو متوسط وطويل المدى وكلي ثقة بأننا إذا استمررنا في طريق الإصلاح الاقتصادي عامة والميزانية خاصة فالكثير من مشاكلنا الاقتصادية ستحل وسينمو اقتصادنا نموا حقيقيا لا يقل عن الزيادة الطبيعية في السكان وإليكم:
1 - لنضع أولويات مصروفات الميزانية بكل بنودها حسب الوضع الحالي الذي نواجهه خاصة الاقتصادي منه .. إذ إنني أعتقد ان كثيرا من بنود الميزانية هو إرث من أيام الطفرة المالية في السبعينيات الميلادية وفترة الانكماش في الثمانينيات، فالتدقيق في بنود الميزانية إذن ونحن في سعة من أنفسنا ماديا سيقود إلى وضع الأولويات الضرورية للحكومة والتي بدورها ستحدد أوجه ومقدار المصروفات في الميزانية. بعد ذلك يجب تثبيت هذا المقدار والالتزام به إلى حين الوصول إلى توازن مريح (حتى لو كان نسبياً) بين الإيرادات والمصروفات. ولقد بدأنا في الحقيقة، بتنفيذ هذه الخطوة (وضع الأولويات الضرورية للإنفاق) حين أعلن أمير الإصلاح عامة والاقتصادي منه خاصة سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد المفدى بأن فائض الإيرادات في عام 2004 سيصرف حوالي واحد وأربعون بليون ريال (مليار) منه على الطرق والصحة والتعليم والكهرباء ... الخ في السنوات القادمة أي الاستثمار في التجهيزات الاجتماعية الأساسية والباقي من الفائض سيوظف لإطفاء جزء من الدَّيْن العام والذي ذكر رقمه سابقا .. إذ ان إطفاء جزء كبير من الدَّيْن العام سيخفف العبء على ميزانية الدولة مباشرة من حيث تخفيض حجمه وتكلفة خدمته وخاصة ان التكلفة متجهة إلى الارتفاع نظرا للتوقعات العالمية برفع الفائدة.
إن هذه السعة المالية (فائض في الميزانية) التي بدأت في السنة الماضية مستمرة في هذه السنة وكل المؤشرات، بعون الله، ترشحها بالاستمرار في المدى المتوسط نظراً لحاجة البلاد الصناعية النامية مثل الصين والهند للبترول. وكلنا ثقة بحكمة وقدرة قيادة المملكة لاقتناص هذه الفرصة وتوظيف حاجة هذه الدول وغيرها للبترول السعودي لجني الخيرات منها لاستمرار هذه التنمية الخيِّرة.
إن تثبيت مقدار المصروفات سيقود إلى فائض في بعض السنين ومن المستحسن ان يوضع جزء منه في صندوق احتياطي لتوظيفه عند الحاجة لسد الفجوة خاصة بين الإيرادات والمصروفات الضرورية الحيوية المتفق عليها مسبقا .. ذلك من أجل تنفيذ مشاريع التنمية وخاصة الاستثمارية منها لزيادة الطاقة الانتاجية الاقتصادية وتنويعها .. نعم سنواجه صعوبات خاصة في السنوات الأولى من التطبيق بالذات من الناحية الإدارية، إذ إن التأقلم للوضع الجديد بأولويات قد تكون مختلفة جدا عن السابق في بعض بنود الميزانية، سيخلق بعض الارتباك في الإدارة الحكومية، غير أنني أعتقد أنه ارتباك متوقع وسنتجاوزه إن اختيرت الأولويات بدقة وعناية .. وإليكم هذا التمرين البسيط للإيضاح فقط:
لنفترض ان انتاج المملكة من البترول هو بمعدل 8 ملايين برميل يوميا (تنتج المملكة حالياً 9.5 إلى 9.7 براميل في اليوم)، ولنفترض ان متوسط سعر البترول صافيا هو 16 دولارا أمريكيا للبرميل (سعره الآن فوق 30 دولارا أمريكيا) إذن ستجني المملكة دخلاً صافيا من البترول يساوي 176 بليون (مليار) ريال في السنة وبإضافة الدخل غير البترولي بمعدل 50 بليون (مليار) ريال يصبح مجموع دخل الدولة 223 بليون (مليار) ريال بالسنة وللمعلومية فإن متوسط مصروفات الدولة الفعلية السنوية منذ عام 1992 وحتى 2003 بلغ حوالي 209 بليون (مليار) ريال في السنة .. إذن نحن في وضع مريح وأعتقد ان شد الأحزمة لن يكون قاسيا دائماً حتى نصل إلى نقطة التوازن المرجوة.
2 - الإسراع في تنفيذ قرارات الإصلاح الاقتصادية مثل التخصيص وتملُّك العقار والاستثمار فيه لغير السعوديين وتنشيط قطاع السياحة وغيرها (وسنناقش بعضها في مقالات قادمة)، وتشريع قرارات جديدة وما أحوجنا لكثير منها وخاصة هيكلة الاقتصاد جذرياً من خلال سياسة اقتصادية متكاملة يتمم ويكمل كل جزء فيها الآخر لبناء هيكل اقتصادي جديد يتمتع بالديناميكية، خاصة القدرة على مواجهة التغيرات العالمية وملبيا للمطالب الداخلية المشروعة والتي من أهمها إيجاد فرص العمل للباحثين عنه من أبناء المملكة.
*******
الجدول رقم (1)
السنة - المقدَّر - الفعلي - الفرق نسبياً%
1988 105300 84600 -0.24
1992 151000 169647 0.11
1993 169150 141445 -0.19
1994 120000 128991 0.07
1995 135000 146500 0.08
1996 131500 179085 0.26
1997 164000 205500 0.20
1998 178000 141608 -0.26
1999 121000 147454 0.18
2000 157000 258065 0.39
2001 215000 228159 0.06
2002 175000 213000 0.18
2003 170000 293000 0.42
2004 200000 330000 0.39
* المصدر: التقرير السنوي الأربعون 1425هـ (2004) مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)
******
جدول رقم (2)
المصروفات التقديرية والفعلية بملايين الريالات
السنة - المقدَّر - الفعلي - الفرق نسبياً %
1988 141200 134850 0.05
1992 181000 211340 -0.14
1993 196950 187890 0.05
1994 160000 163776 -0.02
1995 150000 173943 -0.14
1996 150000 198117 -0.24
1997 181000 221272 -0.18
1998 196000 190060 0.03
1999 165000 183841 -0.10
2000 185000 235322 -0.21
2001 215000 255140 -0.16
2002 202000 233500 0.13
2003 209000 257000 0.19
2004 230000
* المصدر: التقرير السنوي الأربعون 1425هـ (2004) مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)
*******
جدول رقم(3)
الإيرادات والمصروفات الفعلية بملايين الريالات:
السنة - الإيرادات - المصروفات - الفرق نسبياً %
1988 84600 134850 -0.37
1992 169647 211340 -0.20
1993 141445 187890 -0.25
1994 128991 163776 -0.21
1995 146500 173943 -0.16
1996 179085 198117 -0.10
1997 205500 221272 -0.07
1998 141608 190060 -0.25
1999 147454 183841 -0.20
2000 258065 235322 0.10
2001 228159 255140 -0.10
2002 213000 233500 -0.09
2003 293000 257000 0.14
* المصدر: التقرير السنوي الأربعون 1425هـ (2004)
مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)