Sunday 19th December,200411770العددالأحد 7 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
تركي بن إبراهيم الماضي
...ممتناً لانهزامي...!

وجهي مغموس بطين الهوان والذل، منذ خرجت من رحم أمي وأنا أبكي من كل شيء، كلما صفع خدي أحدهم تجهزت بالخد الآخر دون إرادتي.. كيف تسنى لأبي أن يدع صبية الحارة يوسعوني ضرباً كلما عدت من البيت يوماً بعد يوم؟ كيف لم ينزع الخوف من قلبي أن أواجههم كأسد أن أصفعهم على وجوههم واحداً تلو الآخر.. لماذا يقول لي باستمرار: (اصبر يا بني وتفرج عليهم؟!) لم أفهم على من أتفرج وإلى متى وإن كنت عرفت بآثار الضرب على جلدي على من اصبر؟
أحمل بيدي ورقة بيضاء مليئة بتضاريس الخطوط وشروحات يفهمها الغبي، لكن من يقنع الأذكياء بصحة شروحاتهم.. ورقة بيضاء قضيتي في الحياة احملها صباح مساء لعل الفرج قريب.
أتأمل الحذاء كأنه صاحبي في قضيتي لو كان له لسان لصرخ من القهر، السلالم تبدو كأنها ارجوحة.. أتلمس (الدرابزين) أتحسسه كطفل يلتصق بجسد أمه.. تعودت أن أتجاوز الدرجة السابعة من السلم.. يتعثر فيها من وطأت أقدامه مرة واحدة في عمره وخرج من هذا المبنى ولم يعد له مرة أخرى.. وحدي من تعثر بالسلالم وبين المكاتب وبين وجوه لا تخاف الله.. ليس لأنني أعمى ولكن ليس لي حيلة فيما جرى!.
أدلف للمكتب الساعة لم تتجاوز بعد الثامنة صباحا، يتلقاني الموظف بوجه ينبئ عن حال معاملتي يذكرني بوجوه (الديانة) عندما يأتون الى أبي طالبين أموالهم مع فوائدها الربوية! قلت للموظف: السلام عليكم.. لم يتطلع الى وجهي ليعرف ما أكابده.. سمعت بعض الكلمات غير المفهومة.. لا أعلم هل يرد السلام أم يشتمني.. قلت له: هل الشيخ موجود؟.. كتم ضحكة بداخله.. فأكملت: لأن لدي موعد الجلسة الثامنة صباحا.. أجاب ببرود: انتظر بالخارج؟
رميت بثقلي على كرسي الانتظار.. وانتظرت.. فاجأتني اغفاءة الأمان كمسلم يدخل حرباً واضحة بايمان يسانده من الله عز وجل.
أفقت مذعوراً على صوت ضجيج من داخل المكتب.. أسرعت بخطاي للداخل.. فاجأني الموقف... أخيراً حضر خصمي بعد مماطلة طويلة امتدت لأشهر طويلة.. قال لي: هل ندخل الآن؟ تلفت من حولي؟ هل يخاطبني؟ ما هذه الطيبة؟ قلت له: بالطبع.. دفعني أمامه.. يا بئس الرجل انه لم يستأذن حتى من الموظف: يا رب لطفك؟
جلست مع خصمي أمام القاضي.. لأول مرة أرى قاضياً في حياتي.. انه مثل البشر.. تأملت فيه ملياً.. لم يفرق بيننا شيء سوى ان آثار النعمة بادية عليه ومثلي لا تبدو عليه سوى آثار النقمة.. لا اعتراض يا رب.. تطلعت في أرجاء القاعة.. قاعة بسيطة مليئة بالكراسي.. وحده كاتب القاضي من يستطيع أن يصل للقاضي دون أن ينهره بالجلوس في الكرسي المقابل له!
سارحاً في وجه القاضي الذي صرخ بي: وين المدعي؟ لم أفهم ماذا يعني.. وان ساعدني خصمي بالاشارة إليّ.. ففهمت ووقفت أخاطبه: أنا مظلوم ولست مدعياً؟.. ضحك القاضي: كلها واحد.. حاولت أشرح له أنني مظلوم ولست مدعياً يريد اثبات حق.
اعتدل القاضي في جلسته كالأسد: قل ما عندك؟..
قلت له كشحاذ يستجدي أعطية من ثري: أوراق القضية بين يديك؟.. ذهل القاضي وهو يبحث بين أوراقه.. صارخاً.. نادى كاتبه: أين أوراق القضية؟ تطلع الكاتب فيني وفي خصمي ثم قال ببرود: لم نجد الأوراق! صرخت: كيف تضيع الأوراق انها كل ما أملك..؟
ناولته ملفاً يضم صور كل أوراق القضية.. تبسم فقال: لا نقبل بأوراق مصورة.. قلت له وقد أعيتني الحيل: ما الحل يا سعادة القاضي.. نهرني: أنت ولد ما تريبت ما قلت لك لا تسخر من القاضي؟ كدت أموت لحظتها.. واقتربت أكثر لأقبل يدي القاضي معتذراً لكنه نهرني مرة أخرى بالتراجع إلى الكرسي.
تشاور القاضي مع كاتبه.. وخصمي بدت السعادة على شفتيه الغليظتين.. كأنه يعلم مسبقاً بكل شيء.. قال القاضي.. ليتقدم المدعي بدعواه. قمت مرة أخرى ولا أكاد أحمل نفسي.. شرحت له كل شيء وطلبت منه انصافي من هذا الظالم الذي أكل اليابس والأخضر.. وأريد فقط أن يرد لي أموالي.. لم يدعني خصمي أكمل كلامي حتى هب كعاصفة ريح عاتية: انه يكذب يا فضيلة القاضي.. تطلعت للقاضي كان من فرط اعجابه ان بدا عليه السرور.. إذن هذا لقب القاضي المفضل.. اكمل خصمي: خله يحلف بالله انه ما سرق مني وأنا أعطيه كل فلوسه المتبقية له في ذمتي.. لم أكد أنهي حلفي إلا والقاضي يمنعني من الحلف: لا يجوز اللعب بالحلف في قضايا تافهة..!
لم ينظر القاضي إلى صور أوراق القضية.. تأمل في وجهي ملياً فقط.. ثم نزع نظارته وأصدر حكمه: يعيد المدعى عليه المبلغ الذي يطالب به المدعي بعد أن يخصم ثلث المبلغ نظير ما سرقه المدعي.
لم يكن هناك ما يقال وهل تستطيع الضحية ان تطالب بحقها في الحياة أمام الوحش الكاسر.. مشيت هذه المرة خلف خصمي ووقعنا على أوراق لم أقرأها بتاتا.. خصمي فقط من دقق في الأوراق وطلب من كاتب القاضي بالزامي بكتابة مخالصة بعد استلامي المبلغ المتبقي واحضاره للمحكمة لاضافته في ملف القضية.. قالها وهو يسخر من ضعفي.. قلت له: لا مشكلة.. ولكن أين ملف القضية لأضع به الورقة؟ تدخل الكاتب وأوضح انه سيقوم بهذه المهمة.
تعثرت قدماي هذه المرة في الدرجة السابعة من السلم على غير عادتي.. كالخارج من معركة مهزوماً وهو يعلم من بدايتها ان مفاتيح النصر بيده.
أمام باب المحكمة تطلعت في وجوه الناس.. أيهم المظلوم وأيهم الظالم.. وحدي خرجت من الباب الفرعي..
استوقفني بائع (المساويك) مشيراً لي بمسواك فاخر.. تطلعت للسماء ورفعت يدي.. لماذا لجأت إلى من مثلي لينتصر لي..؟
ياررررب قلتها وغصة بالحلق لا تكاد تخرج الحروف من فمي سليمة كقضيتي.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved