بدءا يجب أن نعترف أن الأدب العربي قد طغى عليه الشعر أكثر من النثر. ورغم أن ثمة محاولات نثرية نادرة نجدها هنا وهناك في إرثنا التراثي الأدبي، يأتي أدب (الجاحظ) و(ابن المقفع) على رأسها، إلا أنها ظلت محدودة كماً وكيفاً، وبالذات عندما نقارنها بالشعر. فالشعر -كما يقولون- كان ديوان العرب، ولأن الثقافة العربية كانت ثقافة (مشافهة) أكثر من كونها ثقافة (كتابة)، سيطر الشعر على هذه الثقافة لموسيقيته وسهولة حفظه وتلقيه من قائله وبالتالي تداوله بين الناس.
غيرَ أن الشعر العربي لم يضطلع في تاريخه بدور ريادي حضارياً كما هي آداب الأمم الأخرى، فقد اكتفى بوظائف أربع لم يبرحها إطلاقاً أولها: المرح والثناء والإشادة بالممدوح. وثانيها: الهجاء والشتم والسب والابتزاز. وثالثها: الفخر ومدح الذات التي تعج بكل معاني الغرور الفارغ من أية قيم. وأخيراً : الغزل الرخيص الذي ظل يراوح بين رغبات (المراهقين) المكبوتة وبين تعريات (الكهول) الجنسية، خذ عمر بن أبي ربيعة من التراث، ونزار قباني من شعراء العصر الحديث، مثالين يحملان الكثير من المؤشرات التي تدل على ما أقول.
وخارج هذه الوظائف الأربع لم يحمل لنا التاريخ إلا بعض القصائد التي كانت مجرد نظم لقواعد لغوية، كألفية ابن مالك، ومقصورة بن دريد، أو بعض القصائد التي تدور في فلك النصيحة والوعظ كنونية بن القيم مثلاً.
ولعل جمود الشعر العربي عند هذه الوظائف، كان أحد الأسباب الرئيسة التي جعلته يتقزم أمام آداب الأمم الاخرى عندما تجري أية مقارنة بينه وبين تلك الآداب. وإخفاق الأدب العربي في أن يرتقي إلى تطلعات الإنسان وهمومه الكبرى، هو في تقديري من أهم البواعث التي رسخت التخلف عند العرب وألغت المشاعر الإنسانية النبيلة لأن ترتفع وتتشكل كقيم تقيم أود الأدب العربي، وتشبع (فقره) في المجالات الأخلاقية، وترتقي به إلى مصاف الآداب العالمية التي نقرؤها اليوم فيتضح لنا بجلاء كم كان الأدب العربي كسيحاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) عن قصور الشعر العربي مقارنة بآداب الأمم الأخرى: (فقلما نجد فيه قصيدة قصصية طويلة كالتي وجدناها عند هوميروس أو دانتي أو الفردوس). ويحاول الدكتور الوردي أن يبرر هذا التخلف فيعيده إلى أسباب (شكلية) بقوله: (فالشاعر العربي يصعب عليه أن ينظم الملحمة الطويلة، لأن المحافظة على سلامة الوزن والقافية والإعراب تنهكه وتكلفه شططاً. انه يشعر بالتعب قبل أن يشعر به الشعراء الآخرون الذين لو تحرروا من القيود اللفظية، لجاءت معانيهم أروع وأكثر تنوعاً وعدداً). ومع أن ما أشار له الدكتور الوردي صحيح شكلياً، إلا أن القضية هنا (لا تنحصر) في الشكل فحسب، وإنما تمتد لتشمل (المضمون) أيضاً.
والرقي الأدبي يأتي دائماً كخطوة أولى في سباق الحضارات. بل هو يعتبرُ مقدمة، أو إرهاصة من إرهاصات بزوغها. فكثيراً ما يسبق الأدب العلم في بعث الحضارات. وقد لا يخطىء كثيراً من يقول أن الأدب كان دائماً أسبق من العلم في هذه السبل. فالحضارة لم تكن يوماً ما مذهباً منطقياً يقيمه العقل وحده وانما هي مجموعة مطامح الحياة إلى المثل الأعلى الذي ترجو الجماعة يلوغه، كما يقول أحد الكتاب.
ورغمَ أن الأدب العربي في العصر الحديث قد حاول أن يخرج من قوقعة وظائفه التقليدية، وقيوده الشكلية والمضمونية، إلا أن هذا الأدب الجديد، أو (الأدب الحديث) كما يسمونه، ظل غريباً وهامشياً، لم يحظ بأي شعبية تذكر، وهذا ما يثبته انحدار توزيع كتب أهم الرموز الأدبية العربية المعاصرة، والذي لا يتجاوز توزيع كتبهم بضعة آلاف من النسخ لكل شاعر أو مؤلف على أفضل تقدير، رغم جهودهم الأدبية الجبارة في انتشال الأدب العربي من قاع تخلفه.
فالأدب العربي في أفضل حالاته -كما يصفه الدكتور طه حسين- كان مجرد (ترف ذهني) ليس أكثر. ولعل هجائيات الحطيئة، وغزليات ابن أبي ربيعة، وخمريات أبو نواس، ومدائح جرير وأبي تمام والمتنبي، التي تحتل مكاناً بارزاً في الشعر العربي تثبت بكل جلاء ما يعنيه طه حسين. وكما يقول سلامة موسى تعليقاً على مقولة طه حسين هذه: (ليس هناك من يكره الترف والحلوى، ولكن أولى من الترف حاجات الصحة والطمأنينة، وأولى من الحلوى الخبز واللحم).
كل ما أريد أن أقوله هنا أن الارتقاء بالأدب، والأخذ بيده إلى ملامسة تطلعات الإنسان، وقضاياه الكبرى، وآلامه وآماله، وأفراحه وأتراحه، هو ما نحتاج إليه، فالأدب أحد محركات نهضة الشعوب وارتقائها وتطورها، كما علمنا التاريخ أكثر من مرة.
|