Sunday 19th December,200411770العددالأحد 7 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

لماذا نقسو؟! لماذا نقسو؟!
سلمان بن فهد العودة

1 - وكيف لا يقسو من نشأ في أسرة جافية فقيرة العواطف, يصدق عليها وصف الأول: تحيّةُ بَينِهم ضربٌ وَجيعُ.
أثبتت الدراسات أن (50% - 80%) ممن يضربون زوجاتهم رأوا آباءهم من قبل يضربون أمهاتهم! ويستدل بعضهم خطأ بالآية الكريمة: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (34) سورة النساء.
ويظن أنها تفويض بالضرب!
وهذا..
أولاً: خاص بحال النشوز والعصيان, وليس إذناً مطلقاً.
وثانياً: جزء من منظومة متكاملة في التعامل, تحدد الحقوق والواجبات, ولا يجوز تناولها بمفردها معزولة عن غيرها.
وثالثاً: هو آخر المطاف بعد فشل الوعظ والتذكير, ثم فشل الهجر في المضجع, أي: يهجرها في الفراش دون أن ينتقل إلى غرفة أخرى.
ورابعاً: فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ضرب غير مبرّح, فهو حركة تعبر عن التأديب, وليس الأذى أو العدوان, وهو ضرب الحبيب الذي قالوا عنه إنه كأكل الزبيب.
وأما حديث: ( لاَ يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ )، الذي أخرجه أبو داود والنسائي في (الكبرى) وابن ماجة والبيهقي وأحمد عن عمر فهو حديث ضعيف لأجل عبد الرحمن المسلي قال عنه الذهبي : ( لا يعرف إلا في هذا الحديث).
وعلى فرض صحته ؛ فمعناه - والله أعلم - نهي الناس أن يسألوا الرجل عن السبب؛ لأن هذا من الفضول والتطفل على حياة الآخرين، ورواية المسند تدل على هذا..
وليس المقصود أنه لا يسأل يوم القيامة, بل يسأل المرء عن كل شيء, ولا يقصد ألا يسأله الحاكم, بل الحاكم يلزمه شرعاً النظر العادل في أي قضية شكوى ضد زوج اعتدى على امرأته بالضرب دون وجه حق, وقد ورد في قصة جميلة بنت أبيّ ما يدل على هذا.
وأما حديث: (وَلاَ تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْهُمْ أدباً)، فهو ضعيف، رواه البيهقي وفيه انقطاع بين مكحول وأم أيمن, ورواه أحمد وفيه عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، ورواه الطبراني في الكبير وفيه عمرو بن واقد القرشي وهو كذاب.
ومثله حديث: (علق السوط حيث يراه أهل البيت) رواه ابن عدي والطبراني والبخاري في الأدب المفرد وغيرهم، وهو ضعيف, قال في المقاصد: في سنده من هو ضعيف وقال في أسنى المطالب: طرقه ضعيفة.
إن العنف ضد المرأة ظاهرة عالمية على رغم مدونات حقوق المرأة, وما يسمى ب (اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة).
ويكفي أن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم تعاني من مشكلات صحية خطيرة لها علاقة بتعرضها للضرب أو الاغتصاب أو أشكال أخرى من العنف، ومن آثار ذلك تورط المرأة في إدمان المخدرات, أو التدخين, أو الشيشة - على الأقل - فضلاً عن الأمراض النفسية، كالاكتئاب والتوتر, وقد تصل إلى الانتحار, أو محاولة الانتحار.
حدثني أحدهم أن جارتهم تأكل كل ليلة من زوجها السكير وجبة ساخنة من الضرب الموجع, ويسمعون صراخها يقطع القلوب, ثم تأتيهم في الصباح متجلدة, وكأن شيئاً لم يكن حتى فقدوها مرة... فوجدوه قد قتلها, قتله الله.
لا إحصائيات رسمية في العالم العربي, فهي معاناة صامتة في الغالب, والمرأة أعجز من أن ترفع شكواها, أو توصل صوتها إلى الجهات القضائية أو غيرها...
ويا للحزن الشديد!
كم من امرأة تعيش القهر المدمر في ظل زوج لا يرى لها حقاً, ولا يقيم لها وزناً, ولا خيار لها غيره.
وكم من فتاة تقطع العمر حسرات وآهات تحت ولي يعضلها, ويمنع عنها الخطّاب؛ لأنها محجورة لابن العم, أو لأنه يصادر مرتبها ويقتات عليه.
وهكذا العنف ضد الأطفال: (فدى لهم من لا يحن عليهم)، فالطفل ذو النشاط الزائد, أو المتخلف, يتلقى عبارات قاسية, تزدري شكله, أو خلقه, أو مستواه الدراسي, ويتعرض للضرب والحرق, فيترك الطعام, ويصاب بالأرق فلا ينام, ويضعف دراسياً, ويصاب بالاكتئاب والعزلة, ويفقد السيطرة على نفسه، وهذه الأعراض بدورها تسبب له دورة أخرى من التحقير والازدراء, وتكاد الدمعة تطفر من عيني وأنا أكتب هذه الكلمات الحزينة.
أين التغني بالطفولة وبراءتها؟!
أين استشعار البهجة في وجود الأطفال في المنزل, وأن زعيقهم وصياحهم أعذب لحن في آذان الآباء الناضجين؟
ماذا لو كنت عقيماً ترى الصبيان وأنت منهم محروم؟
ماذا لو مرض طفلك وذبل، أيظل قلبك في مكانه؟
ماذا لو مات..؟
فأي إحساس سينتابك وأنت تتذكر تلك اللحظات القاسية التي تَمَلَّكَك فيها الغضب، فقهرت تلك الزهرة الغضة البريئة؟!
ما الذي يحملنا على سرقة الفرحة من عيونهم في المناسبات والأعياد والاجتماعات؟! أين هدي المصطفى صلى الله عليه سلم: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا )، ( إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ ).
من قدوتنا الحقيقية؟! محمد صلى الله عليه وسلم, أم ذلك الأعرابي الذي استغرب تقبيل النبي للصغار, وأجابه النبي عليه السلام بقوله: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ).
لماذا نسمح للجفاف العاطفي أن يتسلل أو يحكم علاقتنا بصغارنا؟
لماذا نربيهم على الثأر والانتقام من الآخرين؟
لماذا نجعل حالات الطلاق والانفصال مجالاً لأن يعصر قلب الطفل اللين بين تناقضات والديه؟
أو أن يكون وسيلة ضغط من الأب أو من الأم؟
ألا نشفق على مستقبله أن ينشأ مشوهاً معقداً عليل النفس؟
أطفالُ مَنْ هؤلاء الذين يفترشون الشوارع, ويتراكضون عند الإشارات ومراكز التجمعات للتسول وإراقة العزة ووأد البراءة؟
(وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) صدق الله العظيم.
2 - وكيف لا نقسو, ونحن خريجو مدارس هي أحياناً أشبه بالثكنات العسكرية, تعتمد على حشو المعلومات وحقنها, وتنحاز للجانب المعرفي على حساب التربية وبناء الشخصية، ولقد قرن الله بين العلم والرحمة فقال: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) (65) سورة الكهف.
فالعلم بلا رحمة غلظة وجفاء, والرحمة بلا علم تدليل وضياع.
ولقد حبب إلينا العلم الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي - رحمه الله- بابتسامته الساحرة, وخلقه النبيل، ثم من بعده سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في صبره ولطفه العظيم.
وفي كل علماء الإسلام خير.
ألا يجدر أن يقرر على البنات والأولاد منهجاً في التهذيب والأخلاق والعلاقات الاجتماعية؟
إنه مقرر يجدر ألا تخلو منه مرحلة دراسية من الابتدائي إلى الجامعة.
3 - وما لنا لا نقسو ووسائل الإعلام تعرض مشاهد العنف والقتل، وتقدمها للكبار والصغار, سواء كان هو العنف الترفيهي في الأفلام والمسلسلات وبرامج التلفزيون والفيديو والسوني والكمبيوتر, أو كان هو العنف الإخباري الذي هو صدى للإرهاب العالمي.
4 - وما لنا لا نقسو والأحداث العالمية تصنع القسوة, فحسب الدراسات العلمية فإن الاستفزاز من أهم مكونات العنف؛ لأنه يؤثر على إفرازات الغدد في الجسم, فيحدث الاضطراب النفسي والفكري الذي يصاحب العنف والعدوانية.
إنسان تم استفزازه يمكن أن يحطم كل شيء, أو يقود السيارة إلى الهاوية، و(85%) من الصراعات الشبابية ترجع إلى الاستفزاز.
5 - وكيف نتعجب من القسوة والخطاب الديني يعتمد لغة خشنة في العديد من مواقعه, مع أن الأصل في الشريعة الربانية الرحمة كما يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي, وما جاء وعيد إلا وسبقه وعد ورحمة.
وحتى النار يقول سفيان الثوري فيما رواه الطبري وهو صحيح: (خلقت رحمة, يخوف الله بها عباده لينزجروا عن المعاصي).
ومع أن (بسم الله الرحمن الرحيم) هي ما نقوله في بدء أعمالنا, وأن (السلام عليكم ورحمة الله) هي ما نقوله في ختم صلاتنا, فإن التراشق حين الاختلاف, وقساوة اللغة, والاتهام والتخوين والتفسيق والتبديع والتكفير دون وجه حق وبحق أئمة وأكابر من المتقدمين والمتأخرين, فضلاً عن عامة المسلمين، كل هذا وغيره لا يدل على التأدب بأدب القرآن والسنة.
6 - ولا يغيب عن البال عنف المتنفذين, بالمصادرة وإهدار الحقوق, والهيمنة على المجالات والفرص, وما يقع في العديد من البلدان من الاحتجاز التعسفي, وصور التعذيب, وغياب المحاكمات, والقتل خارج القانون، كما يسمى، والضابط الذي يمارس التعذيب لا يلعب بمستقبله الوظيفي, بل بمستقبل الأمة.
إن المقابر الجماعية والقبضة الحديدية, وسيطرة الخوف على العلاقة بين السلطة والناس، في العراق - مثلاً - جعلت المجتمع مرشحاً للانهيار عند التحدي الخارجي؛ لأن الناس بانفصالهم العاطفي, وسيطرة روح الغضب عليهم قد يتصورون ألا وضع أسوأ مما هم فيه, ويتولد لديهم أمنية خفية بالتغيير على أي جواد كان, ومهما كان برنامجه المستقبلي، وصدق الله حيث يقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (159) سورة آل عمران، فها هنا نص على أن الناس تجمعهم الرحمة, وتفرقهم الفظاظة والغلظة, ومَن أصدق من الله قيلا؟
7 - وأخيراً, فإن التاريخ والجغرافيا ذات أثر وحضور، فالثأر مثلاً من أهم مكونات الشخصية العربية خصوصاً في القبائل والصحراء، ومن ذلك ما يسمى بجرائم الشرف, وهي فعلاً جرائم.
ومن أمثالنا الشعبية: (قوي نارك تغلب جارك)، ( الحيطة الواطية ينطو عليها الكلاب)، (الدم بالدم ولو كانوا أبناء العم).
من الأمثلة التاريخية: العنف السياسي, فالحجاج والبطش السلطوي من جهة, وثورات الخوارج التدميرية من جهة أخرى, وضياع الاحتجاج الشرعي على الاستبداد والظلم.
ومن الأمثلة ما ورد في السنة من استنكار ضرب الرجال لزوجاتهم, وحدوث ذلك والنهي عنه.
وبعض العرب كانوا يعتبرون المرأة إنساناً, ولكن من الدرجة الثانية.
البيئة تصنع مناخاً ملائماً للجفاء, وهو باب يطول ذكره.
وقد رأى العمري الزاهد امرأة في الحج فوعظها، فرفعت رأسها إليه وقالت: أنا ممن قال فيهن الشاعر:
مِنَ اللاءِ لَم يَحجِجنَ يَبغِينَ حِسبَةً
وَلَكِن لِيَقتُلنَ البَريءَ المُغَفَّلا
فأعرض عنها وقال بإشفاق: (أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار).
يعلق سعيد بن المسيب -رحمه الله- بقوله: هذا ظرف أهل الحجاز, ولو كان من المغالية من أهل العراق لقال: أغربي قبحك الله.
أستغفر الله أن أكون قسوت، ولكن الباحث حين يقصد إلى معالجة ظاهرة ما يتجه إلى حشد النظائر واستكمال الرؤية, ولو أردنا أن نتحدث عن مظاهر الرحمة وآثارها في علاقاتنا وحياتنا لفعلنا. والله وحده المستعان.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved