من البدهيات التي لا يختلف فيها اثنان أنَّ الإنسان يمارس الحياة ليس في معزلٍ عن الآخر، وهو إن لم يفعل تفاعلاً فإنَّه لايختلف عمَّن زُجَّ في سجن فذهب يشكو الوحدة، وقلّة الهواء، ونفاد الرَّحيق الذي يمدُّه بالحيوية ويساعده على النَّشاط، ينزوي ما شاءت له زنزانته التَّوحد، ومن ثمَّ الانفصال عن العالم الخارجي...
وبمثل ما تنقطع به الأسباب عن معرفة ما هو خارج عن زنزانته، وبمثل ما يكاد لا يقوى على النور مواجهةً في لحظة خروجه، فإنَّ هذا هو حال كلِّ من يبقى بعيداً عن قراءة الآخر وتجاربه، ليس قراءة بصر في قرطاس يتابع بعينيه ما رسمه القلم فوقه، فقط، وإنَّما قراءة فكر، قراءة صناعة، قراءة معرفة، قراءة إلمام، قراءة إحاطة، قراءة تعلُّم، قراءة تفقُّه، قراءة تمحيص لكلِّ ما يخاطب به الآخرُ لغةَ الآخر، بكلِّ لغةَ يمكن أن يستخدمها الإنسان بجوارحه المختلفة.
في هذا النطاق، فإنَّ البيئة التعليمية إن لم يقابل فيها المعلّم خبرات الآخر قراءة مستديمة، فاحصة، مستفيدة، فإنَّه سيبقى ذلك السجين الذي سيأتي اليوم الذي يتحسَّر فيه ويغنِّي على حاله ما غنَّاه الشّاعر الذي وجد نفسه حبيس سجن، والحمامة طليقة تتنقَّل من مكان لآخر، وتُهدّل كيفما شاء لها الإحساس بألوان الكون الذي تطير فيه حرة طليقة، تتعرَّف الحياة، وتعيشها، وتمارس تداخل ذراتها في تفاصيل ذراتها فتتجدَّد، وتطرب، وتعيش في حرية...
إنَّ حرِّية القدْرة على الاندماج في مطيات الحياة ومن فيها لا تعادلها مشاعر ضافية إلاَّ حين يتأكد المعلِّمون أنَّهم ليسوا سجناء توحِّدهم تلك الزّنزانة التي لن يكون ناتجها إلاَّ الخواء... فالفراغ.. فالموت.
وللموت صفات وأنماط لا أخال أحداً لا يعرفها أو سيدركها.
|