Friday 17th December,200411768العددالجمعة 5 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

الحرية وقضية المرأة في الوطن العربي الحرية وقضية المرأة في الوطن العربي
د. عبدالرزاق بن حمود الزهراني

لم تطرح قضية المرأة باعتبارها قضية اجتماعية إلا مع بروز الفردية والتمحور حول الذات بداية من القرن السادس عشر الميلادي تقريباً، فقد بدأ الاتجاه الفردي ينمو، وبدأ الاتجاه الجماعي يتناقص، حتى وصل المجتمع الغربي وخاصة الأمريكي إلى ما هو عليه من فردية وأنانية، بدعوى الحرية واستقلال الذات، وتم في خضم ذلك هدم الأسرة والتضحية بالحياة الزوجية الهانئة والتضحية بالأولاد وسعادتهم واستقرارهم، وفي هذا يقول الدكتور محمد مقلد في ص 201 من كتابه قضايا حضارية عربية معاصرة: (كان للمرأة دور داخل العائلة ارتضى المجتمع به وكرسته العادات والتقاليد وترسخ في تاريخ الشعوب مئات وربما آلاف السنين، كانت المرأة خلالها جزءاً من عملية الإنتاج الاجتماعي، يتفاوت دورها وموقعها تبعاً لإمكاناتها ولمستوى الشريحة الاجتماعية التي تنتمي اليها، لكنها في جميع الحالات كانت جزءاً من متاع الرجل وآلة للإنجاب والتدبير المنزلي، شريكاً للرجل في العمل الزراعي إذا دعت الحاجة، وصاحبة قرار في الشأنين السياسي والاجتماعي في حالات قليلة).
ومع ظهور الرأسمالية وتعدد طرائق الإنتاج والحاجة إلى الأيدي العاملة تزايدت المطالبة بحرية المرأة، وكان من أهم أهداف الشركات وأصحاب رؤوس الأموال من وراء تلك المطالبة ضم المرأة إلى قوى العمل في المصانع والمعامل المختلفة. ويقول دعاة حرية المرأة وخروجها للعمل وإعطائها حقوقها إن ذلك يحقق أهدافاً كثيرة من أهمها: اعتماد المرأة على نفسها اقتصادياً، وتنويع خبراتها وتجديد علاقاتها وكسر الملل الذي تواجهه في حياة المنزل وارتفاع ثقتها واحترامها لنفسها والمشاركة بفعالية في التنمية وخدمة المجتمع. وهي دعاوى لها وجاهتها خاصة إذا تم تجاهل السلبيات على المرأة نفسها وعلى الأسرة وعلى المجتمع.
والحرية مصطلح قديم موجود في جميع اللغات تقريباً وهي من الموضوعات الفلسفية القديمة التي تحدثت عن الإنسان بين التسيير والتخيير، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه لعبدالله بن عمر بن العاص (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). وأول ما طالب به الأوروبيون هو تحرير العقل والعلم من القيود اللاهوتية والغيبية التي تضع القيود والعراقيل أمام عقل الإنسان وبحثه العلمي في الكون والإنسان والحياة، وتعتبر مقولة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) خطوة في تحرير العقل، وانطلاق التفكير المبدع واكتشاف أسرار الحياة والطبيعة التي كانت من قبل حكراً على رجال اللاهوت وموزعي صكوك الغفران ومانحي الأراضي في الجنة.
وقدم الغربيون ضحايا مختلفة من أجل حرية الرأي والفكر، فقتل بعض العلماء، وعذب البعض ودخل البعض السجون، وبمرور العقود توسع مفهوم الحرية ليشمل حرية الرأي والنشر وحرية الحركة وحرية العمل وحرية الانتخاب. كما تم التركيز على حرية السوق والحرية الدينية بما في ذلك حرية الإلحاد والإيمان. ومعلوم أن الحرية الشخصية تنتهي حيث تبدأ مصلحة الآخرين، فالإنسان حر ما لم يهدد الآخرين أو يؤذيهم. ولهذا منعت الأديان والقوانين والأعراف ما يؤثر على عقل الإنسان ويدفعه إلى إيذاء الآخرين مثل المخدرات، ومنعت المسكرات في فترات معينة من التاريخ الأمريكي، ولا تزال القيادة ممنوعة لمن يتناولون المسكر، وإذا تم القبض عليهم وهم تحت تأثيره فإنهم يودعون السجون ويدفعون غرامات مالية.
وفي الوطن العربي تنامى مفهوم الحرية مع حركات الاستقلال والتحرر من النفوذ الأجنبي، وأبرز من تحدث عن موضوع الحرية من المفكرين الرواد عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وانتقد بشدة الحكومة المطلقة التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب، ويعرف الاستبداد ص 51 بأنه (تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة). كما رأى أن في الاستبداد سبباً في إفساد الدين وانحطاط التربية والأخلاق وفيه قتل للميول الطبيعية لدى الإنسان نحو الخير، وفيه فساد الإدارة وتحطيم الروابط الاجتماعية وكان هذا الداعي للحرية ضحية للاستبداد حيث مات في منفاه في مصر مقتولاً.
ويعتبر الاستبداد داخل الأسرة من أسوأ أنواع الاستبداد، إنه يسلب النشء إرادتهم ويعودهم على الخضوع والاستسلام حتى للظلم والقهر، ونحن نرى أن الأسرة حكومة مصغرة، لها ميزانيتها ولها قنواتها في الشورى، ولها علاقاتها الخارجية والداخلية.وبعد أن استقلت معظم الدول العربية أصبح مصطلح الحرية شعاراً كبيراً يستخدم لدغدغة عواطف الجماهير واستمالتهم، وكان يصاحب رفع هذا الشعار ممارسات قمعية ومصادرة للحريات وتعذيب في السجون لمن يخالف اتجاه الحكومة أو ينتقد توجهاتها، وتحولت كثير من الصحف ووسائل الإعلام إلى أبواق دعاية لتلك الشعارات الزائفة والخادعة. ويدل على ذلك أن الوطن العربي لم يشهد تسليم سلطة من زعيم سابق إلى زعيم لاحق طوعاً واختياراً إلا في حالات نادرة جداً، وفي بلدين هما لبنان والسودان.
وكانت حرية المرأة وحقوقها من ضمن القضايا المبكرة التي طرحت بعد الاتصال بأوروبا في القرن التاسع عشر، يقول عبدالرحمن الجبرتي في كتابه (عجائب الأخبار في تاريخ الممالك والأمصار)، واصافاً تلك المرحلة الانتقالية (لما حضر الفرنسيون إلى مصر ومع بعضهم نساؤهم كانوا في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الملونة، ويسدلن عن مناكبهن الطريح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير). لقد كان خروج الفرنسيين إلى الشوارع مع نسائهم أمراً ملفتاً للانتباه، وخاصة أنهن خرجن بزينتهن وبملابسهن الملونة، وربما كان ركوبهن للخيل والحمير من الأمور التي لم تكن مألوفة عند المصريين، فركوب تلك الدواب كان خاصاً بالرجال، رغم أن المجتمع المصري مجتمع فلاحي، والمرأة تشارك في الحياة بقوة، وربما كانت تركب تلك الدواب في الأرياف، وتتجنب ذلك في المدن.
وكان رواد بعثات محمد علي من أوائل من طرح قضية حرية المرأة ودافع عنها، فقد دعا الطهطاوي إلى تعليم المرأة، وبين الفوائد المختلفة لها وللمجتمع من جراء ذلك، ورغم ذلك لم تفتتح أول مدرسة للبنات في مصر إلا في عام 1873م، وكانت البلاد تعاني في تلك الفترة من الحروب والاضطرابات والتناحر والجوع والخوف.وبعد الطهطاوي توالت الدعوات إلى تحرير المرأة من الجهل، ومن الذين دعوا لذلك أحمد فارس الشدياق في كتابه (الساق على الساق) وعبدالرحمن الكواكبي في كتابه (أم القرى). ويعتبر قاسم أمين حامل لواء تحرير المرأة، ومن أجل ذلك لقب ب (محرر المرأة)، وقد أصدر حول هذا الموضوع كتابين: أحدهما بعنوان (تحرير المرأة) وقد صدر في عام 1899م، والثاني بعنوان (المرأة الجديدة) وقد صدر بعد تحرير المرأة بسنة فقط، وقد ربط قاسم أمين في كتاباته اضطهاد المرأة بالاستبداد السياسي، وكأنه في ذلك يتبع خطى عبدالرحمن الكواكبي في نظرته للاستبداد، ومن آرائه التي أثارت جدلاً واسعاً ولا زالت نظرته إلى أن حجاب المرأة دخيل على الإسلام، وأن تعدد الزوجات ناجم عن انتشار الرق، ودعا المرأة إلى النزول إلى ميادين العمل، مستنداً في ذلك إلى نصوص من القرآن والسنة المطهرة وسير الصحابة، ومما قاله في هذا الصدد في ص12 من كتابه تحرير المرأة: (من احتقار الرجل للمرأة أن يملأ بيته بجوار بيض أو سود أو بزوجات متعددات.. وأن يطلق الزوج زوجته بلا سبب.. وأن يقعد على مائدة الطعام وحده ثم تجتمع النساء من أم وأخت وزوجة ويأكلن ما فضل منه.. وأن يحال بينها وبين الحياة العامة..).ويجب الا يغيب عن الذهن أن قاسم أمين عاش في فترة كان فيها التسري وحيازة الجواري والإماء منتشرة، وخاصة في بيوت علية القوم في مصر، وفي مقدمتهم محمد علي وأبناؤه، أما قوله بأن الرجل يطلق زوجته بلا سبب فهو قول عار عن الصحة في معظم الأحيان، ولا أعتقد أن هناك رجلاً يطلق زوجته بلا سبب إلا إذا كان فاقداً للعقل، ولكن الحياة الزوجية يحوطها كثير من الأسرار، فقد يطلق الرجل زوجته لسبب لا يعلمه إلا هو، أما وجاهة السبب فأمر يختلف تقديره من شخص إلى آخر.
ومما يجدر ذكره أن قاسم أمين قد تراجع وأسف على دعوته، وقد قال قبل وفاته بعام ونصف - كما جاء في مجلة (الاعتصام) عدد رمضان 1399هـ - ما يلي: (لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب.. وإلى اشتراك النساء في أعمالهم ومآدبهم وولائمهم.. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن.. وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي) ومما يجدر ذكره كذلك أن زوجة قاسم أمين بقيت ملتزمة بحجابها محافظة عليه إلى أن ماتت.
وتزايدت المطالبة بحرية المرأة وخروجها للحياة العامة في القرن العشرين، وهناك من اندفع لتأييد حرية المرأة بدون حدود، حتى فيما يجرح الحشمة والحياء ويزري بالإنسان ويهبط به إلى مرتبة أقل من مرتبة الحيوان، فالله قد شرف الإنسان بالعقل وخلق له الشهوة مثل الحيوانات الأخرى.
فإذا تحكم عقله في شهواته ارتفع فوق مرتبة الملائكة الذي جعل الله لهم عقولاً وانتزع منهم الشهوات، وإذا تحكمت في الإنسان شهواته هبط إلى مرتبة أقل من الحيوان الذي لا عقل له.
ولا تزال المعركة قائمة حول قضية المرأة، وستظل كذلك إلى ما شاء الله، ومما يؤسف له أن هناك أناساً يتاجرون بقضية المرأة ويركبون الموجة الغربية دون تفكير أو وعي بأخطارها وما جنته على المرأة وعلى المجتمع في الغرب نفسه، ومن ذلك تحطيم الأسرة واستغلال المرأة كسلعة تباع وتشترى كرقيق أبيض وكأداة لتسويق المنتجات والسلع، وما فقدته المرأة من جراء ذلك من أمن واستقرار وطمأنينة، وما آل إليه وضعها حتى نشطت حركات نسوية لتصحيح مسار وضع المرأة واستعادة دورها الطبيعي في المجتمع والحياة. وسوف نعرض لوضع المرأة في الغرب بشيء من التفصيل في لقاء قادم إن شاء الله.

فاكس: 012283689


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved