.. إن انفساح الذهن لاستقبال الحقائق المدعومة بالأدلة والبراهين هو علامة نضج حضارية تعكس شخصية متطلعة لا تقبل التقليد الأعمى، ولا المتابعة الأوتوماتيكية لكل ما مضى وسلف.. إذ دائماً تعشق هذه النفس المتطلعة ما يرتقي بنفسها وبمجتمعها يحدوها في ذلك (أن الحكمة هي ضالتها التي ينشدها كل ذي لبّ رجلاً كان أو امرأة).
.. وإذا كنا نؤكد على أهمية تربية العقل وإعداده للسياحة في جنبات الكون وآلائه ليدعم مهاراته ومعلوماته، ذلك أن الحقائق مشاعة في الكون على سعته وليست ملكاً لأحد،.. فإن انغلاق الفكر وجموده هو أولاً: مخالفة لنهج الإسلام الذي يربينا على السير في الأرض، والتفكير في عظيم صنع الله وآلائه ومخلوقاته لنفيد ونستفيد.. ثانياً فإن العزلة الفكرية دائماً ما تؤدي إلى الفردانية والأنانية والاحتداد، ومن ثم التسمم، ذلك ان حاجة العقل إلى التواصل والعطاء بالضبط كحاجته إلى الزفير والشهيق، وإذا توقف تنفس الإنسان أصيب (بالجلطة القلبية فمات، وإذا ما أقنع العقل عن التواصل أصيب (بالجلطة الفكرية) فتجمد ثم انتهى حتى ولو كان حياً.. إذ ليس من مات - كما يقال - فاستراح بميت.. إنما الميت ميت الأحياء..!! وهكذا فتوقف الإنسان عن التواصل والتفاعل يعيق معنى الحياة ومفهومها، فالإنسان يعني (الإنس) ولن يستطيع الإنسان أن يحقق هذا المعنى بمعزل عن بيئته وأفراد مجتمعه!!
... والمتأمل لسلوكيات العنف والإرهاب يجد أن (الفكر المتأزم) دائما ما يقف خلف مجمل السلوكيات المتوحشة واللاإنسانية التي وقعت وتقع سواء داخل بلادنا أو خارجها. ويؤكد المتخصصون في علوم الإنسان (الاجتماع والنفس) بأن (أفكارنا دائما توجه سلوكياتنا).. ولذلك من الاستحالة أن ينشأ عنف بهذا الشكل تجاه أناس مؤمنين بالله واليوم الآخر فيكونون ضحايا (التفجير والتكفير أو غيرها من أساليب العنف إلا أن القائم بهذه الأفعال لديه من الأفكار غريبة الأطوار ما جعله يقدم عليها!!، وبالتالي فسوء الفكرة أفرز سوءاً في العمل وأي سوء يلحق ذلك الشخص الذي يتّم أطفالاً بريئين ورمل نساء في مقتبل حياتهم، وأساء لمجتمعه وشوه دينه، ومن ثم أزهق باختياره نفسه التي أمر الله بحفظها وعدم إلقائها للتهلكة{ِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة (195) إنه في عمق الحقيقة سلوك من التوحش يخالف حقاً معنى الحياة البشرية التي أمرنا أن نعمرها بالخير والعدل لا بالتفجير والتكفير والقتل!!!.
.. وإذا كنت أعتقد بأن (الخلل الفكري) الذي يحمله أولئك الذين ضلوا الطريق، فإن إعادتهم للصواب تحتاج إلى لافتات واضحة حتى تعاد بوصلة تفكيرهم إلى الاتجاه الصحيح، ومن هنا فإن توحيد الجهود سواء الرسمية أو الأهلية والتطوعية لتصحيح هذه الأفكار الدخيلة والغريبة على مجتمع هو قلبه الإسلام والمسلمين يعد فرضاً ولازماً على كل مستطيع أباً كان أو أما أو معلماً أو خطيباً أو صاحب مسؤولية على أي وظيفة وفي أي مؤسسة حكومية كانت أو أهلية.
.. إن شيوع فكرة الرفض لهذا الفعل المشين لا تكفي إذا لم يكن هناك من الجهود ما يتبنى نشر فكر الاعتدال وفكر العطاء والغيرة على مكتسبات هذا الوطن الذي أراد الله أن يكون قلب الأمة النابض ومنبع الخير فيها ومأواه.. وكيف يمكن أن نتصور حال الجسد إذا كان القلب معلولاً!!؟
.. إن الحاجة إلى تأصيل فكر ناضج وحضاري وفاعل هي مهمة ووظيفة كل مستطيع بفكره وقلمه ولسانه وتعامله ومختلف مسؤولياته.. نخاطب.. في ذلك الرجل والمرأة على السواء.. وذلك الفكر الذي نريده ونحتاجه يجب أن يتأسس إجمالاً على ثلاثة مرتكزات لا حيدة عنها هي أن هذا الفكر:
أولاً: ينطلق من الحق.ثانياً: يستهدف الحق.ثالثاً: يتبنى الحق.
.. والمتأمل لأحوال أولئك الذين خالفوا هذه المرتكزات أنهم متحجرون.. فلا يقبلون إلا الشيء الذي يرونه، ولا يسمعون إلا ما يهوونه، ويقرؤون ولا يستشهدون إلا بما يعمق الخلل في عقلياتهم، وفي ذلك مخالفة لتوجيه القرآن الكريم إذ يقول الحق سبحانه الذي دائماً ما يدعون إلى تبني الحق وطلبه والتطلع إليه في محكم التنزيل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر.. وبناء على هذه الارضية المتمحضة فإنه من الاستحالة بمكان أن يكون ذلك الشخص الذي أخلَّ بكل المسلمات الدينية والأعراف الاجتماعية والمكتسبات الوطنية فراح يفجر أو يكفر أو يشق عصى الطاعة، ثم يزهق نفسه فينتحر (أن يكون سليم الفكر بتاتاً!!.
... ومن هنا فإن الدعوة اليوم ماسة إلى عملية إصلاح فكري وتنظيف لهذا (التسمم العقلي) بكل المطهرات المتاحة بدءاً بتضميد الجراح وانتهاء باستئصال الفاسد المفسد منها حتى يعود الجسم نقياً تقياً يستشعر عظم المسؤولية تجاه ربه ومجتمعه ونفسه بل والعالم بأسره.
.. هذا ولا يجب أن يكتفي المجتمع بعملية التنقية هذه، بل إن مشروع الإصلاح الذي نطلبه ونتمناه يجب أن يمسّ مختلف شؤون حياتنا ومجالاتها.. ولكنها ابتداء يجب أن تتمحور حول تربية مهاراتنا في التفكير السليم من جهة وقدرتنا على تنشئة جيل يتمتع بالاتزان الفكري الذي اعتقد أن مناهجنا التعليمية أحوج ما تكون إلى تبنيه.
.. ومن الأهمية بمكان ألا يعتمد مشروع الإصلاح الفكري التربوي المنشود على ارضية قشرية تكتفي بمظاهر شكلية في مادة الوطنية، وإنما نريد أن يستهدف هذا المنهج الإنسان السعودي منذ نعومة أظافره لانتقاء مدخلاته العقدية والثقافية والمعرفية معتمدين في ذلك على إثارة مهارات التفكير وملكات الذهن ليربي فيه الثبات على المسلمات، والتعامل الحضاري مع المتغيرات.. كل ذلك من أجل إيجاد جيل لا يعتمد فقط على حفظ الكتب المدرسية بل يستخدم (روح المنهجية) في القبول والرفض والأخذ والعطاء والحب والكره وغيرها من مستلزمات روح حياتنا العصرية.
.. إن مفترق الطريق الذي يعيشه واقعنا يتمثل في أن نترك الأزمة الفكرية المختلَّة لتقود مسيرة الحياة إلى حيث التشتت والتفكك والانهزامية، وبين أن تكون أكثر شجاعة في حصر وحصار هذا التلوين الفكري والثقافي في أي مجال من مجالات حياتنا.. ذلك ان شجاعة المواجهة هي شرط أساس لتصحيح المسار إلى حيث البناء من جهة، ومواجهة العقبات والتحديات من جهة أخرى.
.. وفي تقديري أننا اليوم أحوج ما نكون إلى أن نشرع بطرح (فكر تنويري) يعتمد على رؤية منهجية مؤسسية من خلال نخبة من المتخصصين ذوي الخبرة والعطاء في العلوم التي تخدم مسار حياتنا كلها.. لا أن نحتكم فقط في مجريات حياتنا ومتطلباتها إلى أقوال فردية قد (لا تحسن فقه قراءة المكتوب فضلا عن فقه قراءة المطلوب) في الإصلاح والاتزان والتفاعل الاجتماعي.
.. ولعل من خطوات بث هذه (الحركة التنويرية) ان نتبنّى (محاضن لتنمية التفكير وآلياته) سواء في مؤسساتنا التربوية (المدارس والمعاهد والجامعات) أو من خلال مؤسسات مختصة تراعي هذا التوجه تحت مسمى (نوادي المفكرين) إذ من الحق أن يكون للمفكرين من يرعاهم بل ويعمل على تربية معنى التفكير السليم في المجتمع بمختلف فئاته.. وبلادنا والحمد لله غنية بمؤسسات ترعى الرياضيين والأدباء والفقراء والاقتصاديين ولكن السؤال المطروح.. (من للمفكرين)!!!. ومن يتحمل فراغ هذه المسؤولية التي يصطلي المجتمع بعدم حمل أمانتها...!! وليس بقليل أن يحظى أصحاب الفكر ورواده.. بل ونشره بمؤسسات متخصصة تعمق فينا وفي أجيالنا قيمة الفكر ودوره في مجمل أحداث الحياة. وهذه النوادي الفكرية قمينة بحماية أجيالنا من (الاسترقاق الفكري) ومعوقات التفاعل والنهوض الحضاري.
(Think Tanks)
... وأختم أخيراً متوجهاً بالشكر والتقدير لمن يقف خلف كل جهد يؤسس لتوحيد الكلمة، ويشجع على خلق التفاعل والتضامن بين أبناء هذا البلد المعطاء، وأجدها فرصة أن أحيي جهود المخلصين والمخلصات على تبني رعاية كل من كان ضحية لفكر الإرهاب والخراب الذي يوشك بإذن الله أن تنقشع سحابه عبثه وإخلاله { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (17) سورة الرعد. صدق الله العظيم
* عميد خدمة المجتمع - جامعة القصيم
|