عادة ما توحي كلمة قضية أو قضايا بتلك الأمور الكبيرة إن لم تكن الخطيرة والمعقدة التي يخرج أمر الحديث عنها ناهيك عن البحث في حلولها عن طاقة الفرد العادي لتُرمى برمتها على عاتق من تعارف على تسميتهم بأهل العقد والحل من عليّة القوم وسراتها بلغة الأمس، أو بالنخب الاجتماعية والسياسية والإدارية وأصحاب القرار بلغة اليوم.
ولكن إذا كان يقال في أمر الحرب وهي واحدة من أصعب القضايا، إن لم تكن أعقدها، التي عرفتها وتعرفها المجتمعات البشرية تاريخيا وفي الوقت الحاضر وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها بأنها، أي الحرب، قضية أخطر من أن تترك في يد (الجنرلات) فإنّ هذا القول أدعى لأن ينطبق على تلك القضايا اليومية (الصغيرة) التي تمس حياة الناس أو شريحة من الناس. فأصحابها هم الذين يعرفونها حق المعرفة بخبرة المعايشة من خلال لمسها لمس اليد بالحواس الستة إن لم يكن من خلال الاكتواء بآمالها وآلامها معاً، مما قد تغيب تفاصيله عن نظر (أهل الحل والعقد)، أو قد لا تخطر على بال المخططين والمشرعين والمقررين والخبراء حتى وإن خالوا الموضوعية وخولتهم الخبرة والتخصص لحمل أمانة المسؤولية في تحديد ما يشكل قضايا اجتماعية وفي طرح الحلول. وربما يشكل هذا الموقف أحد الأسباب التي جعلت لتطور المجتمع المدني والعمل على بناء مؤسساته وتفعيلها ضرورة في المجتمعات المعاصرة لشراكة اجتماعية واسعة بين القطاعات الأهلية وبين القطاعات الرسمية يتحمل فيها المجتمع بمختلف شرائحة السكانية، بغض النظر عن تباين أو توافق مواقفها السياسية ومواقعها الاجتماعية، مسؤولية المساهمة في تحديد القضايا على تنوعها وتعدُّدها التي تشغل كافة الشرائح الاجتماعية، كما يتحمل مسؤولية تحري الحلول والالتزام بشروط وضعها موضع التنفيذ بما في ذلك شرط عدم التردد في النقد والمراجعة.
والحقيقة إنّ أحد دواعي هذا الموضوع وتداعياته هو أنه ما نُشر موضوع الأسبوع الماضي عن (تقوقع عدد من الكتّاب (ولست إلاّ من غزية) في أبراج نائية بعيداً عن إيقاع الحياة اليومي) إلاّ وانهالت على بريدي الالكتروني العديد من (الإيميلات) أو الرسائل التي صارت تشدني من كل حدب وصوب من قلب الجوف وعيون عرعر إلى تاروت وتهامة ورماح وملهم والليث وبحرة والعلايل، ومن جدة والظهران والرياض كلٌّ يقترح مواقع على الصحافة والكتّاب لتكون محطات ينزلون على أرضها من وحشة الأبراج. وكأن هؤلاء القراء الأعزاء مثلي قد صدقوا أننا معشر الكتّاب خاصة من الأكاديميين والرومانسيين قابلون أو قادرون وإن رغبنا على أن نُشفى من مرضنا العضال في التنظير وفي سكنى المكاتب أو الأبراج بمجرد كتابة مقال ينتقد عزلتنا المزمنة.
غير أنني لا أنكر تأثُّري الشديد بكثير مما كتبه القراء وإن كنت بهذا التعبير (ويحاً لي أبدو وكأنني أقلِّد تصريحات كبار المسئولين من رجال الأعمال وبعض الوزراء), فقد قرأت في تلك الرسائل عن أحياء لا تدخلها الشمس وعن شوارع لا يمر فيها الهواء, وعن مرضى يموتون ولم يصلهم الدور في مواعيد العلاج, وعن خريجين وخريجات في تخصصات علمية من الهندسة الكيميائية إلى الكيمياء العضوية عاطلين عن العمل لعدة سنوات دون أن يكون في أنظمة وزارة العمل نظام لصرف أيّ إعانة شهرية للعاطلين عن العمل بالسنوات، وعن نساء بالغات راشدات لا يسمح لهن أولياء أمورهن بالزواج لأنهن المعيلات الوحيدات للأسرة, وعن أساتذة جامعات يعطون دروساً خصوصية للطلاب لزيادة دخلهم الشهري المحدود بضع ريالات إذا أخفقوا في تدبر أمر إعارة أو استشارة تساعدهم على الوفاء بالتزامهم في تقسيط بيت وسيارة ليس من (برستيج) الدكترة أن يعلم العامة أنها بالتقسيط، وعن قضايا قضائية يستغرق البت فيها أعماراً أو يبت فيها بأقل مما تستحقه من تحقق لا لعيب لا سمح الله في القضاء ولكن لأنّ مجتمعاً يقارب تعداده السكاني 16 مليون نسمة لا يزيد عدد القضاة فيه عن 600 قاضٍ أو نحو هذا العدد. كما قرأت في تلك الرسائل الإلكترونية (على ذمة مرسليها) عن زوجات وأخوات شابات عاقلات في حالة صحية جيدة يحولهن أزواجهن أو إخوانهن إلى دار رعاية المسنّات في حالة الرغبة في التخلص منهن دون أن يكون هناك من القوانين والأنظمة ما يمنع مثل هذا التصرف بحق المرأة من قِبَل وليِّها، وتحدثت أيضاً تلك الرسائل عن معونات ضمان اجتماعي للمعاقين لا تكشف في شحها وعدم تقديرها لحاجة المعاق إلاّ عن الإعاقة البالغة التي يعانيها مثل هذا النظام الذي يعامل المعاقين (المحتاجين) وكأنهم متسولون وليسوا مواطنين بأن (يقطر) عليهم من 10 إلى 3 آلاف ريال (سنوية). هذا عدا عن ما كتبه البعض عن إعانات الضمان وقد سماها (إهانات الضمان) لأنها لا تعين المواطن وخاصة من كبار السن بالقرى والمناطق النائية إلاّ على تقبُّل ذل الدوران في الدائرة الحكومية، وقد استعان بعض من راسلني بكاريكاتير الربيع المعبِّر والمزعج في آن بشأن البيروقراطية والدوائر الحكومية، علَّهم أرادوا بذلك أن يغسلوا عن عيوني وعيون ربما سواي من الكتّاب عمى العزلة بعيداً عن القضايا الاجتماعية اليومية ولكن مرة أخرى هيهات ... هيهات أن تحرجنا أو أن تخرجنا مواجع أصحاب هذه القضايا ومطالبها الاجتماعية العادلة والعاجلة عن عادة التصريحات المطمئنة والوعود بالتحسينات أو في أحسن الأحوال (العتب) الرقيق على هذا المرفق أو ذاك دون أن ننسى تذكير أنفسنا بنعمة أنّ حال تلك القضايا في مجتمعنا ليست كحالها في نكارجو أو جواتيمالا أو أوروبا الشرقية والدارفور.
قضية حوار الشباب:
وفي هذا الخضم من القضايا الاجتماعية اليومية التي لا بد أنّ كل قضية منها يحتاج الى اطلاع على تفاصيلها في موقعها الميداني لمزيد من وضع النقاط على الحروف أو رش الملح على الجروح نحو شراكة اجتماعية في الطرح وفي بحث الحلول مع أصحابها وليس مع المختصين وحسب فإنّ من باب الإنصاف والاعتزاز أن نُثني على بعض ما اجترحه الشابات والشباب في ذلك اللقاء الحواري من قضايا ورؤى. ومن ذلك المقترحات العملية مع بعض الإضافة، إيجاد صندوق للتنمية البحثية، تخصيص قسط من الريع البترولي لإنشاء مؤسسات تتيح فرص عمل للشباب، إيجاد حصة لتمثيل الشباب في عضوية مجلس الشورى, إنشاء مؤسسات حكومية وأهلية علمية وأخرى ثقافية عامة للنشاط الشبابي تُعامَل في الدعم المالي والمعنوي معاملة النشاط الشبابي الكروي والرياضي، تأصيل ثقافة الانتماء والحقوق والتسامح والحوار والتفكير العقلاني والعلمي في التعليم النظامي والجامعي، توفير الجامعات وكليات المجتمع ما بعد المدرسة في تخصصات تخدم حاجات المجتمع التنموية، إشراك طلاب الجامعات بالتمثيل في مجالس الأقسام والكليات التي ينتمون إليها للمشاركة بآرائهم من خلال تجربتهم المعاشة في تصورات التطوير الإداري والأكاديمي، التصريح بقيام جمعيات واتحاد للطلاب والطالبات.
وأخيراً وإن كنت خلافاً لبعض الزملاء الأعزاء ومنهم د. عبد الله الفوزان، أ. قنان الغامدي ود. الهرفي أرى أنّ للحوار الوطني أهمية بحد ذاته وليس في تنفيذ توصياته وحسب فإنني أرى أهمية استثنائية لتحقيق توصيات لقاء الشباب خاصة حتى لا نفقدهم في وقت مبكر جدوى اللقاء وجدوى الحوار وحتى يصير لديهم مصداقية تحمي جذوة الحماس والإخلاص من الانطفاء .. فإذا كان في رأيي ورأي كثيرين مثلي إن لقاء مختلف القوى الاجتماعية ببعضها البعض نقاشها وتحاورها مع بعضها البعض وتعلُّم شجاعة الكلام الصريح والإصغاء المتبادل هو مكسبٌ وطنيٌّ بحد ذاته فإنّ هذا المكسب يكتسب المزيد من التأصيل والالتفاف حوله بمبادرة وضع توصيات الشباب موضع التنفيذ بشراكة رسمية وأهلية يداً بيد. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|