Wednesday 15th December,200411766العددالاربعاء 3 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

مركاز مركاز
مثل الطعام
حسين علي حسين

اكتشفت بعد طول مران على القراءة الثقيلة والخفيفة والمعدومة الوزن والدائمة، اكتشفتُ أن الكتب مثل الطعام، فأحياناً تشتاق إلى وجبة فول، وأحياناً مطبق، وبعض الناس تهفه نفسه إلى وجبة كوارع، وهناك مَن يشتاق فجأة إلى واحدة من تلك الأكلات الوافدة المليئة باللحم والدهن والبهارات. الكتب لها نفس الخصيصة، فإذا كنت من هواة قراءة الرواية سوف يأتي عليك وقت تشتاق فيه إلى قراءة القصة أو المسرحية، وستبحث عما يحقق لك هذه الرغبة في المكتبات ولدى الأصدقاء، حتى تعثر على مسرحية حداثية لصمويل بيكت، أو كلاسيكية لتشيخوف، أو واقعية من تلك التي تقدم نقداً لاذعاً للبرجوازية؛ مثل مسرحيات بريخت وميخائيل رومان ولطفي الخولي.
حتى أولئك الباحثون الذين لا يسمحون لأنفسهم بالخروج عن خط ما يشتغلون به من أبحاث ودراسات تجدهم بين وقت وآخر وكأنهم في فسحة مدرسية، يبحثون عن شيء يخرجهم عن الروتين أو الدرس، فيدخلون ذات مساء مسرحية أو فيلماً، وهم يتوقون في بلد مثل بلادنا إلى سهرة شاملة تضم الأسرة، لكنهم في الغالب لا يجدون لتحقيق هذه الرغبة سوى التحلق أمام الدش أو الفيديو، إنه - بطريقة ما - خروج عن المألوف.
وأبقى مع نزواتي الخاصة، تاركاً للآخرين تدبير نزواتهم، فقد حرَّكني الجدل العارم في صحفنا، حتى لتظن أن أحداً لا بديل لديه عن التوقف إلا بدخول الطرف الآخر طائعاً مختاراً فيما يريده غريمه، وبذلك وحده سوف يتحقق المراد، لكن الحقيقة أنه لا أحد لديه الاستعداد لتغيير ما يعتقد أو يرى أنه الصواب، وسوف تشعر بالإشفاق وأنت ترى مَن يميل متبتلاً على شمعة أو تمثال أو نهر أو نار أو حيوان، لكنك في النهاية لا تملك إلا أن تحترم رغبته، ففي النهاية هذا خلاصه وماله. من هنا قرأتُ في قت ما كماً من الكتب العقائدية حتى اعتقدت صادقاً أنني تأهَّلت لهؤلاء الذين يتصارعون كالديكة في المحطات الفضائية وعلى الصحف وموجات الأثير، لكنني اكتشفتُ لاحقاً أن الطحن لا نهاية له، فقررت تغيير البوصلة، تاركاً الجميع يحلون أمورهم بعيداً عني، خاصة أن أياً من هؤلاء لم يتحدث ولو عرضاً عن حل مشكلة البطالة والطلاق وغلاء المعيشة وأزمات الشباب، وهي أمور صارخة لا تقبل أنصاف الحلول، وجنحوا جميعاً إلى أمور لم تحل على مدى مئات السنين، معتقدين أن بإمكانهم حلها الآن.
ولم أبعد كثيراً، فقد توغَّلتُ مجدداً في التاريخ الاجتماعي، تاركاً التاريخ الآخر لأهله، فوجدتُ كم هي حياتنا الاجتماعية من العصر الإسلامي حتى الحاضر، مروراً بالأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين، حتى المماليك والأتراك، وجدتُ موائد عامرة وفناً وطرباً وشعراً وأزياء ورياضات متنوعة.
ولك أن تقرأ: النجار وعويس وألف ليلة وابن إياس والجبرتي والقلقشندي لترى كم هذه الأمة غنية بأهلها وتراثها، لكنها دائماً أمة جدل، وهذا ما جعل منجزها على مدى العصور دون غيرها من الأمم التي نفضت نفسها بعد ممات؛ مثل الأمة الأوروبية واليابانية، وبقينا نحن حيث نحن، لا يلفت نظرنا خلو عالمنا العربي والإسلامي من المخترعات والصناعات قدر ما يلفت نظرنا عباءة قصيرة أو ثوب طويل.
وفي الأسبوع الماضي أعادني عبد العزيز السويد إلى قشر الموز، وما أكثره في حياتنا، وقد خفَّف كتابه الموسوم بهذا الاسم كثيراً من آلامي؛ فقد وجدتُ أخيراً مَن توصل إلى قشر الموز وأفاعيله في حياتنا العامة، فهذا القشر في باطنه فائدة عامة وخاصة، أما العامة فهي زحلقته للعديد من خلق الله المزعجين، الذين يطرقون الأبواب بحثاً عن حقوق لا يستحقُّونها، لذلك فإن الزحلقة أولى بهم، وما زالوا يتزحلقون حتى الآن، وهم يبحثون عن مصلحة عامة أو خاصة, وظيفة أو علاجاً أو مد طريق أو إدخال هاتف.. ومَن يزحلقهم غالباً لا يزحلق غيرهم، فلديه مخزون ممدود سوف يوجهه لمَن يستحقونه من ذوي الحيثية ومن الأهل والأصدقاء، حتى ولو كان الواحد من هؤلاء متخماً من كل شيء، فهو موظف ومحترف أسهم وعاقد أنكحة وبائع في معارض السيارات، ولديه - اللهم لا حسد - بدل البيت الواحد ثلاثة بيوت، هذه الفئة لا تشملها - ولن تشمل - زحاليق عبد العزيز السويد!
إن عبد العزيز السويد آخر نزواتي، فقد قرأتُه واستمتعتُ وتشفيتُ في محرِّكي قشر الموز، الذين نجدهم الآن ليس في حياتنا العامة، ولكن في الحياة الدولية من أفغانستان والعراق حتى أوكرانيا.. وبقيت لي فائدة خاصة مع قشر الموز، وهذه الفائدة لم يتطرق لها عبد العزيز السويد، ربما لأن كاتباً مثله يضن على الناس بذكر الفوائد، والدليل أن رحلته كلها دبابيس * دبابيس، وأبرز هذه الدبابيس القول بأن مناهجنا كانت طيبة وبريئة، وليس لها من هدف إلا أن ترسم البسمة، وتعطي المعلومة مهما كانت بريئة وفارغة، أما الآن فقد امتلأت الكتب بالمعلومات والدبابيس، حتى أصاب أبو ظهر أو ظهير أكثر أطفالنا، ونرجو الله ألاَّ يضطر الآباء إلى شراء عكاكيز لأبنائهم الصغار خاصة!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved