همس جورجي آباتوف (مستشار غورباتشوف) في أذن أحد كبار المسؤولين الأمريكيين قائلاً: (إننا نصيبكم بخطب جلل إذ نفقدكم العدو!).
نشوة النصر في حينه لم تتح مجالاً لاستشعار الأمريكيين لهذا الخطب الجلل. لكن الوقائع بينت لاحقاً أهمية وحيوية وجود عدو لأمريكا. إذ إنها تكاد لا تقوى على الاستمرار بدون وجود عدو ما!
فالسياسة الخارجية الأمريكية تخضع لجملة ثوابت استراتيجية تنطلق منها في تحديد تعاملها مع الآخر (أي في تحديد ملامح سياستها الخارجية).
ولعل أشهر نقاد هذه الثوابت المستشعرين لأهمية وجود العدو هو صموئيل هنتنغتون في مقالته (تآكل المصالح الأمريكية) المنشورة في مجلة (شؤون خارجية) الأمريكية الواسعة التأثير The Erosion of American Interest
حيث أكد أن انفجار أوكلاهوما لم يكن ليحصل لو كان للولايات المتحدة عدو خارجي. وهو بذلك بدا وكأنه يحذر من أن غياب العدو يستتبع انفجار الفوضى الداخلية. وبدا كلينتون مقتنعاً بهذه الفكرة فراح يصنع الأعداء (في غياب عدو حقيقي معلن) ويفتعل المواجهات المحدودة الثمن الاستراتيجي ويستغلها اقتصادياً، فبدا وكأنه يصدّر الفوضى إلى الخارج.
وتوالت الترشيحات الأمريكية لمنصب العدو الأمريكي. فرشح هنتنغتون كلاً من الإسلام والكونفوشيه كعدوين حضاريين. أما جاك آتالي، ومعه قائمة من الاستراتيجيين فقد رشح الاتحاد الأوروبي لهذا الدور. ورشح بعضهم الاتحاد الروسي (الناجم عن التقاء روسيا مع بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة). في حين أصرّ آخرون على ترشيح الصين ولكن بطابعها القومي وليس الكونفوشي. وأغرق بعضهم في التنظير فاعتمد مبدأ أن القطب الجديد يجب أن يكون غير متحضر وغير متوقع فكان ترشيح أفريقيا لدور العدو (خاصة بعد مشاكل جنوب أفريقيا العنصرية).
زبيغينو بريجنسكي من جهته رأى الخطر في الحزام الأوراسي داعياً لتركيز الجهود الأمريكية عليه. اليابان بدورها وجدت من يرشحها وان كانت قد أعلنت استقالتها. ولا نغفل في سياق الترشيحات ترشيح نيكسون لأستراليا ولكن كوريثة للولايات المتحدة وليس كعدو؟!.
أحداث 11 أيلول جاءت لتثبت واقعية تحليل هنتنغتون وتوقعه انفجار الفوضى الداخلية في غياب العدو الخارجي، كما أثبتت هذه الأحداث مهارة كلينتون في اختلاق الأعداء واختراعهم كحجج لتصدير الفوضى الداخلية ومنع انفجارها، الأمر الذي طرح السؤال عما إذا كانت أحداث الثلاثاء لتحدث لو كان للولايات المتحدة عدو خارجي؟
والجواب هو: لا، قاطعة ومؤلمة لإدارة بوش، فأياً كانت الجهة الفاعلة فإن وجود العدو كان سيستوعبها، فوجود العدو المعلن يقضي أو يقلل من قدرة تحرك الأعداء المستترين، بل إن الحاجة الماسة والطارئة للعدو جعلت الولايات المتحدة تقبل بإعطاء هذا الدور لبن لادن! بما في هذا القبول من إحراج وانتهاك للهيبة الأمريكية.
فقد كانت أمريكا بحاجة ماسة وحيوية إلى متهم جاهز يساعدها على ضبط الفوضى اللاحقة لمثل هذه الأعمال، حيث كان من المحتمل أن يقوم الفرقاء الداخليون المعادون للحكومة الفيدرالية باستغلال الموقف الفوضوي ليقوموا بعملياتهم وليتحركوا باتجاه تحقيق أهدافهم.
واستناداً إلى حادثة أوكلاهوما فإن الجمهور الأمريكي يشك بالشرق أوسطيين وهو بالتالي يقبل اتهامهم دون تفكير أو مناقشة، ما جعلهم متهماً جاهزاً لإنقاذ أمريكا من احتمالات اندلاع فوضاها الداخلية. وبات لزاماً على إدارة بوش أن تعود إلى أسلوب كلينتون في تصدير الفوضى إلى الخارج. لكنها صدرتها بعد انفجارها وهنا الخطورة.
لكن ماذا عن آثار هذا التصدير المتعجل وانعكاساته الجانبية؟ وهل يمكن أن يكون هذا التصدير بمستوى خطورة الفوضى الداخلية نفسها؟
لا شك في أن التصدير يقي أمريكا ويلات كثيرة أهمها الويلات الاقتصادية.
فلو بقيت الفوضى داخلية لانهار الاقتصاد الأمريكي دون رجعة، إلا أن هذا لا يلغي الآثار الجانبية المرة لهذا التصدير المتسرع ومن هذه الآثار التالية:
1 - تهديد الولايات المتحدة الذاتي لمصالحها النفطية. إذ إن اتهامها لبن لادن ومن ثم لصدام حسين أثار مسألة تواجدها في منابع النفط وهدّد هذا الوجود بدعم شعبي لمعارضيه.
2 - اصطناعها لصدام حضاري مع الإسلام يحيد بل يشل قدراتها المتفوقة.
3 - اختزال العدو الحضاري للأمة الأمريكية بأفراد! وإقامة تحالف دولي ضد أفراد؟
4 - التورط العسكري مع عدو ليس لديه ما يخسره، لذا فهو راغب في استدراجها إلى حرب عصابات لا تدع مكاناً لممارسة التفوق التكنولوجي.
5 - عدم إمكانية حسم مثل هذا النزاع بما يليق بالتفوق الأمريكي وعضلاته. وهذا ما يتبدى اليوم بالعجز الأمريكي عن حماية العراق وحلفائها العراقيين.
6 - أزمة إيجاد القرائن القانونية الحاسمة لإثبات التهم على ملكية العراق لأسلحة الدمار الشامل وعلى مسؤولية بن لادن وتنظيمه.
7 - التساؤلات التي تتوالى مثل كرة الثلج حول التقصير الأمني الأمريكي، فلو كان العدو أكبر قياساً لاجترحت الأجوبة والتمست الأعذار للتقصير الأمني. أما أن يكون العدو شخصاً فرداً ويتمكن من تحقيق كل هذه الاختراقات فإن ذلك يعني غياب الأجهزة الأمنية عن الوعي وفقدانها له بما يستتبع سلسلة من التحقيقات والمحاكمات غير ممكنة التجنب، مع ما تنطوي عليه من إحراجات وتهديدات لاحقة للأمن الأمريكي.
8 - إثارة المعتقدات الضمنية عند العرب والمسلمين. وهذا النوع من المعتقدات يكون في العادة فردياً وضمنياً وغير ممارس. مع قناعة بعدم اتساع دائرة المؤمنين بهذه المعتقدات الضمنية، فإذا ما جاءت قضية بن لادن انفجرت هذه الاعتقادات لتعلن العداء للولايات المتحدة.
أمام هذه الوقائع بات على الولايات المتحدة أن تنقذ علاقاتها مع العرب والمسلمين. أقله حفاظاً على مصالحها معهم وذلك بحيث أصبح من المستحيل على إدارة بوش الاستمرار في سلوكها الموحي برغبتها في تغيير خارطة المنطقة أو أقله بإعادة إحياء حلف بغداد جديد. وكذلك أصبح التفكيك العنقودي لدول المنطقة أكثر صعوبة. لكن العودة إلى التحليل النفسي لبوش الابن وديك تشيني تظهر أن عنادهما قد يدفع بهما لركوب مخاطر هذه الحلول المستحيلة، لكن أزمة الاقتصاد الأمريكي ستكون الرادع لتنفيذ مثل هذه السياسات (نذكر هنا بضعف الدولار وبعجز الموازنة الأمريكية ب455 مليار دولار وضعف التدفق النقدي للسوق الأمريكية وتكاليف البقاء في العراق الخ) فخلاص الولايات المتحدة من الانهيار مرتبط بالنفط العربي. فهو الدماء التي يحتاجها هذا الاقتصاد كي ينجو من الموت، والمأزق الأمريكي الراهن هو العجز عن الحصول على هذه الدماء بالقوة. حيث تفجير أنابيب وآبار النفط مرشح للامتداد إلى دول نفطية أخرى (نيجيريا والسودان مثلاً وحالياً) وكذلك تفجير المصافي وناقلات النفط وغيرها. من هنا القول إن قدرة العرب على المفاوضة المرنة هي التي ستحدد المتغيرات الاستراتيجية الأمريكية - العربية واتجاه هذه المتغيرات التي تدعم الطروحات القائلة بالعجز الأمريكي عن الاستمرار في مسلسل حروبها المزمعة وعن تنفيذ تهديداتها ضد دول المنطقة (سوريا وإيران). وذلك لأسباب متداخلة أهمها التالية:
1 - إن أمريكا بوش فقدت مصداقيتها في المنطقة والعالم عندما تحدت في حربها العراقية كل أصدقائها وكل مصالحهم. مع تحديهم وتحدي الشرعية الدولية المتمثلة بمجلس الأمن الدولي.
2 - إن الوضع العسكري الأمريكي في العراق طرح إشكاليات نقص عديد الجيش الأمريكي. حيث لا تملك أمريكا الأعداد الكافية من الجنود للبقاء في العراق. فما بالنا لو هي أرادت شن حرب أخرى.
3 - فشل إدارة بوش في تحدي الثوابت الإستراتيجية الأمريكية السابقة لإدارة بوش. وأهمها: عدم خوض حربين في آن معاً. وعدم خوض حروب غير محددة النهاية. وعدم التورط في استخدام أسلحة إستراتيجية.. الخ. بما يبين فشل الانقلاب الإستراتيجي البوشي على الثوابت الإستراتيجية الأمريكية. مما يجعلنا نتوقع تراجعات عن هذا الانقلاب.
4 - هشاشة المعارضة العراقية المتأمركة. مما جعل الأمريكيين يعيدون العراق إلى حكم العشائر والبعثيين المارقين. بما يشكل نكوصاً وتراجعاً عن وعود الديمقراطية الأمريكية. خاصة مع تعثر إجراء الانتخابات العراقية.
5 - إن فضائح فساد الشركات الأمريكية في العراق كانت سرقات كبيرة على حساب اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى. بما يعني أن هذه الدول لا تستطيع السكوت عن تفاقم هذا الضرر.
6 - الضعف الظاهر للاقتصاد الأمريكي وانعكاسه على اقتصاديات قائمة طويلة من الدول أصبحت متضررة من الاستمرار الأمريكي في العراق.
7 - رفض الأمم المتحدة المشاركة في حفظ الأمن في العراق.
8 - رفض دول الأطلسي مشاركة أمريكا في العراق بعد استبعادها وتجاهلها في بداية الحرب.
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية |