طبيعة الطفل لم تتغير قديما ولا حديثاً في كراهة دخوله المدرسة خلال أيامه أو أسابيعه الأولى.. لما كان يكتنف الدراسة من هيبة وخوف من المدرسة ومن الطلاب الذين لم يصاحبهم ولم يعرفهم من قبل..
فصاحب المدرسة الكُتابية عادة ما يستقبل الطالب الجديد بوجه مكفهر ونظرات حادة يريد بذلك فرض هيبته على الطالب منذ الوهلة الأولى.. بل ويفرض الخوف الشديد بعصاه التي تبلغ، أحياناً، أكثر من (3) أمتار.. وهي جريدة النخل مقشورة الخوص (يهش) بها على طلابه الذين تجمعهم صالة واحدة.. يكون للمتقدمين والكبار منهم دكاك خاصة مرتفعة.. وللصغار بطن المدرسة بترابها أو بحصبائها.. وهو على دكة عالية خاصة به.
كانت الكتاتيب على زمن الأجداد ثم الآباء.. وأدركنا طرفا منها.. مرعبة للصبيان.. ليس للخوف مما ذكرت آنفاً.. بل ولجدة هذا الجو الذي لم يألفه الصغار.. الذين كانت حياتهم بين أفراد معدودين هم الوالدان وبقية أفراد الأسرة.. أما هذا التجمع الدراسي الذي يتجاوز العشرات إلى ما بعدها، وبأعمار وأحجام متفاوتة للطلاب الذين من طبيعتهم التهارش والتهاوش.. والعصا لمن عصى؛ أما (الفلقة) فلجمع الرِّجْلَين وإنزال الضرب على صفحة القدم.
هذه للناظر تكُرّه الطلاب للمدرسة؛ ولصاحبها، وهم يريدون الفكاك من المدرسة بأي ثمن.. لكن ولي أمر الطالب يوصي المدرّس أول ساعة يدخله المدرسة قائلاً: (يا المطوع ترى لك اللحم ولنا العظم).. يقول هذه العبارة ويدُ ولدِه في يده، وقلبه يعتصر خوفاً من أن يستغلها المعلم أسوأ استغلال.. بزيادة القسوة على فلذة كبده.. لكن خلف العبارة تفاهم عقلاني بأن يرفق به مع الحرص الشديد على تعليمه جميع قدرات المعلم.
إلا أن الطالب الذي لم يوهب له شيء من الذكاء يعتبر كلام والده للمعلم بمثابة {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} وهذا من أشد عوامل العزوف والتنفير من المدرسة.. وتفضيل أي شغل مهما كان شاقا.. على الانخراط في الدراسة.. مع بساطتها.. في ذلك الحين.. حيث التركيز على تعليم القرآن الكريم.. مع مبادئ قليلة في الحساب والخط وغيرهما.
أما صاحبكم فقد منَّ الله عليه بتوافر الأسباب التي جعلته يقدم على دخول المدرسة أو الكتّاب دون وحشة أو رهبة.. ومن هذه الأسباب:
* أن الأهل كانوا أصحاب فلاحة.. نخل وزرع. ويقضون بياض يومهم في العمل بتلك الفلاحة (ويَشرَهُون) عليَّ أن أحضر لهم (الهَجُور) وهو عبارة عن تمر يوضع في إناء من خوص النخل يسمى (القُفّة) والغالب أن يكون الهجور ظهراً قبل الصلاة أو بعدها.. وفي هذا الوقت يكون (الهجور) مع (الهجير)! عذاباً لأقدام صغيرة..لا حذاء لها.. سوى الرمضاء الحارقة..! وهذا ما كرهني للفلاحة وأعمالها.. والهروب منها إلى ما هو أخف وأريح وأنفع وهي المدرسة.
* إن والدي، وهو أحد طلاب العلم على الشيخ العلامة عبد الله العنقري - رحمهما الله - له صحبة وقرابة بصاحب المدرسة, مما جعله يراعي شعور الوالد، ويرحب بولده بأسلوب الترغيب لا الترهيب.
* إن والدي سافر بعد إدخاله إياي المدرسة.. وقالت لي الوالدة - رحمها الله - إما (أن تَعْمل) في الدراسة.. وإلا خليناك تعاون إخوانك وتروح لهم بالهجور، وتعقبهم أيضا بسَوق السَّوَاني في المنحاة.. كانت ترغبني في الدراسة - رحمة الله عليها -.
* إني ائْتَلَفْتُ بسرعة مع طلاب المدرسة.. مما جعلني أحبها وأجتهد في التعلم حتى لا يصير الزملاء الذين هم في سنيّ وسنتي أجود مني.
هذه الأسباب كانت هي الإرهاصات الأولى لما حدث لي بعد ذلك، فلو أني كنت مثل بعض قرنائي؛ كارهاً المدرسة، وفارَّاً منها.. أو صابراً - على مضض - حتى ختم القرآن والاحتفال به.. ثم الاشتغال بما يشتغل به أهل ذلك الزمان، لما حصلت على شرف أن أكون (أول) من شدّ رحاله من (حرمة إلى الرياض) لطلب العلم.
قدمت إلى الرياض بصحبة والدي - رحمه الله - بنية الدراسة في بداية العقد السادس من القرن الرابع عشر الهجري.. ومكثنا هنا في الرياض أياماً تحت السؤال والجواب بين والدي وبعض معارفه.. وفي مقدمتهم الشيخ عبد الله ابن زاحم قاضي الرياض - رحمه الله - الذي تزامل معه الوالد عام 1352هـ والشيخ عثمان بن سليمان.. وهذه هي اللجنة الدعوية الإرشادية التي سافرت إلى حدود المملكة مع اليمن بتكليف من الملك عبد العزيز - رحمه الله -.
ولم يحبذ الشيخ ابن زاحم التحاقي بالدراسة على العلماء في الرياض ما دام الوالد سيعود إلى بلدته.. قائلاً له: (إن ابنك يا عبد العزيز صغير.. وأخشى عليه الضياع في هذه الفترة..) وقررنا العودة إلى الأهل والسكن..
* وفي السنة التالية قدم والدي إلى الرياض وأنا معه لتسلم شرهته، وبنية بقائي للدراسة.. وصادف في ذلك العام (61 أو 1362هـ) وقوع جدري شديد في البدو الذين قدموا لتسلم عوائدهم السنوية (الخرجية) وغصّت بطحاء الرياض بخيامهم التي شب فيها الجدري كالنار في الهشيم.. مما جعل الملك عبد العزيز يرحلهم إلى (بنبان) مخافة أن يتسع نطاق المرض إلى سكان العاصمة.. وكانت أكثرية البادية التي رحلت إلى بنبان هي قبيلة (حرب).
وقد عين الوالد - رحمه الله - إماماً ومرشداً لهم في مخيماتهم الجديدة هناك.. وذهبت معه إلى بنبان.. وأسكننا أمير حرب في بيت شعر مجاور لبيته ذي الأعمدة الستة.. وكلفني الوالد بالقراءة على الجماعة بعد صلاة العصر وبين العشاءين ثم أصبح يرسلني إلى الرياض لشراء بضائع مما تطلبه البادية.. وجعل رواقا من بيتنا بمثابة دكان يرتاده المشترون.. إلا أن هذه الحياة لم تعجبني.. وذات يوم وأنا في الرياض وجدت رجلين من الجماعة يريدان السفر إلى (حرمة) لقضاء عيد الأضحى مع أهلهم.. ووجدت أني مشتاق إلى والدتي وإخواني.... فطلبت السفر معهما ولو على جمل اشترياه من الرياض لهذا الغرض.. فطلبا أجرة قدرها (خمسة ريالات عربي) وهي من قيمة البضائع التي كان الوالد كلفني بإحضارها إلى بنبان. فوافقت ودفعت لهما الأجرة. وعلى بركة الله مشينا إلى ديرتنا. ولم أشعر والدي بذلك لعدم وجود وسيلة اتصال. والمؤجران مستعجلان بالسفر.. وأنا في منتهى الزهق من العيشة في البادية مع أن أمير قبيلة حرب واسمه الأول (عواض) قد أكرمنا ووضع لنا بيتا مستقلاً عن بيته لنأخذ فيه راحتنا من نوم وطعام وقهوة.
سافرت مع الأخوين الطيبين على الجمل الذي قطع بنا المسافة بين الرياض وحرمة في أربعة أيام بالتمام!
وللحديث صلة
|