كنت ولا أزال أحب الجمال على أية صورة وبأي شكل.. فهو على جزئيته انما يمثل معنى للكمال.. صورة رائعة يشرق برؤيتها التعبير ويصمت في موكبها اللسان.
ها أنا أسير في هذا الشارع الطويل.. الممتلئ بالناس..
رجالاً ونساءً والغاص بالمتاجر أضواءً وتفنناً والهدف واحد.. الجيب الممتلئ أما أمثالي فإن الفرجة ببلاش.. وإلا كان الحرمان وصل منتهاه.. الأضواء تبهرني .. أنا القادم من القرية البعيدة التي تعيش على فانوس صغير.. الذي ينطفئ عند العشاء وضوء القمر أحلى.. انه لا ينقطع وهو ملك لكل الناس.. حاولت ان اقف عند كل شيء. اقرأ اللافتات وانظر في قحة إلى كل شيء احدق هنا وهناك.. اشبه بمن يحاول التقاط أكبر قدر من هذه الصور التي لا اعرفها في قريتي الخضراء .. كل شيء في المدينة جميل ولكنه خادع.. تعبت رجلاي اصابت عيني تخمة النظر.. هناك في آخر الشارع.. جلست امام دكان بائع للأقمشة على صندوق خشبي وأخذت اتسلى بحبات (الفصفص).
التفت يمنة ويسرة.. لا أحد.. خلعت حذائي.. رفعته إلى جانبي فوق الصندوق وجلست متربعاً.. ورجعت إلى هناك أنا الطالب القروي.. والقادم إلى الرياض.. المدينة الكبيرة.. والمتسكع أياماً طويلة في المقاهي حتى أجد المسكن الذي يرأف قليلاً بالعزاب..تصورت أبي وأمي وقد ناما .. ولكن حمداً لله لقد خلصنا من تلقيم الثور في العطلة الفائتة.. الواجب الرسمي كل عصر.. وسماع شكاوى والدي التي لا تنتهي ونظرته التي لم يشأ أن يغيرها من أن المزارع أصابها البوار من ذلك اليوم الذي عرفت فيه الآلات الزراعية.. سامحك الله يا والدي ليست المزارع هي التي اصابها البوار.. انهم الناس الذين اصابتهم حمى العصر فقدوا معنى الصبر يريدون الربح السهل وغير المتعب .. ولكن من سيساعدك أتبيع الثور .. أيمكنك هذا وأنت تحبه كثيراً..
ربما أكثر مني.. ألم تقل مرة.. لم نر نفعاً الا من هذا الثور، اما أنت فلا زلنا ننتظر نهاية هذا العلم.. ستكون نهاية جيدة بإذن الله يا والدي.. وسأعود بعد سنوات أربع مدرساً.. يشتري لك ماكنة الماء.. والحراثة ونرتاح من الثور على الأقل من منافسته لنا على قلبك.
ما هذا النور الساطع.. سيارة فارهة.. طويلة وحلوة.. أطفأت الانوار.. ترجل منها رجل ودلف إلى باب عمارة مجاورة.. تفحصت داخل السيارة بنظرة.. على الضوء القادم من داخل المتاجر.. اليد الناعمة البيضاء والاصابع الطويلة.. تمسك مجلة.. عسى ان تنتهي من القراءة بسرعة.. هاهي قاربت على النهاية.. عطست مرتين.. يرحمك الله بل يرحمني فأنا هنا على أعصابي .. وضعت المجلة جانباً .. تمطت ووضعت ذراعها على المقعد الطويل.. يا سبحان الخالق المصور لم استطع ان اتحرك.. هاهي تنظر جهتي.. صغيرة وجميلة ولكن هذا الولد الذي في الخلف.. أيمكن أن يكون ابنها.. وهي بهذا السن.. لا.. لا يمكن، انها لا زالت فتية ربما يكون هو أخاها.. ولكن هذا الرجل الذي نزل من السيارة انه يكبرها بعشرين سنة على الاقل.. من غير المعقول ان يكون زوجها.. لماذا من غير المعقول.. النقود تأتي بالعنقاء.. هاهي ترفع يدها إلى شعرها.. ربما تكون اشارة لي.. هل ارد عليها.. لا.. اتركها.. ان حاولت مرة أخرى.. أثبت لها بأنك تدوخ قبيلة بأسرها.. مرت دقائق وضعت يدها على خدها.. قلت لك (البنت شبكت) ربما تناديك.. تتعرف بها.. تخبرك اين منزلها.
أنا المعني بالنداء.. لا أحد.. النداء يتكرر.. اقتربت منها.. العطر ينقلني إلى مكان آخر.. لقد سمعت أن هناك من يستعمل العطر لمرة واحدة.. يسكبه على جسمه .. دنيا عجيبة وفي بعض الاماكن يظل الناس أسابيع بدون اغتسال قالت في همس وهي تعطيني الريال.. لو سمحت ثلاث صحف لهذا اليوم.. نسيت أنني أسير حافياً.. العادة سعادة.. استبدلت ريالها المعطر بريالي الذي ضاق صحبتي.
عدت إلى صندوقي. لأجد أن حذائي انتقل إلى قدم تحسن استعماله، وعدت إلى الصندوق.. الصحف تغطي الوجه الفاتن.. عنوان أحمر كبير.. طبيب مشهور يستبدل قلب مريض بقلب جديد.. معقول.. يغيرون ما صنع الله.. ما أكذب هؤلاء.أغلق باب السيارة.. بدأت تسير ثم توقفت.. المرأة تشير إلى .. الرجل يقول بصوت عالٍ.. تعال.. تعال يا أستاذ .. أستاذ وكيف عرفت انني سوف اصبح استاذاً.. الحمد لله لقد بدأ الحلم يتحقق.. قلت له نعم ما الذي تريد قال: الجماعة هنا يراقبونك من مدة وأنت لوحدك وسارح فقلنا يمكن أنك تحب..
أحب.. أحب ماذا؟.
قال.. يعني بصراحة يمكن تحب تشتغل عندنا صبي.. ايش رأيك؟ استدرت.. صبي.. أنا صبي .. امتلأت بالغيظ..
ماذا خدعها بي لأنني ألبس هذا الثوب الاسود الثقيل في عز الصيف.. كلها أيام واستلم الراتب وألبس احسن من أبيها.. تركت السيارة بقايا من غبار مثار.. والتفت في حنق أخرجت الريال.. رفعته إلى أنفي .. صبي؟!
وفجأة مزقته.. وعدت ابتلع الفصفص.
محمد علوان |