كنت في الرياض أرقب بزوغ شمس يوم السبت وسط أطياف من المشاعر المتضاربة ، بين خوف ورجاء وقلق وطمأنينة ، وشك ويقين ، توجهت بدءاً إلى معهد الإدارة ، حيث التقيت لأول مرة بمديره القدير ، معالي الأستاذ فهد الدغيثر ، الذي رحب بي ترحيباً جميلاً. ثم شرحت لمعاليه الأمر الطارئ الذي عكر عليّ صفو الحلم بالعمل في المعهد ، وقد كرر ترحيبه بي زميلاً في المعهد ، لكنه نصحني أن أسعى ل(فك) الاشتباك مع وظيفة وزارة الزراعة ، قبل الالتحاق بالمعهد.
**
خرجت من مكتب معالي مدير معهد الإدارة أحث الخطا إلى مكتب معالي الأستاذ حسن المشاري وزير (الزراعة والمياه) ، ولم أواجه صعوبة تذكر في الدخول إلى مكتب معاليه ، الذي رحب بي أحسن ترحيب ، وهنأني بالتخرج من الجامعة ، فشكرت لمعاليه ثقته الكريمة وظنه الجميل بي ، ثم شرحت له في سياق طويل (هواجسي) الوظيفية التي حملتني على العودة إلى المملكة قبل أن أكمل مرحلة (الماجستير) ، وطموحي في إكمال مشواري الأكاديمي ، وقد رد علي معاليه بنبرة الأب وحصافة الحكيم قائلاً : إن ما أراده لي يصب في مصلحتي ، وأن الابتعاث للدراسة العليا ليس أولوية آنية ، لكنه أمر مقدور عليه.
* لم يفلح لقائي مع معالي الشيخ حسن المشاري أمد الله في عمره في (تليين) موقفه من تعييني في الوزارة ، فقد كان معاليه صريحاً وحازماً في التعبير عن رغبته في مباشرتي العمل في وزارته ، وبذلت بدوري جهداً مضنياً لإقناع معاليه أنه بالرغم من تقديري الجم لثقته ، إلا أن لي رؤية أخرى حول العمل في المملكة قبل استئناف الدراسة العليا لاحقاً في أمريكا ، مشيراً إلى أن الجمع بين الطموحين أمر قد يتعذر تحقيقه لو التحقت بالعمل بوزارة الزراعة والمياه ، وأن معهد الإدارة العامة هو (المكان المناسب) لبلوغ ما أريد!
**
* غادرت مكتب معالي (وزير الزراعة والمياه) بعد ظهر ذلك اليوم وأنا منقسم الذهن ، مضطرب الخاطر ، فلا أنا مقتنع بالعمل في الوزارة ، تحقيقاً لرغبة معالي الوزير ، ولا هو مقتنع بحجتي في اصطفاء معهد الإدارة ، عدت إلى المنزل وأنا أفكر في الخطوة التالية. ولاح في ذهني ساعتئذ هاجس الاستعانة (بوساطة) بعض الأصدقاء ، كي يشفعوا لي لدى معالي الوزير الشيخ حسن المشاري عسى أن يخلي سبيلي لمعهد الإدارة ، ولم يبخل أي ممن قصدتهم عبر الأيام التالية بالشفاعة لدى معاليه ، لكن شفاعتهم لم تزده إلا إصراراً على موقفه ، وازددت أنا بذلك الإصرار حرجاً مع نفسي ومع الآخرين.
**
* ثم حاك في نفسي بعد فشل شفاعة الشافعين أن أذعن لرغبة معالي الوزير.. لا اقتناعاً مني بالعرض ، بل مجاملة له ، بعد أن (أخجلني) هو بتقديره وإصراره ، لكنني تراجعت عن رفع (الراية البيضاء) استسلاماً ، وتدافعت الأفكار والرؤى داخل نفسي ، مقبلة ومدبرة ، وأنا لا أكاد أعي حلاً لتلك المعضلة الإدارية والإنسانية التي وجدت نفسي داخل شباكها بلا إرادة مني ولا رأي!
**
* من جهة أخرى ، كانت هناك فكرة لم تعضلني الحيرة في التعرف عليها وسط الرؤى المتشابكة داخل أسوار نفسي .. كانت تلك الفكرة تنهاني بشدة أن أجامل أو أراهن أو أداهن حول أمر يتعلق ب(هوية) القادم من أيامي.
صحيح أن لا علم لي بما يخبئه الغد لي ، ولا إلهام يمنحني التمييز بين ما هو صالح لي.. فأسعى إليه قبولاً ، أو طالح ، فانصرف عنه ، وترددتْ في أعماقي أصداء القول الرباني العظيم { فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (19) سورة النساء ، ومضت أيام وتلتها أسابيع وأنا (أراوح) مكاني حائراً بلا حل ، وكان لا بد أن يصل بي مشوار اللهث النفسي إلى نهاية ما!
**
* وذات ليل ، كان الهدوء سيد المكان ، وشعرت بالحاجة الملحة إلى (هدنة) استعيد معها قدراً من التوازن مع نفسي ، فقررت أن أخلد إلى النوم ، فإذا كان الغد ، فكرت في مسار جديد! ثم أصحو مبكراً صباح اليوم التالي .. وقد اجتاحت نفسي موجة من الأمل والتفاؤل بسبب (فكرة جديدة) لم أتردد في تبنيها ، لعل فيها الخلاص مما أعانيه! وللحديث صلة
|