(الرحلات البرية) .. نوع خاص من الرحلات والأسفار.. بعيداً عن ضوضاء المدن وصخب الحياة.. يشاهد الإنسان فيها الطبيعة كما خلقها الله سبحانه وتعالى.. يشاهد الجبال والوديان والرمال والأمطار والأشجار والزهور والحيوانات البرية.. وإذا كان فصل الربيع شاهد الرحَّالة ما يسعد نفسه ويبهج عينه من أنواع النباتات البرية؛ حيث البساط الأخضر الموشَّى بأنواع الزهور المتعددة الألوان.. إن الرحلات البرية تكسب الإنسان رياضة بدنية وعقلية وتعوده على الصبر والتحمل وحسن التصرف ومعرفة الأماكن بتحليل دقيق.. ولقد جاب الرحالة الغربيون بلادنا قبل سنين طويلة .. هؤلاء الغربيون الذين عاشوا في صقيع أوروبا وأمطار وضباب لندن قاموا برحلات عديدة في صحارينا وقفارنا، وجابوا بلادنا طولاً وعرضاً وسجلوا لهذه الرحلات وثائق وكتباً صارت اليوم مرجعاً مهماً عن هذه الصحاري لاستقاء المعلومات عنها ولم يقم بالدور الذي قاموا به أحد من أبناء البلاد.. وقد يكون ذلك عائداً إلى أن ابناء البلاد كانوا في السابق يلهثون وراء لقمة العيش ولم يتعلم منهم أحد .. وفي الحاضر فقد تعودوا على الرفاهية وحياة المدينة وتحضير رسائل الدكتوراه أو الماجستير عن بلادنا في عواصم الغرب..
من أشهر (الرحالة) الذين جابوا بلادنا هاري سانت جون فلبي المعروف ب(عبد الله فلبي) وهو بريطاني عاش في جزيرة العرب أبان حروب التوحيد على يد المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود وكان من جلسائه وقد قام بعدة رحلات داخلية في قلب الجزيرة العربية وفي شمالها وجنوبها، ومن أشهر رحلاته رحلة إلى (الربع الخالي).. هذه الرمال ذات السحر الغامض.. هذه البحار من الرمال التي استعصت على الباحثين، ولكن على الرغم من الأخطاء التاريخية والاجتماعية والجغرافية في كثير من هذه الرحلات حيث ترد الأسماء بشكل خاطىء فإن لقراءتها متعة فريدة، فهؤلاء الرحالة يصفون ما يرونه في هذه الصحارى كما نصف نحن ما يمكن ان نراه في القطب المتجمد الشمالي.. والذي هو شيء طبيعي عند ساكنيه يصف الرحالة حركة الرمال والعواصف ونزول المطر والشجيرات وعادات البدو فهو سجل حافل للرحلة كالتعلم أو الصور الملونة في زماننا هذا.
هذا الكتاب (الربع الخالي) ألَّفه فلبي ضمن مجموعة من الكتب التي تحكي فترة من فترات تاريخ الجزيرة العربية مثل (مغامرات النفط العربي) و(في قلب نجد) و(حاج في الجزيرة العربية).. وغيرها من الكتب التي تعتبر سجلاً حافلاً بالمعلومات وأسماء الأماكن التي يجب مراجعتها وتصحيحها..
قد يقول البعض: ولماذا تأخذ هذه الأسماء من اشخاص أجانب ؟، نقول: وما العيب في ذلك ما دامت صحيحة.. لقد ألف فلبي كتابه هذا في وقت كان كل سكان الجزيرة العربية يعيشون في فترة خوف وجوع.. ومعظمهم بادية لا يعرفون القراءة والكتابة.. فسجَّل شخص أجنبي جغرافيتهم وتاريخهم ومعيشتهم.. يقول فلبي عن الربع الخالي (لم يساورني شك في ان العرب يستخدمون بصفة لماحة مصطلح الربع الخالي) للإشارة إلى تلك البراري الفسيحة والغامضة والمجهولة التي تمتد بين يبيرين وحضرموت وبين نجران وعمان. ويقول (عندما ذهبت إلى وادي الدواسر عام 1337هـ ملتفاً حول الطرف الشمالي للربع الخالي كنت كثيراً ما أناقش محتواه وخصائصه، وكان رفاقي وبينهم ممثل معروف من بني مسرة، يستخدمون مصطلح (الربع الخالي) دون قيود وبطريقة تدل على الذكاء وقد استخدم الملك ووزراؤه نفس المصطلح أثناء الاعداد لحملتي هذه، كما استخدمه ابن جلوي).
والربع الخالي في الأزمان الغابرة كانت مروجاً وانهاراً . وقد اثبتت الدراسات الحديثة الصور التي التقطت بالأقمار الصناعية ان تحت كثبان الرمال وبحارها في الربع الخالي بحار متلاطمة من المياه كما قال ذلك الدكتور فاروق الباز.
وفي رأيي انه يجب إثبات ذلك من خلال دراسات هيدرولوجية تقوم بها وزارة المياه.. كما ان الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وانمائها يجب ان تستفيد من دراسات فلبي وتسجيلاته وملاحظاته في هذه الرمال حيث انه يسجل كل ما يراه وما يلاحظه من حيوانات بحرية ومنها غزال الأدمى والمها، وكذلك الزواحف والحشرات.. إن رحلة فلبي عبر الربع الخالي تعتبر سجلاً للحياة الفطرية في هذا الموقع. يقول فلبي: (وكان الحدث الوحيد خلال هذه الرحلة هو رؤية حباري اطلق عليها الرصاص ولكن لم يصبها، كما جمعت بعض الصور وحلقت بعض الفراشات حول الضوء في المساء).
وعند استنتاج فلبي أن هناك نهراً قديماً في الربع الخالي قال في رحلته (وعند عودته يقصد رفيقه في الرحلة) هبطنا منحدراً هيناًفي طريقنا إلى سهل (شقة الخلفان) الحصبائي بينما تلكأ رفاقنا كالعادة في الخلف وفجأة أبصرت شيئاً أبيض على الأرض، وقبل ان أدرك كنهه، كنا نسير فوق كتل منه قلت لصالح انظر.. كتل بحرية عليَّ أن اترجل.. ترجل صالح في لمح البصر وحملق على مجموعة من القواقع ذات الصدفتين وهو يؤدي حركات مفعمة بالحيوية ولساعتين بقينا أنا ورفاقي وأعيننا مثبتة على البقع بينما واصلت قافلة الأمتعة سيرها وكان ذلك أهم وأكثر اكتشافات الرحلة اثارة.. وبكل بساطة كان المكان يعج بالقواقع ومن بينها جمعنا مجموعة متنوعة من الأدوات الصوانية القديمة الرائعة الشكل. ثم يقول (وبقي عامل واحد وهام كان لابد من تحديده : هل القواقع من أصل بحري أو ماء عذب؟! لم تكن لي وسيلة لتحديد ذلك والوصول إلى قرار بشأنه وكان علي الانتظار إلى حيث العودة إلى انجلترا قبل الاجابة عن ذلك السؤال. وفي غضون ذلك سجلت فكرتي ويحدوني الأمل في أن تكون صائبة، وعلى قوة ذلك الأمل قمت برسم خطوط متقطعة على أوراق رسم الخرائط لأربط تواقع شقة الخلفات مع نظام النهر العظيم الذي كان يعبر الصحراء من الافلاج.. وقد بدا لي ان وادي المقرن، وهو أكبر المجاري الغربية حسب معرفتي، هو أقرب وأنسب الأسماء التي يمكن تبنيها لهذا النظام النهري وقد هلل رفاقي وصفقوا لذلك الخيال الجامح الذي ربط 250 ميلاً من الصحراء العظيمة مع نظام نهري، وجمعنا أكبر عدد ممكن من القواقع ذات الصدفتين وفي الوقت المناسب شخص الخبراء في المتحف البريطاني بأنها قواقع مياه عذبة.
وفي أحد الفصول من رحلته الطويلة عبر (الربع الخالي) يقول (واصلنا المسير عبر الصحراء وكانت قُبَّرة تغرد حولنا، ثم مشت جانباً تطلب الحماية بعيداً منا، كما ظهرت فراشة مرة أخرى ونحن نمر من المنطقة الرملية لرمال القعاميات المتموجة والتي تشكل فيها كتل كثبان القعاميات الأصلية حائطاً جبلياً عبر الأفق الجنوبي وكانت قممها الكبيرة وكأنها ترتفع إلى حوالي 500 قدم فوق سطح الصحراء العام ووسط هذه القمم تقع الملاجئ الخفية للوضيمي، وهو حيوان حذر وجبان يسافر بعيداً عبر السهوب والصحراء بحثاً عن طعامه).
هذه هي رحلة (فلبي) عبر الربع الخالي وهذه الرحلة تعتبر سجلاً للحياة البرية والغطاء النباتي.. وللمعالم الجغرافية.. هذه الصحراء الغامضة التي يجب ان نعيد اكتشافها .. وتستثمر ثرواتها..
|